يمنى العيد - الخــطاب الأنثــوي والجســد الروائي

من الملاحظ أن مسألة الأنوثة اخذت تشغل في الآونة الاخيرة من حياتنا الثقافية ـ في لبنان وبعض البلدان العربية ـ حيّزاً مستقلاً سواء على مستوى الكتابة والتعبير، او على مستوى النشاط المؤسساتي المدني المتمثل في ما ينشأ من جمعيات نسوية، او في ما يقام من مناسبات احتفالية وبحثية تحت عنوان واحدي الدلالة يخص الأنثى في أحوالها ويتركز على الأنثوية في معناها ومفهومها. وإن كان من كلام على علاقة الأنثى بالرجل فإن هذه العلاقة تتركز غالباً، على الصفة الذكورية المسيطرة للرجل.
ويمكن القول ان العلاقة بين الذكورة والأنوثة تبدو، في معظم ما نقرأ في الآونة الاخيرة، بمثابة علاقة ضدية يمارسها طرف هو الذكر على طرف آخر هو الأنثى.
يأخذ مفهوم الضدية، في غالبية ما يكتب حول هذا الموضوع، معنى التناقض والصراع وليس معنى الاختلاف النوعي. ولعل ذلك يعود الى ما يمارسه الرجل، بصفته الذكورية، او بصفته نوعا آخر، او جنساً آخر، مختلفاً، من تسلط على المرأة بصفتها أنثى. هذه الممارسة التي اكتسبت «شرعيتها» المجتمعية ـ المعيارية، بحكم الموقع الذي احتله الرجل في سلّم الوظائف والقيم وتاريخه الطويل الذي كرسها وأتاح للرجل ان يتمادى في عنفه وقمعه للمرأة بصفتها أنثى.
لقد همّشت هذه القيم المعيارية المرأة ودفعت بها الى موقع التبعية والخضوع للرجل. وكان من الطبيعي ان يتخذ الخطاب النسوي ـ الثقافي المناهض لهذه السلطوية، ولهذا التهميش الذي عانت منه المرأة، وتعاني منه حتى اليوم، بصفتها أنثى، طابع الخطاب التحرري: تحرر المرأة بصفتها أنثى من سلطوية يمارسها عليها الرجل بصفته ذكراً.
لكن يلفتنا في الخطاب الأنثوي الراهن أمران:
الأول هو نزوعه الى اهمال العوامل الاجتماعية ـ الثقافية، من جهة، او بنية المجتمع، القائمة على التفاوت الذي يخضع فيه الادنى للاعلى سواء أكان ذكراً أم أنثى. والمنظومة الثقافية، من جهة اخرى، التي أسس لها الرجل، ليس فقط من منطلق كونه ذكراً، بل ايضا، من موقع الهرمي في السلّم المجتمعي، أي من كونه على رأس هذا المجتمع وصاحب السلطة عليه والقرار فيه. أي بصفته السياسية المسنودة الى منظمة من القيم الثقافية بما تعنيه هذه القيم من اخلاق وعادات وسلوكات وتقاليد… وبما تعنيه، في الآن نفسه، من خطاب محكوم بهذه القيم، وليس محكوماً فقط بصفة صاحبه الذكورية.
يحيل التسلّط في جانب هام منه على بنية مجتمعية ـ ثقافية وليس فقط على بنية جسدية نوعية. أي انه يصدر عن موقع في السلطة سياسي، ولا يرتبط فقط بالنوع. فقد تمارس المرأة ـ وقد مارست ـ مثل هذا القمع، او مثل هذا التسلّط حين تكون في هذا الموقع وتكون لها السلطة العليا.
أشير على سبيل المثال الى الإلهة العذراء «باللاس» التي اشبعت «أراختني» ضرباً، ثم رشّت على جثتها عصارة عشب مقدس حوّلها الى مثال للتشوّه، بعد ان توعدتها بأن يكون هذا مصير ابنائها وأحفادها من بعدها. كذلك قتلت الرّبة «لاتو» ابناء «نيوبي» السبعة عقاباً لها لافتخارها عليها. (هذا ما رواه الشاعر أوفيد في كتابه «****morphose» ص 264 و271 .ت: ثروت عكاشة. مكتبة الأسرة).
ولا يخلو التاريخ القديم والحديث من امثلة على عنف أنثوي يحيل على موقع للأنثى في السلطة وتعود ندرة هذه الامثلة الى ندرة احتلال الأنثى موقعاً أعلى في السلطة.
لا يحيل التسلّط بالضرورة على النوع، او على صفة نوعية، بل على موقع وسياسة ونظام ينتج منظومته الثقافية ويعيد انتاجها في ما هو يستند إليها.
ولا يستقيم مفهوم الضدية لأنه يضمر، او يرتكز ضمناً، الى الفصل بين الذكورة والأنوثة، كما انه يميل الى إسناد ما هو تاريخي، واجتماعي ـ سياسي، الى النوع (أي الى الذكر كونه ذكراً).
بدل الضدية نقول بالاختلاف الذي هو دينامية الحياة والوجود. الاختلاف الذي ليس فصلا، بل الاختلاف القائم على قاعدة المشترك الذي هو الجسد بصفته جسم الإنسان، او الجسم الذي يكنى به ـ وكما جاء في لسان العرب ـ عن الحقيقة، أي عمّا ليس عرضاً، او ليس بذي جوهر.
الجسد، جسد الإنسان: الذكر او الأنثى، له صفة الحقيقة، أي صفة الوجود المادي ـ الجوهري. وهو بصفته هذه جسد يختلف (أنثوي وذكوري) من دون ان يعني مثل هذا الاختلاف الدونية، او من دون ان يكون هذا الاختلاف سببا، او ذريعة للتحقير، او الاذلال، او القمع والتسلط، او عدم العدالة والحرمان.
كل منهما في الآخر
كذلك لا يعني الاختلاف صفاء النوع، على الأقل على مستوى النوازع والمشاعر، ان لم يكن على مستوى البيولوجيا والخلايا والجينات… حتى ليمكن القول بأن هذين الكائنين وإن اختلفا نوعاً، او جنساً، فإن في كل منهما بعضاً مما هو في الآخر.
في رواية «باب الشمس» لإلياس خوري، نقرأ:
«وحين نأتي الى المرأة التي نحبها، نصبح كامرأة. لماذا يستيقظ في داخلنا ما يشبه الأنوثة. نعم يصبح العاشق كالأنثى» (ص 461 ط. 3 دار الآداب).
انه التداخل النوعي (أي بين الذكورة والأنوثة) في فضاء الحب، او انه الاختلاف الذي يسقط، في فضاء الحب، الفصل/ النوعي الذي تشي به الضدية.
الضدية صفة مضافة تجد مقوماتها في التاريخ والنظم، في الثقافة واللغة، في هوية المجتمع ومقومات بنيته. أما الاختلاف فهو من طبيعة الوجود وجوهر الحياة.
هكذا تصالح خليل، بطل رواية «حجر الضحك» لهدى بركات، مع نفسه عندما قبل بالمختلف (الأنثوي) فيه الذي امده بالهدوء الداخلي، وخوله التواصل مع الطبيعة، لكن الخطاب الثقافي السائد، خطاب الحرب والعنف، حمله على التخلي عن المختلف فيه، فعاد للتماثل بالواحدي المهيمن، وللغرق في تدمير بلده بأكثر من وسيلة.
أما الامر الثاني الذي يلفتنا في الخطاب الأنثوي الراهن فهو نزوعه، تحت عنوان دفاعه عن تحرّر الجسد الأنثوي، الى التركيز، غالبا، على العلاقة الجنسية، وما يفضي إليه ذلك، احيانا، من وصف للجسد في عريه، بحيث تبدو بعض الكتابة التي تتناول موضوعة الجسد والعلاقة الجنسية، أسيرة موضوعها. هكذا تندفع الى عزله عن سياقات اخرى لا ينعزل عنها لأنه يتشكل بها وفيها.
إن الكلام على الجسد في عرية وعلى الجنس وممارسته، ظاهرة عرفها التاريخ الأدبي والفني في اكثر من مرحلة من مراحله، في الشرق وفي الغرب. لكن هذه الظاهرة اندرجت في سياق اجتماعي، وطرحت اسئلتها على بنى التعبير وتشكلها الفني، أي ان تناولها لم يكن مسألة معنى او موضوع بل مسألة فنية.
أشير الى حركة التحديث الشعري وتمايزها الايقاعي والصوري (من صورة) لدى أبي نواس الذي عاش وعاين ظاهرة حرية الجسد الجنسية في الخمارات والقصور، في ذلك الزمن.
وأشير الى رسوم التعري التي عرفتها حركة الفن التشكيلي في الغرب. والتي اندرجت في حوار ثقافي عبّر فيه التعري عن التوحش. ودفع ببيكاسو الى تدمير وحدة السياق، او مركزيته، وإعادة تشكيله على قاعدة التفكك الذي غيّر معالم الوجوه والبنى والاشكال. (وهو ما عرف بظاهرة الفن التكعيبي الحامل لدلالات فنية تحيل على واقع اجتماعي ـ ثقافي).
الجسد الروائي
ليس وصف الجسد، او الكلام عليه في عريه، وفي ممارسته لعلاقة جنسية، هو ما يستوقفنا هنا، بل هو الفن الذي يقدّم، كما هو مفترض، نموذجا بمعنى ما هو مثال عام، نقرأ فيه ما نعانيه على مستوى الخاص. انه ما يعبر عن مشترك وليس ما يحتذى.
في رواية «حكاية زهرة» لحنان الشيخ، تذهب زهرة الى القنّاص، تمارس معه الجنس. زهرة أنثى تعاني من تسلّط والدها، الذكر، عليها. لكن مشهد ممارسة الجنس في الرواية لا يتحدد كممارسة لحرية الجسد. انه مشهد ملتبس، استطاع، فنياً، ان يرتقي الى مستوى الإيحاء بالتوحش المشحون برزمة من الدلالات المتروكة لأكثر من قراءة، بينها او منها، اندراج ما يمارسه الذكر، الأب، من عنف على الأنثى، في العنف العام، الحرب. ومنها الإيحاء بأن تدمير جسد الأنثى بالضرب الذي يمارسه عليها الذكر ليس بمعزل عن الحرب اللبنانية الأهلية التي تدمِّر جسد المدينة.
ثمة تعالق دلالي في الكلام على الجسد الأنثوي، وفي وصف العملية الجنسية ثري ومتعدد يطال حرية امتلاك هذا الجسد وإعطائه ولو لقنّاص! وقد يطال أموراً اخرى يزخر بها المشهد.
انه الفن ما نؤكد عليه الذي يسمو بالمعاني ويحول دون سقوطها في المبتذل.
الفن الذي نقرأ فيه ملامح مرحلة وخصائصها، اذ يبدع تشكلات التعبير عنها (عن المرحلة)، وبنى عوالمها المميــزة، القائمــة، هي ايضا، على الاختلاف.

----------------------
* عن ملحق السفير الثقافي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى