عبد الوهاب بن منصور - وأخيرا تحرك التمثال

وأخيرا تحرك التمثال بعد طور سكون ن ونطق بعد اتصال صموت، وانتفض انتفاضة مسحت ما فوق جبهته من غبار، ودلت على أن فيه بقية من حياة، بعد أن اعتقد الناس أو كادوا يعتقدون، أنه فقد الحياة من زمان... وفارقها من غير أمل في مراجعتها.
تحرك التمثال ونطق، فكانت حركته ونطقه مفاجأة للذين يئسوا منهما، وكانت فيهما البشرى التي غمرت النفوس ثقة، وأعادت الأمل إلى قلوب محبيه والمعجبين به، الذين كسرهم صمت خرق به عادته، وسكون جاء على غير المأثور عنه، فقد عرفوه متكلما بليغا، وخطيبا مفهوما، وعهدوا ألا يروه صامتا، وألا يروه إلا متكلما، وحدثهم آباؤهم عن أجدادهم أنه نطق كالمسيح في المهد صبيا، وأنه لم يؤثر عنه صموت خلال عمره المديد الذي طال اثنا عشر قرنا، وقد كانت حجته الحجة البالغة، وبرهانه البرهان القاطع، بل كان (حذام) المصدقة، فلا قول إلا قولها، ولا رأي إلا رأيها، وكان أبناؤه وحواريوه قادة البلاد وأولي الحل والعقد فيها، لهم الصدارة في المحافل، وعليهم المهابة في المجامع، وكانت إلى جانبه تشد الرحال، وتؤم الرجال من آفاق بعيدة، وأقطار نائية، ليملئوا القلوب والعقول بما يستحسن أن تمتلئ به من إيمان راسخ تثبت به الأقدام في المزالق، وعزيمة تخرق بها الأرض، وتبلغ بطولها الجبال، وحماس يخلق من العدم وجودا، وعلم يمكن للحضارة في الأرض، وحكمة تهدى البشرية إلى سواء السبيل.
كذلك كان التمثال في سنيه الخوالي، وقرونه السوالف، وكذلك كان أبناؤه. وحواريوه، وكان البلد به وبهم بلدا ممتازا، ممتازا بهذه الحرية التي جعلت عود أبنائه لا يلين لهاجم، ممتازا بهذه الصراحة التي يعد الممتحن عليها ظافرا بالشهادة، آئلا إلى نعيم الجنة. وممتازا بهذه المحافظة الدقيقة على القواعد التي تحفظ الكيان ن وتمتن البنيان، وتحمي صرح الوطن من التصدع والانهيار.
فالسكون الذي خيم على التمثال في السنين الأخيرة كان حريا أن يثير الدهشة، ويبعث على الاستغراب، والصموت الذي ركن إليه أبناؤه وحواريوه كان خليقا أن يحمل الناس على التساؤل والاستفهام، فقد صار التمثال وصاروا هم مع التمثال نكرات لا يقام لها وزن، ولا يسمع لها قول ولا يطاع لها رأي ، بعد أن كان له ولها وزن ن ولا يسمع لها قول ولا يطاع لها رأي، بعد أن كان له ولهم الوزن المقام، القول المسموع والرأي المطاع وصار التمثال وصاروا عما معه على هامش الحياة الوطنية، لا يضربون فيها بسهم، ولا يدلون فيها بدلو، وأصبح التمثال وأصبحوا هم معه أثرا من آثار العصور الخالية، يتندر به وبهم، ويسخر من قيمه وقيمهم، ويرتاح بمشاهدته ومشاهدتهم كما يرتاح صنف من الناس بمشاهدة الملابس الإقليمية، وسماع الأغاني الفولكلورية.
فما الذي أحال حال التمثال؟ وأحال حال أبنائه وحوارييه؟ وما الذي بدل الأرض غير الأرض والسماء؟ وما الذي غير فهم الناس للقيم وقلب نظرتهم إلى الأشياء؟ حتى كفروا بنا أمن به آباؤهم الأقدمون، وظلوا هم مؤمنون به إلى الأمس القريب؟ وحتى تنكروا لما كانت أنظارهم متطلعة إليه، وقلوبهم معلقة به؟ وله يمجدون؟
أيكون البلى دب حقيقة إلى جسم التمثال وإلى أجسام ماله من أبناء وحواريين، وفعل فيها حتى أصبح نقضا واجبا لأنها أصبحت تستعصي على العلاج ولا تقبل الإصلاح؟
أم تكون القيم أصبحت ذات مفاهيم جديدة بينما بقي التمثال مستمسكا بالمفاهيم القديمة لا يبرحها ولا يريم عنها، فنبذه الناس وتركوه وراءهم ظهريا، لأنهم يستحب هو ويدعو إليه من صدق وإخلاص واستقامة.
أم تكون روح التسامح سادت أهل العصر حقيقة، وأنارت سرائرهم بمشاعلها التي تفيض محبة وإخاء، فأصبحوا لا يأبهون بمقومات الأوطان والشعوب من دين ولغة، وثقافة وحضارة، بينما ظل التمثال في ظلمات القرون الوسطى متعصبا لما كان يتعصب له أهلها من مقومات أوطان وشعائر أديان؟ فجنى عليه هذا التعصب وصار به كما مهملا، ونسيا منسيا.
أم تكون عثرات بعض أبناء التمثال وحوارييه كونت في كلهم مركب نقص عقد ألسنتهم عن الكلام، وحبس ركبتهم عن القيام ن وردهم إلى مؤخر القافلة فصاروا يزحفون زحفا والناس في مقدمتها يجرون ويهرولون؟
الحقيقة أن سر سكوته وصموته العجيب.
فالبلى لم يدب إلى جسمه دبيبا يجعل معالجته أمرا مستحيلا، وإنما دب فيها بالقدر الذي دب إلى التماثيل والمرافق الأخرى، وتلك التي لم تستعص على تجديد ن ولم تمتنع على إصلاح، يوم تناولتها الأيدي المخلصة بالتجديد والإصلاح.
والمفاهيم الخلقية لم تتطور مع الزمان تطورا يجعلها والمفاهيم القديمة على طرفي نقيض، وإنما تطورت تطورا حل فيه الواقع المحسوس محل الغيب المحجوب، وعززت فيه آية التصوير الديني للسلوك، بآية التصوير العلمي له، وظلت الأخلاق القديمة مع ذلك النجعة التي تهفو إلى بلوغها قلوب الرائدين، والرقاة التي تفضي إليها مدارج السالكين.
والتسامح الذي ساد أهل هذا القرن العشرين، ولم يستأصل من نفوسهم ـ أفرادا وجماعات ـ جذور الاعتزاز بالمقومات التي تنبني عليها كيان الشعوب والأوطان، فإننا نرى أعرق الشعوب حضارة، وأشدها تشدقا بالتسامح والإخاء تربي أبناءها على الاعتزاز بتلك المقومات، وتحببها إلى نفوسهم الفتية القابلة لكل انطباع، كما نراها تقبض بالأيدي، وتعض بالنواجد على عقائدها التي تطمئن بها النفوس، ولغاتها التي تعرب عن القلب والعقل، وثقافاتها التي قوام مجتمعاتها، وأننا نراها لا تكتفي بتمجيد ذلك بين أبنائها، والتنويه به داخل حدودها، بل تعمل جاهدة لتجميدها بين أبناء غيرها، والإشادة بها في غير أوطانها، وتنفق على أبناء غيرها، وتنفق تلك الأموال الطائلة. ونرى أبناء هذه الأمة المتحضرة المتسامحة يضربون في الأرض ويمشون في مناكبها لهذه الغاية، لا تثنيهم حرارة المناطق الاستوائية ولا برودة الجهات القطبية عن هذا العمل الذي يرونه راجبا مقدسا، وخدمة لمثلهم الأعلى، ويجدون من اللذة في ذلك، والارتياح به، ما يجده الصوفي يتلو وردة في خلوة، أو الراهب يفرغ لعبادة ربه في صومعة أو محراب.
فإن كانت بعض العثرات هي التي كونت فيهم مركب النقص، وهي التي أخلدت بهم إلى الأرض، فأراهم قد حملوا أنفسهم شططا، وأرهقوها من أمرها عسرا، فما كان للعثرات أن تسكنهم بعدما ألفوا الكلام وما كان لها أن تخلق في أنفسهم مركبات نقص، بعد الذي قرؤوا من القرآن ودرسوا من السير والتاريخ، وتفهموا من التصرف القديم وعلم النفس الحديث:
(من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها) كلمة خالدة قالها السيد المسيح لأغرار من بني إسرائيل وحاولوا رجم امرأة زانية، فعادوا إلى رشدهم وكفوا من إيذاء المرأة لأنهم وجدوا أنفسهم جميعا مخطئين.
ولا (لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله) كلمة أخرى خالدة انفرجت عنها شفتا النبي العربي حينما رأى صحابته سكيرا يساق إليه فأخذوا يلعنونه، ومن الذي خلق من البشر معصوما من الأخطاء؟ ومن الذي ولد منهم ومات من غير أن تزل به قدمه زلة صغرى أو كبرى؟ وأي عظيم أو حقير من هذا الجنس لم يسجل عليه التاريخ خطيئة أو أثما، إن أبانا الأكبر عصى يوما وغوى، ثم تاب الله عليه وهدى، فالأخطاء التي قد تكون بعض أبناء التمثال وحواريه وقعوا فيها، وبعض المواقف السيئة التي وقفتها طائفة منهم مختارة أو مكرهة، ليس لها أن تحول بينهم وبين إصلاح الأخطاء وإتيان أعمال حسنة يذهبن السيآت، وليس لها أن تجبرهم على الصمت وتحملهم على السكون حتى يصبحوا لا يقام لهم اعتبار عندما تدرس مسائل هم بها الصق من غيرهم، وأكثرهم لها فهما بالتمرس وطول المران.
فكيف استساغ أبناء التمثال وحواريوه أن يسكتوا عن هذه الأخطار التي تهدد الكيان المغربي في دينه، وفي لغته، وفي تاريخه وحضارته؟ وهم الذين رفعوا العقيرة ضد الطغاة الاستعماريين يوم نصبوا حبالاتهم للإيقاع بالإسلام والعربية والحضارة والتاريخ المغربيين .
وكيف رضوا أن يقعدوا مع القواعد، ولا يشمروا عن سواعدهم لصد هذه الموجة الجارفة من الإباحية التي غمرت المجتمع المغربي بعد انطلاقه من قيوده؟ ألم ينسفوا بنيان الاستعمار من القواعد؟ أو ليسوا هم الذين جعلوا من حرمهم وما حوله من معاهد ومدارس أبراجا وحصونا تكسرت عليها نبال الاستعمار دون أن تنال منها أي منال؟ فلم الصموت إذن وعلام الخمود؟ ومن ورائهم شعب مسلم عربي لن يتنكر يوما لعروبته وإسلامه، وإن تاهت شرذمة من أبنائه في بيداء ضلال، وخدع أعينها سراب بهتان يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجد شيئا. ولم الصوت وعلام الخمود؟ وفوق أيديهم يد ملك حر كريم شديد الاعتزاز بدينه، والاستمساك بقوميته كثير التفكير في تجديد شبابهما، وإعادتهما إلى سابق عهدهما العزيز بهذه الديار.
وأما بعد: فإن المحاولات التي حاولها رجال القرويين في هذا الصنف ن والمساعي الحميدة التي سموها بالرباط مسحت ما على جبين التمثال من غبار ودلت على أن فيه بقية من حياة ن وعسى أن تكون قطرا يتبعه غيث .


عبدالوهاب بن منصور


دعوة الحق

13 العدد



أعلى