مارك أمجد - نشيد الجنرال

لماذا لم يفعلوها؟ لأن الجنرال تراجَع عن قراره. ألا ترونه مبررًا ساذجًا لنجاتي؟ أتفق معكم جدًا.
رأيتها في نومي تضاجِع اثنين من أصدقائي. الغريب أنها فعلتها هذه المرة مع اثنين. استنكرتُ فِعلتها، فهي مخطئة، حتى لو كان مجرد دور تؤديه في حُلم. ألم تعلم أنها في مثل هذه اللحظة داخل رأسي؟ لو تكلفت النظرَ حولها للمحتْ نتفًا من أفكاري وعلمت أين هي الآن. تتساءلون هل مِن الطبيعي أن يحلم شاب بهذا تجاه مَن يحبها؟ مَن عرَف النساء منكم لن يدخر جهدًا ويتهمها بالخيانة. ومَن استمر ينظر مِن ثقب بتولية أمه، سيشعر رغمًا عنه بالشفقة. تجاهي.
المطر خربشَ نظارتي ولطَّخ جزمتي. صار بإمكاني رؤيتها وهي تسير بمحاذاة العشب الذي يتوسط الطريق السريع. أمامَها وخلْفها السيارات تمر بأطيافها، والمطر يرتطم بالضوء. تملك جرأة عني في عبور الطرق. حينما عبرتْ وصارت تقف قبالتي لاحظتْ وجهي العابس. هل عليّ أن أخبرها بشأن الحلم؟ لا، على الإطلاق. سألتني إن كانت هي سبب كآبتي. هززتُ رأسي نافيًا. طلبتْ برهانًا. ماذا؟ عانِقني. عانقتُها.
التفتنا للخلف لنعرف ما إنْ كنا سنوقف تاكسي أم نذهب سيرًا. فقدْ كان علينا اللحاق باجتماعها مع فريق متطوعي مستشفى سرطان السيدات الذي انضمت له أول ما تعرفتُ عليها. وقتَها لم يساندها أحد غيري، إذ رأى الجميع بما فيهم أهلها أنه مضيعة للوقت، أمّا أنا فقلت إنه عمل خيري. على أية حال حينما تعيد سرد تلك القصة عليّ الآن أراها جملة مِني في منتهى السذاجة. معها كل ما أقوله هو محض تفاهة. لا لأنها تقلل منه، أو لأني أملك من المشاعر تجاهَها ما يرغمني أن أكون متيمًا يتلعثم، بل لأني استحضر في جسدها غطرسة أمي.
شعرتُ بيدٍ تربت على كتفي فاستدرت. كان رَجلًا لا يمثل هنا أي أهمية، لذلك سأتجنب شكله أو زيه لأني لا أتذكرهما من الأساس. “كلِّم الباشا” هذا هو كل ما قاله مشيرًا بيده. هذه الجملة أيضًا ربما لم تُقَل وأنها مِن خيالي، لأن ما تلى ذلك كان من القوة بأن يدهس أي تفاصيل قبلَه؛ مثل ماذا كنت أشعر حتى، إذا اعتبرنا هذا له أهمية أصلًا هنا، أو ما كانت تلبسه هي، أو ما رأيته أنا مِن تفاصيلَ أطعم بها القصة، وكل هذه الكليشيهات. فهذه قصةُ حَدَث، ستقبله كاملًا دون تجزئة، وعندَها لن تهمّك أي تفصيلة. المهم الآن؛ ماذا يشبه الأمر إذا قضي عليك بسبب شيء لم تعُد متمسكًا به؛ مثل قبطي تتفجر أشلاؤه بكنيسة ليلة عيد قبل أن يخبر الكل بأنه ألحَد.
أول ما التقطَه نظري كان سيارة شرطة محملة بعدد من العساكر في ملابسهم السوداء. وكي يجد الموقف ما يدعمه ضدي ويعزز سوداويتَه فقد استطعت، حتى مِن خلف المطر الذي صار مع غزارته كشبكة من الألمنيوم، أن أرى ابتساماتِهم. وكنت قد خمّنت لماذا أوقفونا، ولماذا يضحك هؤلاء كصبية يراقبون كيلوت منشورًا. أمام هذه السيارة وقفتْ أخرى يجلس في مقدمتها أربعة رجال منهم قائد هذه الدورية. ولستم في حاجة كي أذكّركم بأني سأتحاشى أيضًا تفصيلة رُتبتِه، بيْدَ أنني سأسمّيه طوال الحكي بالجنرال. في الطريق إليه كان خفقان قلبي يتردد صداه بجسدي كله حتى شعرت بلحم رقبتي وكأنه سينفجر وتَخرج منه دوائر مشعة تمتد للجهة الأخرى من الطريق. وفكرت لوهلة أن أستنجد بالرب، لكني تذكرت أننا متخاصمان منذ زمن بعيد.ومِن الخسة أن ترجع علاقتنا، إذا رجعتْ، بهذا الشكل النفعي.
كان الجنرال خلْف نافذته يدخن سيجارته ولا ينظر لنا. له شَعر أبيض وملامح جاوزت الخمسين. أشار بيده طالبًا بطاقة كل مِنا. أخرجتها بيدٍ مرتعشة وأنا أعرف ما ستؤول إليه الأمور. راح يقلبهما يقرأ البيانات أمامًا وخلفًا. هناك مشكلة بشأن المصائب التي نخشاها لدرجة الفزع، وهي أننا نتخيلها مرات كثيرة قبل أوانها، وهذا التكرار لا يخفف من وزنها عند وقوعها، ولا يزيدها رعبًا، بل يجعلها في منتهى السخافة.
“من أين تعرفها؟ “.
“الجامعة؟ “.
“وكيف تجرؤ على معانقتها هكذا وتقبيلها؟ “.
“لم يقبِّلني”.
“حتى لو عانقك، فهو فِعل فاضح في الطريق العام”.
“العناق فعل فاضح في الطريق العام! لم أكن أعرف شيئاَ كهذا”.
“لم تعرفي. إنه مسيحي وأنتِ مسلِمة، كيف تسمحين له بأن يضع يده على جسدك؟ مُحال أن يمر هذا الموقف هكذا. ستأتيانِ معي للقِسم”.
بعينين أستطيع جدًا تخيلهما الآن نظرتُ إليها. ثم التفتُّ إليه “هي لا تقصد ما قالته. نحن مخطئان فعلًا. “. لم أجد ما أكمل به.
“ماذا يعمل والدك؟ ” سألها.
“مستشار، لكنه متوفي”.
“وأمك؟ “.
“تعمل بشركة تأمين، لكنها ميتة”.
“هل لكِ إخوة أولاد؟ “.
“نعم لي أخ”.
“هل لو هاتفته الآن وأخبرته ما رأيتك تفعلينه سيرحب بالأمر؟ في أي جامعة تدرسان؟ “.
“جامعة القاهرة” هي مَن أجابت، كنت قد فقدت القدرة على الكلام.
“أنتما في جامعة حكومية، لستما مِن أولاد الأثرياء إذن. لماذا تقترفان شيئًا كهذا؟ “.
ظللنا صامتيْن. كان المطر ينهمر بشدة. اتجهت ببصري لأجد الطريق متوقفًا خلف سيارتَيْ الشرطة. هل سيشاهدني كل هؤلاء وأنا أصعد البوكس؟
“أنت مسيحي وهي مسلِمة، ما الذي تظنانِه بالضبط؟ أخبراني! “.
لم أرُد.ولم يكن يشغلني سوى شيء واحد.مَن أول شخص سأتصل به حينما سيشير الجنرال كي أركب معهم.
“دعنا وحدنا! ” انتبهتُ لجملته، وربما كانت جملة مبشرة إذ لاحظت البخار المندفع من فمِه حينما نطَقَها. فقبْلَ ذلك لم أكن قادرًا على ملاحظة أي تفاصيلَ أو ربطها ببعض. لم أستغرق كثيرًا في تأمل يدِه التي أشاح بها وهو يأمرني. سألته عن بطاقتي التي في يده “لا تقلق”. رجعت للخلف حتى صار يفصل بيني وبينهم عدة أمتار. وقفت على الرصيف. الاطمئنان كان قد بدأ يتسرب إليّ، فلم أجد مشكلة في أن أبادل العساكر الجالسين بالعربة الثانية النظرات. كانوا يهمسون لبعضهم بكلمات، ولماذا سيهمسون؟ أنا المرتجف هنا، كانوا يتكلمون بصوت عادي لكنه لم يصلني. وكانت الابتسامات من وقت لآخر تنبثق مِن وجوههم كالدمامل.
بعد دقائقَ عادت إليّ، ثم بدأت العربتان تتحركان ومِن بعدها بقية السيارات التي تعطلت بسببنا، والتي لم نسمع بوق أي واحدة منها.
“هل سنسير أم أوقف تاكسي؟ “.
“دعنا نسير قليلًا حتى نطمئن أنهم مضوا بعيدًا”.
لاحظتُ أنها تسير متقدمة عني بخطوات “ماذا قال لكِ؟ “.
“قال أنتِ يا ابنتي مِن الريف لماذا تنخرطين في علاقة كهذه؟ لو كان مسلمًا لتركتكما، لكنه مسيحي وهو لن يخطبك أو يتزوجك. هذا الأخرق لو دقق في البطاقة جيدًا لَمَا ظن أني فلاحة”.
أنا الأخرق هنا.
“لماذا لا تتكلم؟”.
يجب أن تنتهي هذه العلاقة قبل أن يُقضَى عليّ.
“تكلَّم أرجوك لا أستحمل صمتك هذا”.
“ما الذي سأقوله؟ مستقبلي كله كان سيُدمر في لحظة واحدة وبكلمة مِن هذا العنصري. وأنتِ ما الذي قلتِه؟ لقد تفوهتِ بحماقات كان مِن شأنها أن تضع في يديّ الأصفاد”.
امتزج صوتها فجأة بتلك النبرة التي تسبق البكاء “آسفة، آسفة، لم أكن أعرف أن ما قلتُه سيزيده غضبًا. لكني أدركت هذا بسرعة وسايرته”.
غبية. جميعكن غبيات.
“تكلّم مِن فضلك، إنه موقف صعب لنا نحن الاثنين، لا تكُن أنانيًا”.
صفعتُها. ولم أفكر إن كان مِن حقي أن أصفع بنتًا مسلِمة وأنا مسيحي.
“أنانيًا! أنانيًا! أي درجة مِن العَتَه تندرج تحتها رأسك؟ كل ما حدث لا يعنيكِ أنتِ، هذا الرجل لم يهمه شيء في الأمر سوى ديانتي. ببساطة كان سيشير لي كي أركب البوكس وأذهب معه للقِسم. هل تظنين مثلًا أنهم كانوا سيأخذونك أنتِ أيضًا؟ “.
“اهدأ من فضلك، لم أكن لأتركك”.
“وما الذي كنتِ ستفعلينه؟ “.
“لا أعرف. لكن صدّقني، لم أكن لأتخلى عنك”.
“”ترهات”.
“أعرف أنك لا تثق في أحد، لكن صدّقني لم أكن لأخذلك خاصة وأني أنا السبب، ليتني ما طلبت منك أن تعانقني”.
“أي غباء هذا يدفعني كي أقضي على نفسي بنفسي، ومِن أجل ماذا التضحية؟”
“لا تُحمّل نفسك ما يفوقك، أنا أيضًا مشتركة معك في الأمر. ما الذي تقصده بـ “من أجل ماذا؟ ” هل ستتركني؟”

توقفتُ واستدرت لها “ماذا؟ هل تريدين إظهاري مرة أخرى في دور الأناني؟ حينما سألتك ما الذي قاله لكِ أول ما تذكرتِه أنه نَعتكِ بالفلاحة”.
“لأن هذا ما بدأ به كلامَه”.
كان مِن المفترض أن أبيت الليلة بالقِسم. علي أن أنتهز فرصة نجاتي. سأنهي كل شيء الآن. لقد فضح الموقف أنانيتها.
“لا تصدقني، أليس كذلك؟ ” تشيح بوجهها “لا أصدق كيف أظهر عنصريته بهذه الفجاجة، لو كنتَ مسلِمًا وضبطوك بتفعص فيّ لتركونا”.
“لماذا أنا مرتبط بفتاة في غبائك؟ لماذا تُقللين من خيالي بهذه الدرجة؟ منذ أن ناداني أحدهم كي أكلم هذا الضابط وقد دار بذهني كل ما وقع. كنت أعرف أنه سينظر لخانة الديانة، وأنها ستلهيه عما رآه، وربما بدلًا من كل هذا الحوار كان أمَرني من البداية أن أركب مع العساكر في العربة الثانية. أنا أعرف كيف يفكر هؤلاء؛ فأنتِ في نظرهم فتاة ضالة وأنا القبطي الذي يغتصِب بناتهم”.
“آسفة. صدّقني لم أقصد التقليل منك. أتحدث هكذا لأني لا زلت متوترة”.
مدت يدَها كي تمسكني كما كانت تفعل من قبل، لكنها سرعان ما أرجعتها مرة أخرى، كأن صورة الجنرال وهو مُمسِكٌ سيجارته ما زالت تلاحقنا. توقفت وتنحيت جانبًا. كنت أتنفس بصوت عال. عيناي تحملقان في شيء خارج ما حدث، بل خارجي وخارجها. ظللت أتبعه بعينيَ، أبتلع ريقي محاولًا ألا يفلت مني، وفي اللحظة ذاتها لا أريده أن يخنقني “ليس لي أب”.
“أرجوك لا تبكِ، نحن في الشارع ولن يمكنني فعل أي شيء. انتظِر، ها هي المستشفى قد اقتربت، هناك سنكون بحريتنا وسآخذك في حضني”.
عند بوابة المستشفى أظهرتْ هويتَها وأخبرتهم بأني خطيبها. في المصعد لمستني على نحو غير متعمد فأجاب جسدي برعشة لم أقصدها.
كان الطابق الذي سينعقد به اجتماعها شِبه مظلم. جلسنا في مكان تتسنى فيه رؤية بعضنا. لم أقوَ على التحمل أكثر من هذا. انفجرتُ في البكاء.
“لا، لا إذا كنت تُحِبني حقًا لا تبكِ. الموقف صعب أنا أعرف لكن أرجوك لا تفعل، فأنت بعدَها تتعب وتتقيأ”.
“الموقف صعب عليّ أنا، أنتِ صامدة منذ كنا واقفيْن أمام الضابط. سأعود للمنزل متأهبًا في أي لحظة كي يلاحقوني، أمّا أنتِ فستنامين شاعرة بِكَم أنتِ مهمة عند آخرين لا يعرفون عنكِ سوى أنكِ مسلِمة”.
هنا عليّ التطرق لأمر خطير لا يتعلق بالحب أو الطائفية أو البوليس. هناك جانب مهم جدًا من المشكلة لن يسعني الاعتراف به لها، لكني وللغرابة ممكن جدًا أن أكتبه لكم. ما ضاعفَ شعوري بالكراهية تجاهها ليس فقط إحساسي بالقمع وأنها بالنسبة لي مثل رداء هربَ به سجين ونسي أن يخلعه في الطريق، هناك سبب آخر ربما هو المحرك الأول لهذه الملحَمة التي تشهدونها بين حبيبين. أتخيل بعضكم أو معظمكم يتعاطف معي، لكن لنزيح الملاءة عن شيء آخر. فأنا أغارُ منها إذ وقفت هي ترد على الجنرال بمنتهى البجاحة، بينما كنت أنا أرتعد.وكل الانتقامات، هنا وفي صفحات أخرى كتبتها أول ما أدركتُ انتمائي لتلك الأقلية الفاشلة، استحالت أمامَه نشيدًا.
“أتعرفين، أنا لست جبانًا، كان بإمكانك الحديث لأنكِ في نهاية المطاف مسلِمة، أمّا أنا فلو كنت نطقت بشيء مما يتفوه به الناشطون الأقباط لَمَا تركني أبدًا”.
“أعرف. كنتَ على حق وكان عليّ أن أفعل مثلك، فقط نهز رأسنا ونعتذر، ألم تلاحظ حينما عرَف أن أمي وأبي ميتان كيف حرك دماغَه في أسى. كان يبدو علينا التشرد، كما أننا لم ننطق بحرف واحد.كل ذلك دَفَعه كي يتركنا”.
“ربما خشي التورط في قضية طائفية”.
“نعم، معك حق. المهم أننا بخير الآن. أرجوك لا تفكر إلا في هذا”.
لهذا علاقتي بها استمرت طويلًا، عكس علاقاتي السابقة. فما أراه أنا سيئًا لدرجة الإلهام، تراه هي ينتهي مع العناق أو الرضاعة من ثديها أو التربيت على جسدي. ربما يبدو هذا الفعل منها ضحلًا، لكن مَن يعلم ما الذي كان سيصيبني لو أن حياتي كانت تفتقر لمثل هذه السطحية الشافية. ولو كانت أكثر عمقًا أو بتعبير أدق لديها الخفة نفسها في البحث عن الكآبة، لمّا أخبرتها بأن سبب بكائي ليس ما حدث، بل لأنه لم يكن هناك أبٌ أتصل به في هذا الموقف، بل لم يكن موجودًا أصلًا منذ بداية حياتي، كي يهمس وقتَها في أذُني ويحثّني كي أرد على الجنرال، بنفس بجاحتها.
دخلتْ اجتماعَها وبقيتُ أنا بقاعة انتظار المستشفى غير المُضاء منها سوى ركن صغير. أحصيت الوقت، رغم شعوري بأنها سبب ما وقع أو كان سيقع لي، لن أطيق بعد الآن الوحدةِ مرة أخرى. لأن الوحدة تعني الخوف. لكن هل هذه المرة معها أيضًا؟ هي حتمًا ستشمئِز مِن نفسها إذا شعرت أني كرهتها بسبب ما حدث، أنا لا أكرهها. أو ربما أكرهها، لا أعرف. لكني بالأخير لم أعد أحتمل عدم ثقتي بها، وتلك الأحلام المتواصلة التي أراها فيها تخونني مع شخص أعرفه. ها هي الفرصة تُطرح تحت قدميّ كي أهرب بطريقة مبررة جدًا. بإمكاني أن أنهي كل ذلك. أن أدخل في علاقة مع مسلِمة أخرى بغير أدنى التزامات هذه المرة؛ كل ما عليّ فعله أن أنهض الآن واترك المستشفى ولن تتسنى لها رؤيتي مرة أخرى.
احتضنتُ رأسي بكفَيّ ورحت أحملق في البلاط. ألفيت جسدي يهتز والدموع تشق خديّ. بيْدَ أن ما سقط على الأرض كان بقعًا من الدم.
بادئ الأمر ظننته دمي، ولو كان، لاغتبطت كثيرًا بنبأ موتي. لكن لسوء الحظ تلك البقع كانت لشخص آخر يجلس بجانبي. رفعتُ بصري. كان عاريًا. جسده مثخَن بالجراح، يغطيه مئزر بلون دمِه أو أكثر قتامة، بدا وكأن أمه مَن خاطته له. وكان على رأسه إكليلا مِن الشوك وفي يده عصا رفيعة وعند صدره عُلق على قماش المئزر صفيحة نحاسية صغيرة كتب عليها “ملك اليهود”.
أتاني صوته مبحوحًا مثل مارلن براندو في فيلم The Godfather
“لماذا أنكرتني؟ “.
“ماذا؟ “.
“أنت، في سرك قلت ليتني ما كنت مسيحيًا”.
“وما الذي يعنيك أنت إن كنتُ مسيحيًا من عدمه، ألا تَظهر إلا وقت المصائب؟ ماذا تظن نفسك؟ هل صدّقتَ تلك الرواية بأنك تقود غنمًا؟ “.
“لا تزعق لي هكذا، أنا مَن فديتك وليس العكس”.
“أنت تشبِه أبي حينما يقول لي أنا مَن أصرف عليك وليس العكس. أنت تشبِه الجنرال، والجنرال يشبِه أبي. كان بإمكانه ألا يتزوج أمّي وأن يكتفي بمضاجعة الشراميط، وأنت الآخَر كان في وسعك أن تطيع كازانتزاكيس وتنزل مِن على الصليب كي تنام مع المجدلية وتعيش في سلام”.
“أنت ولد وقح”.
“هذا جيد، أقصد حينما ينعتني شخص في شهرتك بأني وقح”.
“إذا كنتَ تكرهني لهذا الحد لماذا لا تترك المسيحية؟ إننا مسالِمون لن يهرع أحدهم خلْفك بفأس كي يقتلع رأسك إذا فعلتَها”.
“المشكلة أني أحِب اسمي. كما أن هناك الأزهر وأمن الدولة وأمّي. صدّقني حينما أخبرك بأن المشكلة لا تتعلق بترددي. لقد لطختنا مسيحيتك يا يسوع كما قال كونديرا، هل قرأتَ له؟ هل تقرأ أصلًا؟ هل أحببتَ مِن قبل؟ “.
أشاح بوجهه عني.
منذ سنوات شاهدت مسرحية بإحدى الكنائس. كانت بين فتى أهوج والمسيح. في نهايتها يطفح الكيل بالشاب. وبحركات لم تَخلُ من عنف يصلب يسوع ويغادر المسرح. فإذ بالجمهور يصفق بحماس من أجل تلك النهاية المفاجِئة. في موقفي الحالي يبدو التكنيك الذي استخدمَه ذلك الكاتب المسرحي في غاية السذاجة، وهو يناسِب جدًا مخيلة بسيطة لفنان مسيحي. لأن المسيح صُلِب منذ زمن طويل وها هو شبحه يلاحقنا حتى الآن، لا لأنه حقيقي، بقدر ما نملك نحن من المشكلات والمرايا ما يكفي. إذًا، فصلبُه على يد الرومان وصلبُه بتلك المسرحية؛ الاثنان لم يُجديا نفعًا، والدليل أنه يجلس الآن بجانبي.
هناك نوعانِ من الناس في الغضب، البعض ينتقم مِن عدوه والبعض تختلط عليه الأمور فينتقم مِن الآخرين بإيذاء نفسه. أُمّ شتمتْ ابنها لسبب ما فإذا به يقرر وبعنادٍ أنه لن يذهب معهم ليلًا إلى الفرح الذين هم مدعوون له جميعًا. سيسألها الجميع أين الجنتلمان؟ ستشعر بحرج، ينهرها زوجها، تعاتِب نفسها، تتمنى لو أنها لم تشتم الابنَ من البداية. هذا ما سيظنه، أو سيعدو كحصانٍ في ذهنه. لكن الحقيقة هي أنه لن يكترث أي أحد لغيابه أصلًا. في ذات الحين سيظل هو مقتنعًا بأنه بذلك يعاقِب أمه، غيرَ مدركٍ بأنه ينتمي لتلك الفئة الأخرى، التي يختلط عليها الأمر.
مطر.
***
نظرتُ إلى الأسفل، ليست المرة الأولى التي أكون فيها على هذا العلو، الأمر أشبه بالألعاب التي يصل ارتفاعها لحد يمكّنك من رؤية الأهرامات. جاء غراب ووقف على حافة صليبي فلم أكترث. أمّا هو، يسوع، فقدْ ظل يحدثني عن الشعور الذي يخامره في كل مرة يصلَب فيها. ومثلما يفعل الابن الذي صمم ألا يذهب معهم للفرح، لم ألتفِت له.
“ما هذا؟ عضوك منتفِخ! ” سألني.
“وما المشكلة، هل تظن أن صلْبي معك أمْرٌ يمنعني مِن أن أكون إنسانًا. لقد رأيت امرأة وكوْني عريانَ فهذا في حد ذاته يثيرني، كيف سأمنعه مِن الانتصاب؟ “.
“أتعرف، مسيحيون أكثر إيمانًا منك لا يجرؤون أن يعتلوا الصليب مثلما فعلتَ أنت” قالها ثم علت وجهَه ابتسامة لم تتناسب مع ذراعيه المفرودتين، وكي أغالب برودة الجو تخيلتهما كفستان سهرة موضوعٍ على الفراش.
“ليس كل مَن يُصلَب يا يسوع مسيحًا”.
“لكنك بالأخير فعلتَها”.
“نعم، وسأظل ها هنا حتى تشعر بمدى ثقلك عليّ”.
رمقني بنظرة لومٍ ثم سدَّدَ بصره نحو الطريق المكتظ بالسيارات في الأسفل “أنا عطشان”.
“أمّا أنا فمُطمئِن جدًا”.


* القصة من مجموعة نشيد الجنرال


مارك أمجد.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى