يمنى العيد - العنف والإبداع

شكَّلت الحرب الأهلية التي عاش اللبنانيون ويلاتها ما يقارب العقدين من الزمن - وما زالوا يعانون آثارها - مرجعية أساسية لازدهار الكتابة الروائية في لبنان، حتى ليمكن الكلام على ظاهرة روائية حديثة تمثَّلت لا في عدد اللبنانيين اللاَّفت الذين أقبلوا على كتابة الرواية وحسب، بل في الرؤى والعوالم والخصائص البنائية التي ميَّزت هذه الرواية وأجازت نسبتها إلى هذه الحرب.

فقد تميَّزت رواية الحرب اللبنانية، وكما صار معروفاً، بتكسُّر زمن السرد، وبتقديم عالم متخيَّل يوحي بالتفكيك، قوامه، لدى بعض الروائيين، شخصية ملتبسة تعاني تمزُّقها وغربتها، وتعكس هويَّة مجتمعية مسكونة بهواجس الموت والدمار.
ولئن كانت للمرأة مشاركتها الواسعة في هذه الظاهرة، فإنَّه كان لبعض الروائيات طروحاتهن المحيلة على منظور أنثوي يربط بين الذكورة والعنف من جهة، ويتطلع، من جهة أخرى، إلى ثقافة تصدر عن طبيعة أنثوية تتسم بالهدوء وتنزع إلى السلام، وتحفل بشفوي حيّ ينسج ما أهملته ثقافة المكتوب، المستعار، من هوامش العيش وقاع الحياة، وأدَّى بهذه الثقافة، المستعارة، إلى غربة المدينة عن ذاتها وإلى مأساة مَنْ عاشوا فيها دون أن ينتموا إليها.
نتوقَّف في ما يلي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عند ثلاثة أعمال روائية. يتناول اثنان منها، وإن بشكل مختلف ومتمايز، علاقة العنف عنف الحرب بالذكورة، من حيث هي علاقة تنمُّ عن وعي ثقافي سائد. ويدين العمل الثالث ثقافة المكتوب لينحاز إلى ثقافة الشفوي، أو ثقافة المنطوق المهمَّش، وذلك على خلفية الحرب وأبعاد دلالاتها الثقافية.

1 (حكاية زهرة) 1980
لحنان الشيخ
ففي هذه الرواية يوقظ زمن الحرب، بما هو زمن حاضر في الرواية، ذاكرة زهرة بطلة (الرواية)، فتحكي. ترى زهرة وتتذكر.. كأنَّ ما تراه يضعها أمام مرايا زمنها، الأنثوي. أو كأنَّ الحاضر في زمنِ تفجُّره يهزُّ الوعي الأنثوي فتحكي ليرفع هذا الحكي الذات الأنثوية من تحت أنقاضها المضاعفة:
- أنقاض ثقافة الماضي بما هي ثقافة الوعي الذكوري المهيمن.
- وأنقاض المدينة التي يدمِّرها، في الحاضر، الصراع الطائفي اللبناني اللبناني.
تتذكر زهرة الماضي الذي دمرها وتشهد على حاضرٍ يدمِّر مدينتها. تتقاطع الصور في مساحة الدمار المزدوج: دمار الجسد الأنثوي ودمار جسد المدينة الحديثة.
تشير الأنثى المصابة، في هذه الرواية، بالخوف إلى العنف المتمثّل في سطوة الأب صاحب البدلة الكاكية، وفي هؤلاء الذين، حسب الرواية، يرتدون لباس الميدان، ويحرقون الأسواق وصالة السينما، ويقتلون الناس على (هوية النفوس) (ص163).
تبدو الحرب في رواية حنان الشيخ هذه شكلاً آخر من أشكال استمرار العنف الذكوري في تمظهره الاجتماعي - التاريخي. وتبدو الأنثى محمولاً دلالياً يشير إلى مركز الداء ومعناه المتمثّل في عنف ما زال يسوّغ الحياة بمنطقها السابق. هكذا تقول زهرة: ( يجب أن تنهار الحياة اليومية التي لا نزال نحياها)، ثم: (يجب أن ينهار هذا البيت حتى تعمّ الحرب كل لبنان).
تثور زهرة الخائفة، تثور فتفجّر جسدها، ولعلّ اللقاء المستهجن بين زهرة والقنّاص، هو لقاء تفجير الداخل وتدمير المضمون الراسخ في بنية الجسد، في الوعي والثقافة.. جسد المدينة وجسد المجتمع.
تفجّر الأنثى جسدها، أو تفجّر الحربُ الجسدَ الأنثوي من أجل ولادة جديدة تحرر المقموع والمكبوت، كما تحرر الجسد الخائف من عنفٍ يدمّره.

2 (حجر الضحك) (1990)
د. هدى بركات.
تلتقي هدى بركات مع حنان الشيخ في بناء الشخصية الموحية بتفككها على خلفية الحرب، يعاني خليل في (حجر الضحك)، شأن زهرة، من كبت دواخله ومن سطوة القيم الذكورية الماضوية، ومن ممارسة العنف في زمن الحرب. لكن خليل يبقى، في رواية بركات، شخصية مختلفة. ذلك أن معاناته تحيل على نزوعات وظواهر أنثوية هي فيه، في بنية شخصيّته، هو الذَّكر، إلاَّ أنَّ هذه الظواهر تُعتبر في الثقافي الجمعي السائد لاسويّته.
يبدو خليل شخصيّة روائيّة مميّزة بإقامة التشابك الثريّ بين الأنوثة والذكورة داخل بنية الشخصيّة نفسها. ويبدو هذا التشابك داخل المدار الواحد خارج كل ثنائيّة ضدّية، لأنه يُحيل على المعنى العميق لوجود الإنسان وطبيعة هذا الوجود:
إنّ ما يُعتبر لاسويّة خليل ، هو، في الرواية، خروج على الشبيه العامّ، الذكر، بمفهومه التاريخي المترسّخ على السطوة والعنف وأيديولوجيا الواحد الفوقي والضدّي. ذلك أن أعطال خليل التي يبدو بها لاسوياً، هي أعطال مؤقتة، كما تخبرنا الرواية، وما يعانيه بسببها ليس سوى (أزمة نفسيّة فرضها الخارج المجنون).
كما أنّ لاسويّة خليل هي، كما تفيد الرواية، سويّته غير المعروف بها.
تلوذ الرواية لتأكيد السويّ في الظاهر اللاسويّ، بالبيولوجيا، فتخبرنا بأنّ خليل يفضّل بالتأكيد (هرمونات الأنثى التي فيه بنسبتها الطبيعيّة) أي yx. إذ هي تقيه إجرام الفعل. ما يعني أنّ الرواية تُنيط العنف المتمثّل في الحرب بالهيمنة الذكورية، وليس بطبيعة التكوين. وعليه ترفض الثنائيّة الضدّية - ذكورة/ أنوثة - فتجعل بطلها ذكراً تتشابك في بنيته معاني الذكورة والأنوثة ومقوماتها، بحيث لا يعود العقل في مكان (عند الذكر) والجسد في مكان آخر (عند الأنثى).
أبدعت هدى بركات شخصيّة خليل المرتبكة، الموسومة باللاّسوية، العاجزة عن أن تكون ذكراً، كإشارة إلى أنوثة في خليل مرفوضة، أو تبحث عن ذاتها في المختلف.
بشخصيّة خليل المرتبكة هذه تبني هدى بركات روايتها من منظور نقديّ للحرب، باعتبار الحرب أثراً لثقافة ذكورية بنت تاريخها على مفهوم العنف. تعيد المؤلّفة الاعتبار إلى الأنوثة، ولكنها بدل أن تجسّد رؤيتها الروائية في شخصيّة نسائية لا مرجعية لها في الواقع، كما تعتقد، تبني معنى لها داخل الذكر نفسه.
هكذا وحين تنتهي وظيفة شخصيّة خليل الدلالية، النقدية، يقع خليل في التشابه مع الذكورة السائدة، ولا يبقى من أنوثة الذكر سوى الأنثى الكاتبة عنه، أو التي تنتج الواقع، أو ثقافته، بل النّص. النّص الذي يُفصح عن دلالات الغياب الأنثويّ في الحياة الاجتماعيّة، وفي الثقافة والتاريخ.
إنّ فحولة الذكر في رواية (حجر الضحك) هي فحولة السياسة والثقافة المتمثّلة في سطوة الأبوّة، وفي سطوة الإعلام والحزب الطائفة. تُدين الرواية هذه الفحولة، وتقف إلى جانب معاني الأنوثة الغائبة. وهي معاني الفطرة والطبيعة التي لها في الرواية علاماتها:
- الحليب غذاء الطفولة ونسيح التواصل والامتداد في الحياة.
- الكلوروفيل الأخضر وأكسجين الهواء.
- الجبل العالي والمشي فوق الثلوج البيضاء.
- الغيوم التي (سوف تتخذ شكل القطن).
وبسبب الواقع الذي يتكرّس فيه الوعي الذكوري في شكله الأعنف الحرب ينتهي خليل في الرواية إلى الدخول في الشبيه العام، المسيطر. يختار خليل أن يكون مثلهم، يقتل أنوثة فيه تقيه ممارسة العنف والدمار.

3- مريم الحكايا (2002)
لعلوية صبح.
تشي رواية (مريم الحكايا) بتمثل للتجربة السّردية التراثية العربيّة (ألف ليلة وليلة)، لكنها تحيل على متغيّرات الواقع المرجعي في الحرب اللبنانية حيث يشكّل فضاء المدينة، في زمن الحرب، مرآة لفضاء ذاكرة اختلط فيها زمن القرية الجنوبية بزمن المدينة بيروت، زمن الحياة الريفية بزمن الحياة المدنية، زمن ثقافة الشفويّ بزمن ثقافة المكتوب المتمثّل في علويّة وجه مريم الآخر، وفي زهير توأم علويّة وبطل روايتها كما تقول مريم.
تأتي مريم إلى الرواية، مريم وجه علويّة الآخر، وجه المنطوق الشفويّ، تأتي لتعيد إلى ثقافة الشفويّ حضورَها ومكانتَها، ولتكون هي المرويّ الروائي وثقافته. تقول:
لم أعد أحتاج لقراءة قصة حياتي في كتابها)، (تقصد علويّة).
لقد ضاعت الرواية التي كتبتها علويّة، محاها الوحل, وكأنّه بذلك محا ثقافة المكتوب وأفسح مجالاً للشفوي المرويّ كي يكون هو الرواية.
لا تعيد مريم رواية المكتوب، (ما كتبته علويّة). مريم لا تروي لنا ما روته لعلويّة قبلاً. هذا ما توضحه الرواية منذ صفحاتها الأولى مقيمة الفارق بين رواية علويّة (المكتوب) وبين ما ترويه مريم (الشفوي). كأنها بذلك تقول بأنّ مريم تروي الحياة شفوياً، وأنّ (مريم الحكايا)، الرواية، هي نثر الشفويّ وسرده باعتباره نثر الحياة وسردها على لسان مريم وليس بقلم علويّة.
ليست العلاقة بين مريم وعلويّة مجرّد لعبة مرآتية، بل هي تعبير، تقني، عن منظور الرواية الساعي، في ما يبينه السرد من سياقات، إلى توليد دلالات الشفويّ الوثيق الصلة بالكلام المنطوق وملفوظاته. هكذا تزخر الرواية بالحوارات المثبتة باللغة العاميّة كما يتلفّظ بها اللبنانيون سكان الجنوب والضواحي التي قدموا إليها من قراهم. وبالأمثال الشعبية، والمنقول من مرويّاتهم الخاصّة بمناسبات العزاء والفرح، وما قد يقع لهم ويعود إلى ظروف عيشهم وخصوصيّات بيئتهم.
على أنّ هذا الشفويّ المنطوق هو، بامتياز، كلام الأنثى، أو النساء بما هنّ فئة شعبيّة تتشارك والرجل الريفي ثقافة شعبيّة يبقى للذّكر فيها موقعُ السيطرة.
الشفويّ هو كلام الأنثى، أو لسان حكاياتها. كأنّ النساء يحبلن بالقصص ذاتها، وربما حكاية الجنين في بطن واحدة هي نفسها في بطن كل النساء).
هكذا تعطي علويّة المؤلفة الكلام ل مريم، وليس ل أنا، علويّة المؤلفة. مريم الحكايا هي المرأة الحبلى بولادة لا ذكر لها. إنها العذراء، الموحية بعذريّة اللغة.
وهكذا يحاول زهير، الذَّكر، مُنتج ثقافة المكتوب تاريخيّاً، يحاول عبثاً كتابة المسرحية. ضاع زهير حين راح يبحث عن مرجعيّة له في (كتب المسرح) التي كانت تنتشر في عيادته ومكتبه.
يكتب زهير، وحين يقرأ ما كتبه (يجد الكلمات تمحو بعضها، والأخبار والحكايات والتصريحات وكل شيء يمحو بعضه). يكتب وحين يعود إل ى الأبطال الذين كتب عنهم يُفاجأ باختلافهم.
نظيران ذهنيان. زهير وعلويَّة ينتميان إلى ثقافة المكتوب، يختفيان لتبقى مريم. نظيران لا بالنسبة للنوع، أو الجنس، بل كونهما ينتميان إلى ثقافة ذهنية واحدة هي ثقافة المكتوب في اختلافها عن ثقافة الشفويّ الحي، أو ثقافة المرجعي المعيش المتمثِّلة في ما تحكيه مريم..
تحكي مريم دون مرجعية ثقافية مكتوبة. تأتي بالشفويّ المنطوق، وحده، إلى الرواية، كأنّها تقول:
الرواية هي سرد الحياة كما يعيشها الناس، الناس الكثر القادمون، كما تاريخهم، من حضارة الأطراف والهامش، إلى حضارة المدن والمتون. الناس الذين تشوّه وعيهم، كما تاريخهم.
بهذه الرواية تقدِّم المؤلِّفة مشروعاً لكتابةٍ روائيّةٍ تجعل من الحياة مرجعاً لعالمها ومن الكلام لغةً لكتابتها.
هكذا جرى السرد حكايات على لسان مريم، ونقلاً عن ألسنة شخصيات تنتمي، في غالبيتها، إلى فئات شعبية تصنع الحياة وتحكيها. كذلك تسلسل الزمن توالدياً، شأن الكلام يتوالد على أفواه النساء، وكأنّه يحاكي الحياة وهي تتوالد من أرحامهن.

- بيروت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى