أحمد رجب شلتوت - حكايات كرة القدم من بورخيس إلى غاليانو

الكثير من الكتاب رأوا في لعبة كرة القدم جمالا لم يره بورخيس، فلم يكتفوا بالاهتمام باللعبة، بل كتبوا عنها أدبا، ولعل أولهم الأوروغواياني ماريو بينديتي من خلال مجموعته القصصية “أهالي مونتفيديو” الصادرة عام 1959، والتي ضمت قصة عنوانها “الجناح الأيسر”، وقد كتب بعدها عددا من القصص والقصائد عن الكرة ولاعبيها أشهرها قصيدته “وقتك اليوم حقيقة” عن اللاعب الأسطوري مارادونا.

أدب الكرة
تحكي قصة بنيديتي “الجناح الأيسر” عن عامل فقير يجيد اللعبة، وهو هداف فريقه الذي ينافس من أجل الترقي إلى دوري أعلى، يقوم مسؤولو أحد الفرق المنافسة برشوة العامل، يعدونه بأموال وبفرصة عمل أفضل بشرط ألا يحرز هدفا، وبالفعل يهدر كل الفرص التي تتاح له، لكن يخشى أن يكتشف أمره فيسجل من الفرصة الأخيرة، وبعد المباراة يذهب لمن قاموا برشوته مبررا إحرازه للهدف الوحيد، فيتعرض لاعتداء يلزمه المستشفى فلا يستطيع الذهاب إلى المصنع حيث يتلقى أجرا قليلا، ولا إلى الملعب الذي يوفر له دخلا إضافيا، في القصة كانت كرة القدم مدخلا لمناقشة قضايا اجتماعية وأخلاقية، والجناح الأيسر لم يكن مجرد لاعب كرة قدم بل كان إنسانا يتعرض للطحن بين شقي رحى، مثله مثل الكثيرين من “أهالي مونتفيديو”.
أما مواطنه هيراثيو كيروجا، فكتب قصة قصيرة بعنوان “انتحار في الملعب”، وهي عن حالة حقيقية تعرض لها أحد اللاعبين، حيث أطلق رصاصة على نفسه في دائرة منتصف الملعب.

أما أشهر الكتب في هذا المجال فهو أيضا للأوروغواياني إدواردو غاليانو وهو كتاب “كرة القدم بين الظل والشمس”، وقد خصصه للحديث عن أهم العناصر واللقطات في تاريخ اللعبة. كذلك صدر في مونتفيديو خلال عام 1971 كتاب “أدب الكرة” لروبرتو خورخي سانتورو، لسكّ هذا المصطلح الذي تنتمي محطاته الأكثر أهمية إلى الأوروغواي.

إلا أن السيادة في هذا النوع الأدبي انتقلت في ما بعد إلى الأرجنتين التي أصبح فيها هذا الأدب شعبيا، فربما لا يوجد الآن كاتب أرجنتيني لم يكتب عن الكرة، وها هو الروائي خوان ساستوريان، يقول عن التحول في النظرة إلى الكرة من بورخيس إلى غاليانو “كانت الكرة ظاهرة مثيرة للازدراء وترتبط بانعدام العقل والتفكير عند الجموع، لكن حينما باتت لثقافة الجموع أهمية كبيرة اتسع المفهوم، وبداية من سبعينات القرن الماضي بدأ يُنظر إليها بصورة أخرى، وبشكل أفضل، أما الجديد في الثمانينات فكان دخول كرة القدم كأحد عناصر الإبداع الأدبي بصورة اعتيادية”.
من أدب كرة القدم الأرجنتيني اختار المترجم المصري محمد الفولي خمس عشرة قصة قصيرة، تدور كلها في أجواء الملاعب، لثلاثة من أدباء الأرجنتين هم: أوسبالدو سوريانو، إدواردو ساتشيري، وروبيرتو فونتاناروسا، ضمنها معا في كتابه “حكاية عامل غرف”، الذي نشرته مؤخرا دار مسعى، ضمن سلسلة “صافرة” التي تهدف إلى نشر الثقافة الرياضية في مواكبة للحدث الأهم في عالم الكرة وهو كأس العالم التي تقام هذه الأيام في روسيا.
المترجم في مقدمة كتابه يصنف قراءه المحتملين إلى ثلاثة أصناف أولها جمهور اللعبة الأثيرة، حيث سيجدون في القصص ذكريات الصبا وحماسة المدرجات، وفي مقابلهم قراء لا يهتمون بالكرة ويتوقع المترجم أن تسهم قصص المجموعة في تغيير آرائهم.
فالكرة في القصص مجرد مدخل لعوالم إنسانية، بينما الصنف الثالث يجمع في محبته بين الأدب والكرة، ويعده المترجم بقصص رفيعة المستوى فاز مؤلفوها بجوائز، تتناول عالم لعبتهم المفضلة وتقدم من خلالها صورا للحياة في الأرجنتين. ومنها القصة التي منحت المجموعة اسمها “حكايات عامل غرف” للقاص روبيرتو فونتاناروسا، من مجموعته “كرة قدم خالصة” الصادرة عام 2000، حيث الراوي عامل غرف خلع الملابس يرى نفسه اللاعب الأكثر أهمية؛ إذ يتغير اللاعبون والمدربون بينما يبقى هو صامتا مجهولا، وكأنه مدفون هناك أسفل القاعدة الإسمنتية للمدرجات التي تبدو كخندق.
ورغم أهمية عمله من وجهة نظره إلا أن حلمه يتركز في قرار منتظر من الاتحاد الأرجنتيني لكرة القدم، يلزم الفرق بذكر اسم عامل غرفة خلع الملابس ضمن قائمة اللاعبين. حيث تعرضها اللوحات الإلكترونية ويقرأها الجمهور.
ينتهي الكتاب بقصة “عالم بدون كرة” للكاتب غوستابو لومباردي من مجموعته “كرة من ورق” الصادرة عام 2016، ويحكي فيها تجربة فانتازية لعالمٍ يعيش بعد 450 عاما بعد آخر مرة كانت فيها الأرجنتين بطلة للعالم، حيث كان ليونيل ميسي، هو البطل الأرجنتيني الأخير، وكيف أصبح العالم بعد أن استغنى عن اللاعبين وعن الشغف بهذه اللعبة.
فالعالم سمع عن اللعبة وهو يعدّ رسالته للدكتوراه، في عام 2463، عن طريقة عيش السكان القدامى لكوكب الأرض، وبالطبع تناولت الدراسة أبعاد المساحة التي احتلتها تلك الرياضة في حياة البشر أيام كانت تتوافر مساحات خضراء تصلح لممارسة اللعبة. كانت “الكرة رمزا لحقبة”، بينما الآن -يقصد عام 2463- لم يعد يمارسها إلا بعض التائهين من سكان الكوكب الذين يمارسونها كشعيرة قديمة.

وتبنى الروائي الأرجنتيني أندريس نيومان نفس المعنى، بقوله “الأدب بالفعل يستطيع إنقاذ الجانب الجمالي من اللعبة. ولا يتعلق الأمر بالجانب الفني فقط، بل بإسهام الأدب، ضمن أشكال أخرى كثيرة، في خلق نوع من الذاكرة الجمعية، وذلك من خلال التعمق في مضمون الرياضة، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى الدوائر السياسية. حيث يمكن للذاكرة العاطفية لدى الناس، والذاكرة السياسية لدى الدول الاستعانة ببعض المباريات كمرجعية”.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى