محمد حامدي - يوميات " كورونـــــــا"

ه-1-ه

لم يكن يخطر بباله أبدا أنه سيأتي عليه حين من الزمان يضطر فيه لمتابعة كل برامج التلفزيون خاصة بعدما تفشت الجائحة في بلاد العجم. جاءته الأخبار المتنوعة والمتسارعة بكل ما يحدث من إصابات ووفيات، فدعا الله أن يجنب بلاده هذا الداء، وألا يصاب شعبه الذي يعشق التقبيل والمصافحة، شعبه الذي لا يحلو له العيش إلا في الزحمة ومشاركة الأهل في غرفة واحدة، وصحن واحد، وآنية واحدة.. تساءل بمرارة عما سيحدث إذا ما قدر الله أن تقتحم الجائحة بلاده خاصة بعد هروب بعض المغتربين في الديار الأوربية نحو أهليهم. دخلت عليه زوجته مخبرة أياه أن المصالح الطبية قد سجلت أول حالة إصابة، وقد تكون هناك إصابات أخرى يعلن عنها عما قريب.. مسك برأسه، وشرع في طلب اللطيف، والدعاء بالسلامة والعافية.. نام ليلته على غير العادة حيث زادت وساويسه، ورمت به الحيرة في دهاليز التوقعات المخيفة حتى كاد يفقد شجاعته وصبره وإيمانه بالقدر.. قرر أن يذهب إلى المقهى ليطلع على جديد الأخبار من رفاقه المدمنين على المكوث في المقهى لساعات طويلة، إلا أنه فوجئ بإغلاق جميع المقاهي وأماكن التجمعات مما جعله يتأكد أكثر أن الجائحة أصبحت تتربص بالبلاد والله وحده العالم بما سيحدث. عاد إلى منزله والحزن ينخر ما تبقى من قواه فأصبح ملازما لجهاز التليفزيون لتقصي كل جديد.. تجول بين القنوات باحثا عن خبر يريحه مما هو فيه، لكن الصدمة كانت ثقيلة عليه حينما تابع البلاغ الرسمي الذي أمر بمكوث جميع المواطنين في منازلهم، وعدم الخروج إلا للضرورة مع الإدلاء بترخيص يبرر سبب الخروج. حثته زوجته على الإسراع في طلب الترخيص من مقدم الحي حتى يتمكن من الخروج لشراء حاجيات الأسرة من أكل ومواد التطهير والنظافة..
لم يعد يطيق المكوث في المنزل فقد مر أسبوع عد أيامه ودقائقه وثوانيه بين الصالة والمرحاض والمطبخ والسطح أحيانا كثيرة ليغتنم فرصة التدخين بعيدا عن أطفاله الذين رفعوا من فاتورة الماء حيث يقومون بغسل أيديهم كل عشرين دقيقة حسب ما أمرت به المصالح الصحية المختصة. بالإضافة إلى ارتفاع فاتورة الكهرباء جراء الاستعمال المستمر للتليفزيون والهواتف النقالة التي يتابع عبرها أبناؤه التعليم عن بعد.. هذا البعد الذي تعددت مظاهره؛ البعد عن الأصدقاء والأهل، والبعد عن الاخبار؛ والبعد عن الحياة الطبيعية.. فإلى متى سيظل هذا البعد والابتعاد؟؟؟..

ه----ه

ه-2-ه

دخل الحجر الصحي أسبوعه الثالث، وأصبح بوعزة قطعة من أثاث المنزل بعد أن حول الصالون إلى مسجد حيث ظلت سجادته مفروشة منذ بداية الحجر. كما جعل من السطح مقهى ينشر فيه رجليه في عين الشمس ويدخن بكامل النشوة، ويتواصل مع مقربيه عبر الانترنيت ليجدد العهد على " تقرقيب الناب" كما عادته. أصبح البهو بالنسبة إليه منتزها صغيرا يتجول فيه بين الفينة والأخرى رغم ما يتعرض له من زجر زوجته التي تنبهه دائما إلى ما يخرقه من تنظيم داخلي إذ يرغمها تجوله دائما على إعادة تنظيف ما تتركه قدماه من تبرقعات لا تزال إلا بالماء المخلوط بجافيل.. التصق جسده الرخو بالمرتبة المهترئة التي صار لا يغادرها إلا للأكل، أو قضاء الحاجة، أو إذا طلبت منه زوجته مساعدة ما.. قرر أن يخوض تجربة المطبخ لأول مرة منذ زواجه، ويجعلها مفاجأة لزوجته وأبنائه إلا أنه فشل بامتياز، فاختارت له زوجته مهمة يتكلف بها طيلة الأيام المتبقية من الحجر المنزلي. أصبح يتقن غسل الأواني، ونشر الغسيل على مشاجب سطح المنزل مادامت زوجته لا تستطيع الصعود عبر الدرج اللولبي الضيق فهي حبلى في شهرها التاسع، ويتمنى أن يأتيها المخاض في أقرب الأيام حتى تكون العقيقة عليه بردا وسلاما، ولن يلومه أحد من أصدقائه وجيرانه على عدم الدعوة لأن الجائحة فرضت ذلك. دخل في العد العكسي مستعجلا مرور الأيام والدقائق المتبقية من الحجر، منتظرا الإفراج منه بفارغ الصبر، وهو ينوي أن يعوض كل تلك الأيام التي حرم منها من المقهى، وأن يثرثر أكثر مما تعود عليه مع أصدقائه الذين اشتاق لمصافحتهم والحديث المباشر إليهم.. لم يتبق إلا يوم واحد ويعلن الإفراج الجماعي ويخرج الناس زرافات زرافات ويعود هو إلى نشاطه الطبيعي.. جلس وكله فرح وسعادة أمام التلفاز ليتابع بلاغ الإفراج إلا أنه أصيب بالذهول أمام إعلان رؤية هلال الحجر الثاني...

ه----ه

ه-3-ه

شعر أن الأيام تزحف ببطء، وتتلكأ عن سيرها الطبيعي، وعقارب الساعة بالكاد تنط متكاسلة.. لم يعر أي موقف من حذف تلك الساعة الرمضانية كما جرت العادة. أحس بقساوة الجدران والأثاث المكوم حوله، وتغير طعم كل شيء. وحتى نظرة زوجته إليه وهي تطلب منه في كل حين بأن يفسح المجال لتنظيف الصالون لم يعد لها طعم تلك الأوامر التي كانت تصدرها في الأيام الأولى من الحجر. طلق أمله بالثلاث بعد أن تناسلت الأخبار عن الجائحة وتزايدت وتشعبت ولم تحمل فرجا ظل ينشده طيلة شهر الحجر الأول. ها هو الشهر الفضيل على الأبواب، فلا حركة في الشوارع، ولا زحمة في المحطات الطرقية، ولا ضجة في الأسواق الشعبية مما ينذر بأنه سينضاف بكل تأكيد إلى جموع الشياطين المصفدين.. استغفر الله، وعاذ به من الشيطان الرجيم، ثم لجم بإحكام زائد وجهه بكمامة، ولف رأسه بعمامة، وهم بالخروج لشراء عدة رمضان. ذكرته زوجته للمرة الثالثة أن يقتني توابل غير مطحونة لأنها تحب أن تشرف على سحقها بنفسها فهي تعرف جيدا تدليس العطارين وتحايلهم. حاول أن يقنعها بأنه يعرف عطارا نزيها سيزوده بتوابل مسحوقة سليمة المائة بالمائة إلا أنها أصرت على طلبها مما جعله يستسلم ويفوض أمره لله بعد أن أدرك أن تنقية التوابل من الشوائب ستكون من مهامه لا محالة. وأن زوجته ستتعلل بانشغالها في صنع حلويات رمضان من "شباكية" و"سلو" الذي لا يستسيغ مذاقه أصلا. ركن دراجته بمحاذاة علامة طرقية، ثم كلبش عجلتها الخلفية، وتقدم نحو محل بيع التوابل، فشاهد طوابير من الناس المكممين وكل واحد منهم يتخذ لنفسه مسافة معينة تجنبا للعدوى. فوجئ بسماع اسمه مع التحية عن بعد من أحد أصدقائه، فشعر بيده اليمنى تنسل منه لتصافح صديقه، حاول قمع حركتها بإدخالها في جيب سرواله حتى يطمئن ويرتاح. كان بوده أن يقترب من صديقه، ويتجاذب الحديث معه كما كان يحصل في زمن المقهى لكن المراقبة الصارمة من أعوان السلطة كبتت رغبته ولم يخرج منها إلا زفرة تأفف كادت تفتِّق كمامته.. قضى في السوق قرابة أربع ساعات لا لشيء إلا لإشباع رغبته في الانتقام من الحجر وهو يعلم جيدا أن زوجته ستحاسبه على هذا التأخر عن موعد الغذاء الذي حددته لجميع أفراد الأسرة منذ ثاني يوم في الحجر ما دام ليس هناك دراسة ولا عمل. تعمد أن يتأخر أكثر وليكن ما يكون فهو مشتاق إلى فوضى المواعد ما قبل الحجر...

ه----ه

ه-4-ه

تلوثت حاسة الشم لديه تماما، بعد أن خرمت المطهرات والأبخرة خيشومه، ولم يعد يشم طيلة يومين كاملين إلا خلطة من روائح التوابل والدقيق المحمص المتماهية مع روائح المطهرات والشيح والجُلْجُلان، ومع كل عطسة يحمد الله، ولا يتلقى تشميتا، فيصاب بالوسواس، ثم يتحسس جبهته ليطمئن على حرارته حتى لا يتلقى شماتة لا قدر الله... في الحقيقة لم يشعر بأي تأثير حجري في أول يوم من رمضان على الأقل طيلة النهار فهو قد اعتاد في كل الرمضانات السابقة أن يظل بالمنزل إلى حدود العصر حيث يخرج نحو السوق ليتسابق مع الآخرين على اقتناء كل ما تشتهيه البطن الصائمة متجولا بين جنبات الطرقات والشوارع المكتظة بباعة يتناسلون كل عام ما بين نهاية شعبان وبداية رمضان. سمع أذان العصر، فأقام الصلاة في المكان نفسه الذي ما برحه منذ أن ألزمته زوجته به مع مطلع الحجر الثاني. صلى على مهل مسترسلا في السور الطوال على غير العادة حتى يقتص من الحجر بعض الدقائق، ثم توكل على الله، وخرج لجلب كل ما طلبته زوجته. لاحظ غياب أولئك الباعة الموسميين وقد غابت معهم روائح الكرفس والكسبرة والنعناع وخبز "المطلوع" الذي كان يعطي فسيفساء خاصة لأرصفة الشوارع المتأوهة تحت أقدام المارة والباعة والمشترين. أدرك بكل مرارة أن الحجر أدخل الناس في بيات رمضاني مطلق نهارا وليلا لا محالة.. رجع إلى منزله وهو يشكو من إزعاج الكمامة لفمه المتعود على الثرثرة. هذه الكمامة التي لم تتح له حتى فرصة التفاوض مع التجار حول الأثمنة حيث أدى المطلوب دون أن ينبس ببنت كمامة. أوقفته زوجته عند باب المنزل وعقمته من رأسه إلى قدميه، وطلبت منه أن يترك حذاءه خارج المنزل تحسبا لأية عدوى قد تؤذي بافراد الأسرة كلها.. حاول أن يثنيها على هذا الأمر لكنها أقنعته أن اللصوص قد صفدوا مع الشياطين منذ الحجر الأول.. أذن المؤذن لصلاة المغرب معلنا عن نهاية يوم حجري رمضاني لم يكن إلا بداية لمشوار ثقيل جدا جدا قد يشبه مشوار أهل الكهف...

ه----ه

ه-5-ه

تكلست كفاه بفرط استعمال الصابون، وانسلخت قدماه من كثرة التعقيم مع كل عودة من السوق إلى المنزل. ولولا تلك الأفواه المنتظرة لما ستطحنه عند كل فطور وسحور لمكث نهائيا في المنزل، وأراح قدميه من هذه الجمركة القاسية التي تمارسها عليه زوجته كل يوم، ولكن لا بأس مادام هذا الخروج المشروط هو في الوقت نفسه فرصة مشروعة لتغيير الروتين، وتجديد الصبر لمواجهة ضغوط ليالي الحجر في المنزل بعد أن كانت ليالي أنس في المقهى. كان بوده أن تفطر أمه معهم في ثاني يوم من رمضان كما الأعوام السابقة لكن الحجر العام لا يسمح بذلك مطلقا، وعلى كل أسرة أن تتكفل لوحدها بتمرها وشباكيتها وشايها، وأن تهتم فقط بحريرتها، وتلزم حُجَرَها حتى تتحرر الرقاب من هذا الحجْر.. شكر الله على نعمة "الواطساب" الذي سخره المحجورون في صلة الرحم. وحمد الله أكثر حينما أخبره ابنه عن إمكانية التواصل مع جدته عن طريق استعمال كاميرا الهاتف مادامت لا تعرف القراءة والكتابة. ضغط على أيقونة كاميرا الواطساب فرأى نفسه على شاشة الهاتف محاطا بكل أفراد أسرته، مع سماع رنة ملحة في الطلب. تعجب مما يحدث أمامه وهو ينتظر رؤية وجه أمه على هاتفه. انقطع الرنين، وقفزت صورته إلى أعلى يسار الشاشة لتفسح المجال لوجه أمه الذي لم يره منذ يومين قبل الحجر الأول. مد عنقه في اتجاه الشاشة ليقبل رأس أمه لكن ابنه نصحه بألا يفعل فقد يكون الفيروس عالقا بالشاشة وإذا ما قبلها بشفتيه فسيصاب لا محالة، وبعدها ستقاد الأسرة كلها إلى إجراء تحاليل، وقد يستدعى كل من خالطهم من الأصدقاء والجيران. اكتفى بالتلويح إلى أمه بيده سائلا عن أحوالها وأحوال أخيه الأصغر الذي يتكفل برعايتها.. طال الحديث بينهما حول الأحوال العامة والخاصة بتفاصيل مملة، واستفسارات متكررة.. كان بوده أن يشكو لها مما يعانيه من الحجر العام والحجر "الزوجوي" لكن وجود زوجته بالقرب منه قمع شكواه، والسبب نفسه منع أمه من نصحه وتحريضه على عدم مساعدة زوجته في شؤون البيت مهما كانت المبررات، فاكتفت بالدعاء له أن يرضى الله عنه، وأن يكون رجلا في هذه الظروف التي فرضتها الجائحة على الجميع.. صعد إلى سطح المنزل حيث يفضل أن يستمتع بفنجان القهوة لوحده بعيدا عن ضجيج المطبخ، وفي الوقت نفسه يفسح المجال لزوجته لمتابعة مسلسلها التليفزيوني.. سمع أذان العشاء، فأطل برأسه إلى فضاء الزقاق الحزين الذي خلا من كل حركة إلا من بعض القطط التي أصبحت تلعب وتمرح بالقرب من أكياس القمامة مادام لا يوجد بشر يقلقها، أو يزجر عبثها بتلك الأكياس. بدت له صومعة المسجد من بعيد كمنارة ميناء مهجور لا تأتيه سفن ولا قوارب..

ه----ه

ه -6-ه
مرت أربعون يوما بالتمام والكمال من مدة الحجر، قضى ساعاتها ودقائقها وثوانيها متشوقا إلى تلك الجلسات الحميمية في المقهى، وزيارات الأصدقاء والأقارب، وحضور الأنشطة الرمضانية الدينية والفنية.. أربعون يوما تجول فيها منزله مترا مترا، واستهلك فيها لترات معدودة من المطهرات، وأمتارا من السجائر، وكثيرا من الزفرات والتأففات.. أربعون يوما شبعت فيها أذناه ما يكفي من زجر ونصائح وصراخ زوجته التي اغتنمت الفرصة لتوريه أنواع الهم والعذاب في عز الحجر.. اليوم يحق له أن يحيي ذكرى أربعينية المقهى المصادفة لعيد ميلاد طفلته ذات الثلاث سنوات وليذهب الحجر إلى الجحيم. هيأ منذ الظهر كل ما يليق بهاته المناسبة والتي سيحضرها لأول مرة إذ اعتاد قبل زمن الكورونا أن يشتري لطفلته كل ما تتطلبه مناسبات أعياد ميلاد الاطفال من حلويات ومشروبات وبالونات وإكسسوارات تزيينية للصالون، ويلتحق هو بالمقهى بعيدا عن ضجيج وصراخ الاطفال وشغبهم وشقاوتهم... أعلن المؤذن عن مغرب اليوم الثالث من رمضان الموافق لليوم الأربعين من الحجر، فتناول فطوره على عجل، ثم ألقى نظرة أخيرة على ما هيأه في الصالون منذ الظهر.. غاب قليلا فوق سطح المنزل، وعاد ليطلب من جميع أفراد الأسرة الالتحاق به في الصالون.. أدخلت زوجته طفلتهما بعد أن ألبستها لباسا يليق بالمناسبة دون أن تغير هي ملابسها مادام الحضور مقتصرا فقط على أفراد الأسرة.. غرز ثلاث شمعات صغيرة وسط كعكة الميلاد، وأشعلها بحذر، وطلب من طفلته أن تقوم بإطفائها تحت نغمات التبريك بعيد الميلاد، وعبارات التمني بالهناء وطول العمر... أطلق العنان لموسيقى ترجف الأبدان المحجورة، وتحرك الأقدام المشلولة ، وتقهر صمت الحجر المنزلي.. تحول الصالون إلى ملهى ليلي خاص بالأسرة وحدها أفرغ فيه كل ما ظل مكبوتا في نفسه، وأعرب عن زمن شبابه برقصة جنونية نكالا بالحجر... لم يتبق عن موعد الإمساك، وطلوع الفجر إلا ساعة كان يراها كافية لتهيئ زوجته سحورا خفيفا، وليسدد هو ما فاته من صلاة التراويح.. كانت زوجته تعلم جيدا حالة الغم واليأس التي خيمت على أفراد الأسرة طيلة الأربعين يوما التي مرت من الحجرين لذلك لم تبد أي اعتراض على ما قام به زوجها، بل حاولت أن تساعده على تنفيذ كل ما كان يجول في خاطره.. أدرك جيدا أن تسامح زوجته واستسلامها بهذا الشكل الغريب ما هو إلا استراحة محارب، فإن كانت خسرت معركة هذه الليلة فهي لم تخسر الحجر بعد....

ه----ه

ه-7-ه

تمنى ببالغ الشغف أن يقطع دابر الجائحة إلى الأبد، وتنتهي أيام الحجر العجاف، وتأتي بعدها أيام تنْسُلُ فيها الكمامات عن الوجوه، وتنسلخ الناس عن الجحور.. أصبح يتابع كل جديد عن حالات الإصابة بالفيروس بالبلد، وكلما لاحظ ارتفاع عدد المصابين زَمَّ شفتيه زَمّاً، وصرف آهاته الحارة عبر جيوب أنفه، وكله تخوف من الدخول في أشهر الحجر الحرم الأربعة التي سيحرم فيها الخروج نهائيا وربما سيمنع حتى التبضع كما يروج بين البعض الذين يعشقون استباق الأحداث وطليها بالسواد واليأس.. مسح حبل الغسيل بعناية فائقة تماما كما أوصته زوجته، ثم شرع في نشر الغسيل وهو يتساءل بحيرة عن جدوى تنظيف الملابس في مثل هذه الظروف مادام الكل ملازما لمنزله، ولا يحتاج إلا إلى منامة أو جلباب خفيف أو إلى سترة رياضية يتجول بها في أرجاء المنزل.. استنكر ما تقوم به زوجته من تبذير للماء والصابون، وفكر في مفاتحتها في الموضوع، وعقد اجتماع طارئ لجدولة ميزانية البيت حسب ما تتطلبه ظروف الحجر ومتطلبات رمضان لكنه عدل عن الفكرة تماما تحسبا لرد فعل زوجته الذي تقوم به، وتكرره على مسامعه كلما لاحظ، أو سأل، أو اقترح شيئا ما إذ أصبح في نظرها أن كل السلوكات التي تصدر منه ما هي إلا إفرازات لتأثير الصوم عليه.. أوشك أن يشتمها غيابيا لكنه لعن الشيطان، وأكد لربه أنه صائم.. صعد صندوقا حديديا ليتملى وجه المدينة من أعلى في هذا المساء الهادئ، فبدا له رجال كثيرون فوق الأسطح وهم منهمكون في نشر الغسيل، وإشعال المجامير، وسقي بعض النباتات، وما كان منه إلا أن حمد الله أن الرجال جميعا أصبحوا سواسية مع النساء في زمن الكورونا..

ه----ه

ه-8-ه

قلل من نشاطه عبر الواطساب بشكل أثار الشك لدى أفراد أسرته، فلم يعد يرسل أي شيء لمعارفه، ولا يطلع على ما يرسلونه إليه من رسائل وصور وفيديوهات قصيرة تنهال عليه من كل حدب وصوب حتى استنفذت حيز ذاكرة هاتفه الضعيفة أصلا.. قرر أن يغلق حسابه نهائيا ليريح الناس، ويستريح خاصة بعد أن تأكد من أنهم ينوون تكميم وسائل التواصل كلها حتى لا تكون ناقلة للعدوى، وتتسبب في تفشي الجائحة الجديدة.. تعجب كيف أعجز هذا المخلوق الكوروني الصغير الدول كلها، وكشف عورة قراراتها، وهشاشة استراتيجياتها الصحية، ونواياها المبيتة. كيف كمم هذا المخلوق الدقيق كل الحركات والتنقلات والحريات والزيارات والتجمعات وحتى الطقوس الدينية المألوفة.. قلب الأمور من جميع جوانبها، وأطلق مخاوفه للتأويل والتوقعات الغريبة، واستنتج في الأخير أن هذا المخلوق على الرغم مما فعله في البشرية جمعاء لم يستطع أن يكمم زوجته التي لا يحلو لها إلا المزيد من الزجر والطلبات اليومية لتزيده حجرا على حجر، وتكميما على تكميم، فكل طلباتها أصبحت مشروطة بمواصفات معينة إذ تحدد له حتى العلامات التجارية التي لا ترغب في إدخالها إلى المنزل نهائيا فما عليه إلا أن يبحث عن غيرها ولو في الثلث الخالي من المدينة، ويدبر أمره بكل وعي ومسؤولية في إحضار ما تريده زوجته بالضبط.. حاول بكل ما يملك من ذكاء أن يفهم قصدها من وراء كل هذا التعنت والعصيان الزوجي، ولماذا بالضبط تكرر هذا الشرط عشرين أو اثنتين وعشرين مرة في اليوم، حاول أن يجد مبررا لهذا الإلحاح المتكرر لكنه أعلن فشله بامتياز، ونفذ كل المطلوب دون أن يصرح للتجار بسبب عدوله عن بعض العلامات التجارية حتى لا يحشر زوجته من حيث لا يدري تحت طائلة التحريض أو التشهير، وحتى لا يظن الناس أنه خادم زوجته، وأنه لا يتحرك إلا بأوامرها. رجع إلى منزله متعبا قبيل أذان المغرب، ونزع الكمامة على عجل، ثم ألقى بها في القمامة ليستبدلها غدا بكمامة جديدة لا تقيه من العدوى فقط بل من كل ما من شأنه حتى ولو لم يكن له شأن أصلا....

ه----ه

ه-9-ه

أُعْلِنَ عن تعطيل قانون الحجر لمدة يومين كاملين، يمكن فيهما للناس أن يمرحوا، ويتسكعوا، ويتبادلوا الزيارات، ويصلوا أرحامهم مع اتخاذ كامل الإجراءات الوقائية من كمامات وقفازات وتكثيف التعقيم .. كان أول شيء فكر فيه هو الذهاب إلى المقهى مباشرة بعد آذان المغرب حتى يكون أول مدشن لها في زمن الإفراج المؤقت لا لشيء إلا تنكيلا وتشفيا من الحجر.. تناول على عجل حبات من التمر وكأسا من الحليب الطازج، ثم أهرق آنية من الحريرة في جوف بطنه، واستمر في مصمصة آخر محتوياتها بشفتيه وهو يقيم الصلاة.. ركع فسجد فسلم وعينه على الكمامة الجديدة التي هيأها للخروج منذ الإعلان عن الإفراج.. حث زوجته على زيارة أمها للاطمئنان على أحوالها وأحوال عائلتها، ثم الالتقاء بها في منزل أمه ليعودا معا إلى المنزل قبل السحور بساعتين.. عبر الزقاق مهرولا نحو المقهى وهو يراجع طلبه من النادل الذي اعتاد عليه ما قبل زمن الحجر. وجد زبناء كثيرين قد ملؤوا نصف المقهى بعد أن كان يعتقد أنه سيكون أول فاتح لها.. طلب فنجان قهوة وكأس ماء ومرمدة إلا أن النادل أخبره أن التدخين وسط المقهى ممنوع، واقترح عليه الجلوس خارجها ليدخن كما يحلو له. وافق على الاقتراح وغير المكان دون أن يحتج كعادته. المهم هو أن يغتنم هذه الفرصة التي منحتها الجهات المسؤولة، وينشر جسده في مدخل المقهى بعد أن اعتلاه الغَمْلُ في علب الحَجْرِ، وتَحَجَّرَ عَجُزُه. نكس الكمامة إلى الثلث الأخير من ذقنه، ورشف بشفتيه الملتهبتين رشفة مدوية من فنجان القهوة أعقبها بأحيح كاد يخدش حلقومه. لم يستسغ مذاق القهوة الذي اعتاد عليه، فناوب الرشف بين الفنجان والسيجارة، واستمر المذاق الغريب نفسه. برر ذلك بما يكون قد فعله الحجر الذي كممت فيه حتى أذواق الناس، وأنساهم لذة البصبصة والخوض في شؤون الخلق.. اتصل بأصدقائه واحدا تلو الآخر ليلتحقوا به في المقهى لكن هواتفهم كلها كانت خارج التغطية، ولم يتمكن من تتويج هذا الإفراج المؤقت بمصافحة أصدقائه ولو بالقفازات، والحديث إليهم وجها لوجه ولو خلف الكمامات.. عاود الاتصال لمرات عديدة حتى أفقده صوت المعتذرة صوابه. شفط آخر حُشاشَة الفنجان، وعاود الاتصال للمرة الأخيرة. سمع رنينا غريبا حيث استيقظ مذعورا على صوت زوجته وهي تناديه للالتحاق بمائدة الإفطار فأذان المغرب على الأبواب.. بسمل وتعوذ بالله، ثم تذكر أحد أصدقائه الذي نصحه يوما بعدم النوم بعد العصر، فشكا ضعفه إلى الله ودعاه ألا يتركه نهبة لوساوس الحجر....

ه----ه

ه-10-ه

توجه خلسة نحو غرفة ابنه الأكبر ليقوم ولأول مرة بزيارة تفتيش له ليطمئن على متابعته للدروس عن بعد خاصة وأنه مقبل على اجتياز امتحان نيل شهادة السلك الإعدادي. شعر بمرارة تعتصر قلبه إشفاقا على ابنه الذي وجده هائما في فك طلاسيم بيت شعري للمتنبي طلب منه شرح شطره الثاني وإعرابه.. حاول أن يساعد ابنه على قدر ما يستطيع ، فبدأ في تهجي البيت كله

" بذا قَضَتِ الأَيّامُ مابَينَ أَهلِها = مَصائِبُ قَومٍ عِندَ قَومٍ فَوائِدُ"

أعاد قراءة الشطر الثاني مرتين، وتباهى أمام ابنه بأن الشطر واضح الدلالة، ولا يحتاج إلى فهم كبير.. أعطاه مهلة نصف ساعة لإنجاز المطلوب على أساس أنه سيراجعه معه في ما بعد.. ألقى نظرة سريعة على غرفة طفلته الصغيرة ليطمئن على سلامتها وراحتها، ويتأكد بنفسه أن شاحن هاتفها غير موصول بالكهرباء، ثم لوى على المطبخ ليتفقد ما يطبخ للسحور من دون أن تشعر به زوجته التي كانت غارقة في أحداث مسلسلها المفضل.. نزع كمامة الطاجين وهو يردد حكمة المتنبي بتعبيره الخاص: كوارث قوم عند قوم منافع.. استحضر الإجراءات الأولى التي اتخذتها الدولة لمكافحة الجائحة الكورونية، فتوقف عند حملات التطهير التي قام بها المسؤولون المحليون من تعقيم للشوارع والممرات والمحلات والمرافق العمومية.. يومها استحسن ذلك الفعل، ورأى فيه مبادرة تستحق الإشادة والتقدير ولكن حكمة المتنبي جعلته يراجع موقفه خاصة وأنه بدأ يروج بين الناس أن ميزانية التطهير العام كانت مكلفة جدا ولا يفك لغزها إلا هذا الشطر الشعري الذي ساقته ظروف الحجر إلى فهمه نظريا وتطبيقيا.. تساءل عن قدر المنافع التي استفاد منها المنتفعون من مصيبة كورونا، واستغرب من المفارقات التي حدثت في زمن الفيروس الكوروني المتجدد الذي كف أيدي كل أنواع اللصوص والنشالين في الأسواق والمحطات والمنازل، وأطلق أيدي فيروسات متجددة منتفعة تقتات على هموم الناس وأحزانهم.. شرد في ضرب أخماس لأسداس حتى سقط من يده غطاء الطاجين، وتطايرت شظاياه إلى مدخل الصالون مستنفرة زوجته التي تطايرت زخات غضبها عليه ممطرة أياه بوابل من الويل والتأفف.. حاول بكل ما يملك من صبر أن يهدئ من روعها لكنه لم يفلح كعادته، فانسل بجسده نحو سطح المنزل ليستبدل ساعة بأخرى، وهناك بيت نية صيامه دون سحور...

ه----ه

ه-11-ه
رغم الحجر والصوم وحرارة الطقس قرر أن يخرج بسرعة نحو أقرب شباك بنكي ليستل الفرنكات التي يجود بها راتبه الشهري. وجه رأس بطاقته البنكية نحو فوهة الشباك التي لم تتردد في شفطها، فركب رقما ببالغ الحيطة والحذر، ثم طلب راتبه بالكامل إلا أن الشباك اعتذر، وأبلغه أن حسابه لا يتوفر على هذا الرصيد. ألغى العملية ليبدأ أخرى من جديد ملتفتا وراءه، ومستسمحا بنظراته الخجولة المنتظرين خلفه. سمع فَماً خلف إحدى الكمامات المبثوثة خلفه في صف منتظم وهو يمضغ بعض الكلمات فهم منها أن الرواتب لهذا الشهر قد مسها اقتطاع فما عليه إلا أن يخصم راتب يوم مما سيطلبه من الشباك.. تمت العملية بنجاح، وكبست كفه على المبلغ المستخرج لتولجه بحركة سريعة داخل جيب سترته الداخلي دون استعمال قفاز أو واق يحول دون تلوث يده بالفيروسات التي يمكن أن تكون عالقة بالأوراق النقدية.. تجاهل كل النصائح التي ما فتئ يسمعها عبر التليفزيون طيلة الحجر إيمانا منه أن كورونا ليست غبية إلى هذه الدرجة حتى تستوطن في راتب هزيل كراتبه.. انسل بصعوبة من بين النظرات المستهجنة لفعلته، وأطلق العنان لقدميه مهرولا نحو الوكالة المعنية باستخلاص فواتير الماء والكهرباء والهاتف والأنترنيت حيث تخلص من ثلث ما حشرته يده سابقا في جيب سترته الداخلي، ثم عرج على السوق ليتخلص من الثلث الثاني قبل أن يتراجعوا ويقرروا مزيدا من الاقتطاع... رجع إلى حجره محملا بذخيرة تسد احتياجات شهر رمضان بكامله، ولتقم زوجته بترشيدها ترشيدا محكما يعفيه من الخروج اليومي إلى السوق لأنه لم يعد يطيق هذه المراقبة المشددة لاصطياد المخالفين وهو قد استهلك كل الكمامات التي وفرها في الأسبوع الأول من الحجر الثاني.. سلم الثلث المتبقي من راتبه إلى زوجته، وأعلن لها إخلاء مسؤوليته من كل شيء ابتداء من مغرب اليوم. أمسكت زوجته الأوراق النقدية، ثم أغرقتها في خليط من الماء المطهر والصابون تحسبا لاقتحام كورونا منزلها الذي أفنت صحتها في تنظيفه وتعقيمه خوفا حينا، واستمتاعا أحيانا كثيرة.. أحس بالتواء مصارينه بفرط الجوع حيث بات طاوي البطن وبلا سحور، وفي انتظار أذان المغرب حاول أن يطوي بعض الدقائق في الاستغفار والتأمل في ما يحدث للناس تحت طائلة الجوائح المتعاقبة عليهم منذ طلوع الحجر. تذكر أول رمضان قام بصيامه وهو ابن الأربعة عشر عاما، وكيف كانت تجربته الأولى في الانقطاع والإمساك عن الأكل والشرب من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وكيف تعود على ذلك رمضان بعد رمضان حتى شاءت الأقدار أن يصوم رمضان آخر في زمن الحجر الذي أرغمه على الإمساك عن الخروج والمصافحة والعمل والاحتجاج من طلوع الفجر إلى طلوع الفجر..

ه-----ه

ه -12-ه

ظلت الكمامة تلازمه في حله وترحاله، في نومه ويقظته، في سرائه وضرائه حتى تعايش نسيجها مع شعيرات لحيته... فكر في توسيع مهامها لتشمل تكميم الأذنين كذلك حتى يرتاح من صداع الأخبار والشائعات.. فما الفائدة من أذنين روضهما الحجر على السمع والطاعة ليستقبلا سيولا من الأوامر والقرارات دون ردة فعل، وحتى الفم الذي سيحتج نيابة عنها صار محاصرا بكمامات متعددة ومتنوعة.. داهمته ابتسامة أزهق روحها للتو حتى لا تتسرب عبر الكمامة في حضرة شرطي المرور الذي أعاد إليه رخصة الخروج طالبا منه مواصلة سيره، والرجوع إلى منزله قبل الساعة الخامسة.. طوى الترخيص طيا محكما داخل كيس بلاستيكي صغير، فاولجه بصعوبة في الجيب الخلفي لسرواله. اطمأن بيديه على تثبيت الكمامة، ووكز دراجته النارية قدر مترين، ثم ارتمى بجسده فوقها لتبلعه الطريق قبل أن يتنبه شرطي المرور إلى عدم توفره على الخوذة.. تساءل باستغراب كيف غيرت الجائحة حتى قوانين السير، وكيف أصبحت الكمامة والترخيص بالخروج ينوبان عن كل الوثائق والمعدات اللازم توفرها لدى مستعملي الطريق.. سرت بداخله نشوة من اجتاز الحواجز الشرطية دون عقوبة ولا غرامة رغم أنه لا يتوفر لا على خوذة ولا على تأمين الدراجة.. استحضر المثل الدارج على ألسنة الناس في مجال البيع والشراء، ودعا الله أن تستمر هذه الغفلة بين السائقين وشرطة المرور.. دس في أعماق نفسه شكرا خاصا للجائحة، وتوسل إليها أن تعجل في ذهابها حتى يفرج عن خلق الله..

ه----ه

ه-13-ه

تفانى في إعطاء دروس في لعب "الضامة" لجميع أفراد أسرته لملء فراغات الجدول الزمني للحجر. في حين تفانت زوجته في تلقينهم جميعا فن غسل الأواني، ولملمة الأفرشة، ونشر الغسيل استعدادا لمواجهة نكبات الحجر مستقبلا.. بعد أن اطلع الجميع على الدروس النظرية منه ومنها، تعاهدوا على أن الخاسرين في لعب "الضامة" هم الذين يتولون شؤون المصالح البلدية في المنزل من غسل للأواني المستعملة في الفطور والسحور إلى إخراج أكياس القمامة ووضعها جنب عتبة المنزل. ربح يومين متتابعين تخلص فيهما من نشر الغسيل الذي كان من مهامه قبل اتفاقية لعب "الضامة" لكنه خسر ثلاثة أيام على التوالي انقسم فيها ظهره جراء وقوفه لساعات أمام المغسلة اليدوية، وكانت زوجته تتعمد في أيام خسرانه استعمال معظم ما يوجد في المطبخ من أوان وصحون وكؤوس وملاعق لا لشيء إلا ليشعر بما تقاسيه النسوة ما بعد كل فطور حتى أن أغلبهن يفضلن ترك كل شيء على ما هو عليه إلى الغد صباحا.. أدرك مع مرور الأيام أن جميع شؤون المنزل بدأت توكل إليه تدريجيا بعيدا عن اتفاقية اللعب حيث لم تعد زوجته تقدر على فعل أي شيء فقد يشتد عليها المخاض في أية لحظة ممكنة لذلك وجب عليه أن يستعد لحالة الطوارئ، وألا يغادر المنزل إلا للضرورة القصوى.. وصلت سيارة الإسعاف بعد انتظار طويل، ونقلت زوجته على الفور إلى اقرب مستوصف، وطلب منه أن يلتحق بها في ما بعد دون مرافقة أي كان تجنبا للتجمعات وفقا لقانون الحجر.. اقلعت سيارة الإسعاف، وأوصته زوجته بأن يعتني بالأولاد طيلة غيابها.. حرك راسه موافقا ومشفقا على حالها، وتابعت عيناه المحمرتان وميض انذار سيارة الإسعاف التي شقت الزقاق الضيق بكل صعوبة.. حملق بأسف شديد في دراجته النارية التي ظلت يومين دون وقود، وندم ندما شديدا على عدم ملء خزانها تحسبا لمثل هذه الأحداث التى انهالت عليه من دون أن يحتسب.. قرر الالتحاق بزوجته راجلا لربح الوقت وعدم تضييعه في البحث عن وقود لدراجته قد يجده، وقد لا يجده في مثل هذه الظروف.. مسح بعينيه مداخل القاعات على طول ردهة المستوصف حتى اهتدى إلى غرفة الولادة، وتسمر ببابها المغلق ينتظر خبرا سارا عن زوجته، وعن المولود الجديد. تلقفته يد الممرضة من كتفه، وأخبرته أن زوجته ستبيت ليلتها في المستوصف، وعليه أن يعود إلى منزله، ولا يغادره حتى يتم الاتصال به غدا.. تهجى لها رقم هاتفه، وتوسل إليها أن تهتم بزوجته. فكر في ان يناولها ورقة مالية من فئة عشرين درهما لكنه عدل عن ذلك خوفا من اتهامه بالرشوة في زمن الجائحة، واكتفى بالدعاء للممرضة أن يزين الله أيامها، ويبعد عنها أولاد الحرام، ثم غادر المستوصف وهو يرجو من الله أن ييسر ولادة زوجته، وألا يعسرها في زمن أصبح فيه كل شيء عسيرا.. كان بوده أن تحضر قابلة الحي إلى منزله، وتتولى الأمر كالعادة، ويرتاح من صداع الرأس هذا كله، لكن الحجر حال دون ذلك، وعليه أن ينتظر ما سيأتي به الغد.. سمع رنين هاتفه، فسله بتلعثم من تحت وسادته، ورد على المكالمة التي طمأنته على حال زوجته مع التبريك له بمولد أول رضيعة في الحي في زمن كورونا. بحث عن كمامته بلهوجة كادت تنسيه فرحته بسلامة زوجته ومولودتها. ثبتها على عجل، وأطلق ساقيه نحو المستوصف، وهناك رفضوا إرجاع زوجته إلى منزلها في سيارة الإسعاف حيث أصبحت في صحة جيدة ويمكنها الاعتماد على نفسها للعودة إلى منزلها. اقتاد زوجته خارج المستوصف وهو يطلب منها أن تسير على مهل، وتتجنب الحفر المبثوثة حول مدخل المستوصف.. نادى على سيارة أجرة كانت رابضة على الرصيف المقابل تتصيد مثل هذه الظروف التي يعيشها في هذا الصباح القائظ ثم فتح لها الباب الخلفي ليجلس هو بالقرب من السائق رجلا لرجل.. لم يسمح سائق الطاكسي بنقل أكثر من واحد في سيارته حتى لا يتعرض لغرامة على اختراقه للقانون الجديد الذي فرضته الجائحة. رمى برجله اليمنى خارج السيارة وهو يتحدث إلى السائق معلنا رفضه وامتعاضه من هذه القوانين التي ما انفكت تتهاطل منذ أول يوم من الحجر الثاني، ويعلم الله ما تخزنه الأيام المقبلة.. ثبت جلسة زوجته في المقعد الخلفي للطاكسي، وناولها عشرين درهما لتحاسب السائق عند وصولها إلى المنزل مطمئنا أياها أنه سيلتحق بها فورا.. وصل إلى المنزل وكله رغبة في تقبيل مولودته الجديدة، والدعاء لها بالصحة والعافية وأن تكون ولادتها زيادة في رزقه.. أحكم كمامته جيدا، وطأطأ ليقبل مولودته، لكن زوجته منعته من ذلك تخوفا مما يكون قد علق بكمامته ما علق من فيروسات المستوصف والطريق العام.. أحس بفرحته تقمع في أحشائه، وتعمق جرح الحجر الصحي فيه أكثر، ولعن الجائحة والتكميم والحجر إلى يوم الدين.. غسل يديه جيدا بالصابون والماء المطهر، ثم لامس برفق وجنة مولودته بإبهامه وسبابته، ليرفعهما في اتجاه شفتيه المكممتين اللتين تعودتا التقبيل عن بعد إرضاء لإكراهات الجائحة...

ه----ه

ه-14-ه

بعد مرور يومين كاملين من تاريخ ازياد مولودته الجديدة ألحت عليه زوجته أن يذهب مبكرا إلى مقاطعة الحي قصد تسجيل اسمها وتاريخ ميلادها.. كتبت له اسم المولودة على كفه حتى لا ينساه، فهي تعرف خجل زوجها، وتلعثمه أمام موظفي الإدارات العمومية خاصة في ظروف هذا الحجر التي انكشف فيها عظمه عن لحمه، وأصبح كظل تذروه الأحداث من جائحة إلى أخرى.. ضم الشهادة الطبية التي سلموه إياها في المستوصف إلى رخصة الخروج التي سلموه إياها في القيادة منذ بداية الحجر الأول، وارتدى الكمامة على مضض، ثم توجه نحو المقاطعة وهو ينوي الاتصال بابن جاره الموظف هناك لييسر له إجراءات التسجيل. بعد عشرين دقيقة مشاها تحت حرارة مفرطة وصل إلى محيط المقاطعة، والتزم بالوقوف على بعد مترين من آخر شخص بالطابور الطويل. أدرك أن المشوار سيكون طويلا وشاقا في هذا الصباح الرمضاني الملتهب. فحتى تعويله على مساعدة ابن جاره بدا له مستبعدا لأن وجهة الطابور محددة ولن يسمح له بالتجول بين مرافق الإدارة. تملى بنظراته المتعبة كل العيون الخارجة من الإدارة عله يصادف صديقا أو قريبا ليبادله التحية التي ظلت مكبوتة خلف كمامته لما يزيد عن عشرين يوما. أحس بدغدغة تسري في جيوب أنفه، فبادر إلى خنق عطسته حتى لا يفر منه المحيطون به، فالعطس أصبح مخيفا ومقلقا لدرجة أن الناس لم يعودوا يشمتون العاطس بقدر ما يطلبون منه الابتعاد.. تقدم إلى الأمام كثيرا بفضل سيولة الطابور، وانسحاب بعض المنتظرين منه بعد أن ضيقت عليهم الكمامات رحمة استنشاق هواء عليل في هذا الجحيم، وفي لحظة ما توقفت الحركة نهائيا، وتسمر هو في مكانه مادا عنقه إلى الأمام ليتبين سبب توقف سيولة الطابور، وسمع البعض يردد أن الموظفين بالداخل ينتظرون عودة خدمة البرنامج الذي ازهق روحه انقطاع الانترنيت.. دخل أول شخص بالطابور، وتغيرت مواقع المنتظرين، فاحس أنه يتحرك أكثر من ذي قبل ولم يعد يفصله عن مدخل الإدارة إلا ثلاثة أشخاص إن لم يكن هناك أشخاص آخرون قد دخلوا بطريقتهم الخاصة. وصل إلى مدخل بهو الإدارة، وصار بإمكانه رؤية ابن جاره، والاستعانة به لكنه لم ير إلا عيونا مبثوثة خلف زجاج المكاتب، ووجوها مكممة منهمكة في تفحص الأوراق ودمغها فكيف سيعرف وجه ابن جاره من بين هذه الوجوه الملثمة؟ وكيف سيعرفه ابن جاره ووجهه مربوط من الأذن إلى الأذن؟. سمع صوتا يطالبه بالتقدم، فقفز حتى كاد أن يسقط إثر تعثره بعتبة المدخل.. ألقى التحية على الموظف باحترام مبالغ فيه حتى يضمن معاملة ميسرة تغنيه عن اللجوء إلى ابن جاره، ثم صرح بنوع الخدمة التي يريدها. طلب منه الموظف الشهادة الطبية، وكناش الحالة المدنية، والاسم المقترح للمولودة مخبرا أياه أن المسؤول عن الإمضاء في مهمة خارج الإدارة، وعليه أن ينتظر يومين أو ثلاثة.. زفر زفرة حارة كتمتها كمامته ولم يفطن إليها الموظف، ثم رمق كفه ليتأكد من الاسم وهو يسلم الوثائق للموظف عبر فتحة في الزجاج.. نطق اسم "نرجس" بكل ما يملك من صوت حتى لا تحول الكمامة دون وصوله إلى سمع الموظف مسرا له أن هذا الاسم كان من اختيار زوجته للمولودة الجديدة عكس ما كان يرغب هو في تسميتها ب"حَجْريَّة" حتى تكون شاهدا على أيام الحجر القاسية في ما سيعيشه من أيام متبقية في حياته...

ه---ه

ه-15-ه

انتبه إلى أن اليومية المعلقة على باب غرفته لم تقم زوجته بتحيينها كما العادة منذ الثامن مارس، أول ذلك بأن تكون زوجته قد تعمدت تجميد اليومية حتى تظل أيامها كلها أعيادا. امتدت يده في حركة احتجاجية نحو اليومية، ومن دون أن يسأل زوجته عما منعها من التحيين، شرع في نتف وريقاتها تباعا متهجيا ما كتب على كل واحدة منها لا لشيء إلا تمضية للوقت، فاليوم لا يزال في بدايته، ومآسي الحجر أصبحت تتزايد في كل لحظة وحين.. استرعى انتباهه أن هناك أعيادا وأياما عالمية ووطنية مرت عليه في زمن الحجر دون أن يقتسم الاحتفال بها مع أصدقائه ولو افتراضيا عبر الأنترنيت خصوصا عيد الشغل الذي كان قد بدأ الاستعداد للاحتفال به منذ أن طلبوا منه في العمل أن يضاعف مجهوداته ليسد الفراغ الذي أحدثه بعض المفصولين عن العمل.. شك في نية جائحة كورونا التي تكون قد تواطأت، وامتدت أصابعها إلى فاتح ماي المتنفس السنوي للعمال، وحجرت عليه حتى لا يزعج الاحتفال به راحة الباطرونا.. لاحظ ذلك الانسجام والتناغم السجعي بين كورونا والباطرونا، وتأكد أكثر أن جائحة التكميم العام قد دبرت بليل، واسنتج أن الأوصياء على كورونا قد حجرونا، والأوصياء على الباطرونا قد عصرونا.. قرر أن يحتفل بعيد الشغل على طريقته الخاصة، فدعا أفراد أسرته إلى تنظيم مظاهرة داخل المنزل للمطالبة بالحقوق المنزلية كحق التجول في جميع مرافق المنزل، ورفض الحجر الذي تفرضه زوجته على الجميع. علت أصوات أفراد الأسرة مطالبة بحوار عائلي لمناقشة مشروع قانون ينظم حالة الحجر الأسري في إطار الحجر العام، ويحد من بيروقراطية زوجته التي اغتنمت فرصة الحجر لتمارس سياسة الأمر الواقع على أفراد الأسرة، هذه السياسة التي عانى منها كثيرا، فكل نهي أو أمر صادر منها تبرره بما تعيشه الأمة في ظروف الجائحة.. وافقت الزوجة على كل الشروط التي تقدم بها بوعزة وأولاده، بعد نقاش وعراك استمر إلى وقت متأخر من السحور، ثم تلت البلاغ رقم واحد الصادر يوم الثامن والأربعين من الحجر، والذي يعطى بموجبه الحق لكل أفراد الأسرة أن يتجولوا بكل حرية في جميع مرافق المنزل باستثناء المطبخ حفاظا على سرية ما يطبخ فيه، وأن يقاطعوا ما لا يعجبهم من وجبات، وأن يتسحر القادرون على الصوم متى شاؤوا أما بالنسبة للأطفال فمن حقهم وجبة طازجة في كل فطور وغذاء عوض الوجبات المتبقية من السحور.. أحس بنشوة الانتصار على بيروقراطية زوجته، وبدأ في البحث عن طريقة توصله إلى أصحاب القرار في العالم ليقترح عليهم تخصيص يوم عالمي للحجر لتتأمل فيه البشرية عجزها أمام هذا المخلوق الكوروني الذي حجر وكمم كل ابن تسعة في عام ذي مهزلة....

ه----ه

يوميات كورونا
ه-16-ه

جال بنظراته البائسة ركام الملابس والأحذية والأدوات المنزلية الميكانيكية والكهربائية الرابض عند مدخل البيت، ومضغ بعض الكلمات لم يفهم منها إلا لعنه للحجر وأيامه السوداء، ثم واجه زوجته بكل ما يملك من رجولة، وسألها عن سر ذلك الركام. اكتفت بتذكيره أنها عندما تكون منشغلة بتنظيف المطبخ لا تريد لا الاستماع ولا الكلام، فيكفيها ما فعله هو وأبناؤه في المطبخ طيلة أيام استشفائها من محنة الولادة.. أدرك جيدا أن النهار لن يمر بخير، وأن الفطور سيصبح في خبر كان إذا هو لم يخرج في الحين، ويؤجل جميع استفساراته إلى وقت آخر مناسب. ألقى نظرة متأنية مرة أخرى على الركام، وقلب محتوياته تقليبا دقيقا ليعرف على الأقل هوية كل قطعة من قطعه.. استرعى انتباهه أنها كلها صنعت بالصين، ولم تكمل بعد شهرها الثالث في الاستعمال، وأن ثمن بعضها لم يسدده بعد حيث لا يزال مقيدا في كراسات الدين المبثوثة في أدراج دكاكين التجار الذين يتعامل معهم.. التفت خلفه تحسبا لضبط زوجته له متلبسا في تشتيت الركام، ثم أغلق باب المنزل برفق حتى لا يشعر بخروجه أحد.. تذكر جواب صديقه يوم سأله عن الموطن الأصلي للجائحة، وكيف استسهل الأمر حينما علم أن كورونا ظهرت لأول مرة في مدينة من مدن الصين، فاعتبر آنذاك أن صلاحيتها ستكون محدودة كما هو الشأن بالنسبة لباقي ما تصدره لنا من قشوش، لكن مع مرور الوقت، وتطور الأحداث، وصدور قوانين الحجر والتكميم، أدرك أن الجائحة تختلف عما هو مألوف ومتداول عن كل ما صنع بالصين. فهم جيدا السر وراء ذلك الركام الذي نصبته زوجته عند مدخل المنزل. كانت تريد التخلص من كل ما يسهل ولوج الجائحة إلى منزلها، ولو اقتضى الأمر الاستغناء حتى عن جهاز التيلفزيون المصنوع في الصين لولا شغفها بتتبع مسلسلها الرمضاني الذي يريح أعصابها، وينسيها في مشاكل زوجها اليومية.. توقف عند ركامات من الخضر المعروضة في السوق الشعبي، وبادره صاحبها بالسلام سائلا إياه كم كيلوغراما يريد.. واصل سيره دون أن يكلف نفسه الرد على البائع حتى بلغ ركاما آخر من الفواكه التي مسحها بنظرة ثاقبة ليتبين هويتها دون أن يتجاوب مع صاحبها الذي حاول إقناعه أن فاكهته من النوع الجيد وخالية من الأسمدة الكيماوية.. جال بين الركامات المعروضة وهو يذكر نفسه أنه مواطن حر ولديه الحق في مقاطعة البضائع التي لا تعجبه، ولا يرغب في اقتنائها مهما كانت الترغيبات والترهيبات. استمر في تجواله حتى وصل إلى آخر ركام في السوق، فابتسم ابتسامة تلذذ مضمونها بكل شهية ذي رأس صلبة قناعة منه أن اليوم كله مكمم فلا أسلئة ولا أجوبة حتى تمر الجائحة بسلام..

ه----ه

ه-17-ه

تابع باهتمام بالغ كل الأخبار والتصريحات الرسمية وغير الرسمية حول الإجراءات المزمع القيام بها بعد تراجع تفشي الجائحة، إلا أنه لم يفهم شيئا منها، فكلما تبادر إلى ذهنه سؤال أو استفسار وجد جوابه رهينا بالأيام القادمة.. سلم جميع تكهناته إلى القادم من الأيام، وقرر أن يتحدى الحجر مهما طال زمنه، ولن يستسلم مهما كلفه ذلك التحدي من ويلات ومحن، فمن لم تهزمه سنوات الجري وراء رغيف العيش لن تهزمه أبدا شهور الحجر، فليحجروا عليه متى شاؤوا، وكيف شاؤوا، وليكمموا فيه ما يريدون، فقد علمته أيام الحجر ما لم يتعلمه في حياته كلها، وتعايش معه إلى حدود الألفة مما جعله يتخوف من أن يعلن عن الإفراج وهو غير مستعد له.. تمنى أن يستمر الحجر إلى نهاية الصيف على الأقل حتى يتفادى تكاليف الاصطياف الذي أصبح ضرورة ملحة بالنسبة لأسرته لغسل أدران الحجر، ويتفادى تكاليف هدايا الأعراس والمناسبات المؤجلة والتي ستفرخ لا محالة في أول أسبوع من الإفراج.. انتبه إلى وجود زوجته وهي تحملق فيه مكشرة، فادرك للتو أنها قد استرقت السمع بالقطع الذي لا شك فيه، وأنها ستفشي أمنيته للناس جميعا.. حاول أن يتجاهلها بعد النظر إليها، لكنها استمرت في تكشيرها مصرحة له أن ما يتمناه لن يتحقق له ابدا، وأن الإفراج سيكون قريبا، وما عليه إلا أن يستعد لجحيم الصيف بأسفاره وأعراسه وزياراته.. عاكسها الرأي بشدة محاولا إقناعها بأن لا أحد يعرف نهاية هذا الحجر وهذا التكميم مذكرا إياها بالتصريحات التي علقت كل الإجراءات والاستراتيجيات على الأيام القادمة.. مطت شفتيها متعجبة مما هو فيه، ثم انسحبت وهي تدعو له بالاستمرار في تشبثه بالغباء.. مط حاجبيه خلفها متعجبا من رأسها القاسح الذي لم ينل منه الحجر المنزلي ولو شظية، ثم توجه إلى الصالون لينشر فيه جسده حتى أذان المغرب، ولتخرج هي إلى السوق لترى بنفسها ما يخبأ لهم بعد الإفراج.. قطع ابنه الأصغر حبل استرخائه ليسأله عن موعد الرجوع إلى المدرسة، فنهره بشدة مطلعا إياه أن الخبر اليقين عند أمه فليسالها، ثم استسلم للنوم بعد إغلاق أذنيه بقليل من القطن كان قد نتفه من صرة الوسادة التي لازمته طيلة أيام الحجر.. اغتنمت زوجته الفرصة ولأول مرة لتخرج إلى السوق، وتقتني ما تريد دون أن تنسى أي طلب من طلباتها كبيرا كان، أو صغيرا. لقد ملت من كثرة نسيانه في كل يوم حيث لم يحدث ولو مرة واحدة في أيام الحجر أن أحضر معه كل طلباتها، فكان يتحجج بالنسيان لتفادي المصاريف التافهة.. اسيقظ قبيل أذان المغرب بدقائق معدودة كانت كافية ليتوضأ، ويؤدي ما فاته من صلاة.. ألقى نظرة خاطفة إلى مائدة الفطور، وبدت له زاهية بكل ما لذ، وطاب.. بتشكيلاتها المتنوعة من اللحمة والفواكه والمملحات والمكسرات. انكسر خاطره بعد أن رأى بأم عينيه أن ما كان يحسب له ألف حساب في ما سيأتي من أيام الإفراح، حدث الآن أمامه والناس لا يزالون في عز الحجر.. أقام الصلاة على عجل، ثم ختمها بدعاء يستعجل فيه زمن الإفراج، فما دام الأمر هكذا، فلا بأس من إضافة براد شاي على قول المثل الشعبي..

ه-----ه

ه-18-ه

لليوم الثالث على التوالي لم يخرج من منزله، ولم يكلف نفسه حتى إطلالة قصيرة عبر نافذته، حيث لازم فراشه في النوم واليقظة معللا ذلك بالوعكة الصحية التي تعرض لها يوم بقائه طول النهار تحت الشمس الملتهبة، وهو ينتظر دوره في تسديد فواتير الماء والكهرباء. كانت الوعكة الصحية من خلق خياله وحيله حتى يقتطع لنفسه راحة مشروعة، ويبتعد كليا عن مسؤولياته داخل وخارج المنزل فقد سئم من هذا الروتين اليومي الذي فرضته الجائحة على العالمين، رن هاتفه الذي ظل ملقى على بعد مترين من فراشه، فزحف نحوه ليعرف من الذي يهاتفه في هذه الساعة المتأخرة من النهار. مط يده أسفل الطاولة الصغيرة التي لا يزال هاتفه تحتها يرتعش و يصرخ، ولما تمكن من لقفه، انكتم الرنين برهة ثم عاد من جديد.. كان له هذه المرة بالمرصاد إذ لم يدعه يكمل نغمته حتى خنقها بسبابته، وألصق الهاتف بأذنه مستجيبا للمكالمة التي لم يعرف بعد صاحبها.. سمع صوتا يحييه، ويرحب به داعيا إياه أن يعجل للاستفادة من عرض مغر يمكنه من المكالمات والتواصل عبر الأنترنيت بثمن بخس طيلة شهر رمضان. أغلق الهاتف ممتعضا، وعاد إلى وضعه الأول وهو يزفر بشتائم ما كان له عهد بها.. جالت عيناه في فضاء الغرفة، وبدا له عقرب الساعة المعلقة على الحائط ينط خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء في حركة غريبة فهم منها أن الساعة تحتضر، وتذكر أنه كان قد غير بطاريتها منذ ما يزيد عن السبعة أشهر، ولم يكن يعرف حينها لا هو ولا غيره أنه سيأتي زمن تمتد فيه يد الجائحة حتى إلى كبد الساعة لتشل حركتها، وتعسر تنفس عقاربها... لم يكلف نفسه النهوض ليستبدل بطارية الساعة قناعة منه أن لا فائدة من عمل الساعة في زمن الحجر، فكل الأوقات أصبحت متشابهة، ولم يعد هناك فرق بين الصباح والمساء، ولا بين النهار والليل فكلاهما أصبحا لباسا، فلينم حتى يمر ليل كورونا...

ه-------ه

ه-19-ه

أحس بكل شيء يتغير فيه وحوله إلا الحجر الذي لم يلن قلبه بعد ليرفع قيوده، ويرحل رفقة الجائحة إلى الأبد.. ألقى ببصره عبر النافذة الضيقة ليستطلع ما يجري في الزقاق الذي اشناق إلى أقدام الأطفال رقم شغبهم وشقاوتهم.. حاول أن يستطلع الزقاق من الوريد إلى الوريد لكن شعر بأن بصره أصبح حسيرا بعد كل هذه الأيام التي حجر فيها عليه بين أربعة جدران.. أحس بجسده يتخشب يوما بعد يوم، فلم يعد يقوى على لي رقبته لا يمينا ولا يسارا، فبات في حاجة ملحة إلى تمضية ساعة بتمامها في أحد الحمامات الشعبية ليتَمَطّى على فسيفساء زليجه الساخن كما كان يفعل كل خميس قبل زمن الحجر.. اشتاق إلى سماع دعاء أصدقائه له بالصحة حيث اعتاد أن يعرج على المقهى مباشرة بعد خروجه من الحمام، ليتوج شعوره بالخفة والنشاط بكأس من عصير البرتقال الطازج.. دخل حمام المنزل، وملأ سطلين كبيرين بالماء الدافئ، وافترش سجادا بلاستيكيا، ثم حاول أن يمدد جسده المتخشب لكن مساحة الحمام الضيقة حالت دون تمطيه بالكامل حيث بقيت رقبته مستندة إلى الحائط الرخامي الذي بدأ يشعر ببرودته مما جعله يغير الوضع تماما، فطوى رجليه على مستوى الركبتين، وأرخى بثقل رأسه على طرف السجاد بمحاذاة الحائط.. لم يشعر ولو بقليل من تلك اللذة التي كانت تنتابه وهو مبطوح تماما في الحمام الشعبي.. ولما استوى ظهره على السجاد، أوهم نفسه بالراحة والسعادة بهذا الوضع لا لشيء إلا ليغيظ الحجر.. نصف ساعة في الحمام المنزلي كانت كافية لإطفاء نار الشوق إلى الانبطاح في الحمام الشعبي وسط أجساد شبه عارية، فما عليه الآن إلا أن يطفئ حرقة التشوق إلى عصير لا يستلذ إلا في المقهى وسط الدعاءات المنهالة عليه بدوام الصحة والعافية..

ه------ه

ه-20-ه

طيلة عشرة أيام من الحجر الثاني وهو ينتظر بفارغ المستحيل أن يجود عليه التليفزون ببرنامج أو مسلسل أو حتى بمصيبة سوداء تنسيه هموم الحجر الصحي أو على الأقل تخفف من قهر الروتين اليومي خاصة في هذا الشهر الفضيل الذي حجر على أنشطته وتراويحه وأسماره. لكن لا وميض يبشر به هذا الجهاز في أفق بوعزة فقد ظلت حليمة على عادتها القديمة وكأن الجائحة رمت بالتليفزيون في واد غير ذي إحساس لا يتقاطع، ولا يتواصل مع وادي الناس الذي يجرفهم نحو المجهول.. تذكر الأيام القليلة ما قبل الحجر، واسترجع تلك الحملة المكثفة التي كانت تهيء الناس لأخذ الحيطة والحذر من خطورة الوباء الملعون، وتحث الناس على المكوث في منازلهم لمحاصرة الجائحة الجديدة، وحينها اقتنع اقتناعا تاما بتلك الخطوات الاستباقية لمواجهتها ولجمها حتى لا تفتك بالبلاد والعباد. كان يظن أن الجميع سيشعر بمسؤوليته في توفير حاجيات الحجر الصحي من أكل وشرب وراحة وترفيه، وامتلأت الأسواق فعلا بكل ما يطلبه الناس ويرغبون في اقتنائه إلا أن الراحة والترفيه ظلا في طي النسيان فحتى التلفزيون الذي كان يتوقع منه أنه سيعمل جاهدا على تخفيف معاناة الحجر لم ير منه إلا زيادة في الحجر والتكميم، وتبخيسا لأذواق الناس الذين ملوا من تلك البرامج التي تتكرر مع كل رمضان بجوائحها الخفية، وأمراضها السيتكومية التي كان يتمنى من كل أعماقه أن يحجر عليها تفاديا للعدوى.. استغرب جحود وبخل القائمين على الترفيه التليفزوني في خضم هذا الحجر الذي قيد الحركة، وشل التجول، وعكر صفاء السمع، وحسر بصر المشاهدين.. لم يفهم معنى تلك الاقتطاعات السمعية البصرية لفائدة جهاز لم تتغير جلدته حتى في زمن الكورونا، ولم يفهم كذلك معنى أن يظل هذا الجهاز كابسا على أنفاس الناس دون أن يكلف نفسه تقديم شيء يكون في مستوى رغباتهم وتطلعاتهم.. لقد فهم، وأدرك، واقتنع أن الهم الوحيد لهذا الجهاز هو تكويم الاقتطاعات وهدرها في برامج تتناسل كالأيتام في مأدبة اللئام.. تضرع إلى الله أن يعجل بالإفراج على الأقل ليولي ظهره لهذا الجهاز كما اعتاد على ذلك قبل زمن الحجر.. تناول جهاز التحكم بغضب ليس له به عهد، ففقأ عين التليفزيون بعد أن خنق مرور جينيريك مسلسل حفظت أحداثه أجيال الأمة المتعاقبة، ثم دعا على الجهاز بعمى البصر والبصيرة، ولتأخذه الجائحة هو الآخر إلى الجحيم...

ه-------ه

ه-21-ه

دخلت زوجته إلى الصالون، وشرعت في البحث عنه بين الأفرشة والألبسة المتراكمة بركاكة، لكنها لم تعثر على أثره.. واصلت البحث عنه في جميع الغرف وهي متأكدة أنه لم يخرج من المنزل ما دام حذاؤه لا يزال رابضا على العتبة وحتى قبقابها الذي اعتاد استعماله في غفلة منها لا يزال في مكانه الذي خبأته فيه.. صعدت نحو سطح المنزل وهي تنادي عليه، وهناك وجدته نائما وظهره مستند إلى الحائط الممتد ظله إلى حدود ركبتيه.. اقتربت منه وهي تمشي على مشطي قدميها، ثم أيقظته برفق وحنان طالبة منه أن ينزل إلى الصالون ويتمم نومه حتى لا تأكل الشمس جسده الذي هده الحجر.. بدت له في كامل هدوئها وهي تنظر إليه بإشفاق لم يكن يتوقعه حتى في الحلم.. رج رأسه ليتأكد أن ما يراه يقظة وليس حلما، ثم مشى خلفها بخطوات متعبة وهو يتعجب من رقة وحنان زوجته التي لم يعهد منها ذلك طيلة أيام الحجر على الأقل.. تضاعف تعجبه لما شمرت على ساعدها، وأعدت له فراشا وثيرا بمخدة جديدة عوض مخدتة التي لازمته منذ أول يوم من الحجر.. ألقت فوقه غطاء خفيفا داعية له بالراحة والهناء، ثم أطفات نور الصالون، وخرجت نحو المطبخ للتتفقد أحواله قبل أن يباغثها أذان المغرب.. أزال الغطاء عن وجهه، وسحب جسده نحو الخلف حتى لامس ظهره المخدة، واسترجع حركات زوجته من لحظة إيقاظه إلى لحظة خروجها من الصالون، فاستقر على أن ما فعلته زوجته ليس إلا مقدمة لأمر ما قد دبرته في الخفاء.. أول، وحلل، ثم فكك، وركب، ولم يعثر على سبب واحد يفسر له هذا الحنان المفاجئ من زوجته.. حدث استثنائي بالنسبة إليه، وجدير بتوثيقه وتأريخه كمحطة مشرقة في حياته مع زوجته في زمن الجائحة.. تساءل لماذا لم يشفق قلب زوجته عليه في الأيام الأولى من الحجر، ولماذا تأخر هذا الحنان إلى الأيام الأخيرة المتبقية من الحجر.. أرخى برأسه على كفه، وصمت قليلا حتى اهتدى إلى أن الصائمين دخلوا في العشر الأواخر من رمضان، وربما قد تكون زوجته راغبة في تلمس رضاه في هذه الأيام الفضيلة، أو كفارة عما اقترفته في حقه بمعية الحجر.. لم يقتنع بهذا الاحتمال، ورأى أن زوجته كان بإمكانها تلمس ذلك في العشر الأواخر من شهر الحجر الأول الذي كان فيه في أمس الحاجة إلى من يقاسمه الهموم والتكميم والبعد الاجتماعي.. فطن في الأخير إلى أن عيد الفطر على الأبواب، وأن في مثل هذه الأيام القليلة قبل العيد تنشط الرغبات والطلبات، وأن ما قامت به زوجته ما هو إلا مناورة لتليين قلبه وجيبه حتى يمول لها ما اعتادت على شرائه من أثواب وألبسة ترفل فيها صبيحة العيد أمام جاراتها اللواتي حجزن موعدا مع الخياط منذ منتصف رمضان بعيدا عن خيوط الحجر وإبره التي ما فتئت تتشابك ولا رتق في الأفق...
ه-------ه




محمد حامدي.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى