كريم الفحل الشرقاوي - الخطيبي المفكر الأرخبيلي ..

الكتابة .. ارتحال .. تمزق .. تشرد فكري .. رجم للسرديات الكبرى المهيمنة ... هذا ما كانت تلسعنا به كتاباته التي طالما أثتت متخيلنا الفكري و النقدي و الإبداعي بحفرياتها الإبداعية و السوسيو ثقافية التي أغنت الفكر المغربي و العربي و الإنساني . إنه عبد الكبير الخطيبي المفكر و الفيلسوف و السوسيولوجي و الأنتروبولوجي و الروائي و الشاعر و المفكر الأرخبيلي الذي اختارت جزره الإنفصال عن القارات الفكرية الشمولية لهوسه المشبوب برجم الأنساق الكبرى و نسف مركزية المركز و تهشيم الإيديولوجيات المهيمنة و الكليات المتكلسة و المحنطة يقول عنه رولان بارت " إنّني والخطيبي نهتمّ بأشياء واحدة .. بالصور والأدلة والآثار والحروف والعلامات . وفي الوقت نفسه يعلمني الخطيبي جديداً .. يخلخل معرفتي لأنّه يغير مكان هذه الأشكال كما أراها .. يأخذني بعيداً عن ذاتي إلى أرضه هو .. في حين أحسّ كأني في الطرف الأقصى من نفسي . كما أنّه في علمه دائماً يبحث عن الجديد ولا يقف أبدا عند عتبة الأبواب . إنّه يلجها بكثير من المغامرة وكثير من الحذر العلمي الباهر . إنّه يفكّكها ويعيد تركيبها من جديد "...
لقد كان في كل رحلاته الفلسفية و السوسيولوجية و النقدية و الإبداعية يهاجر إلى مستنقعات الهامش منقبا عن أنساقه المنسية التي تنتعش بين التشققات و التصدعات و المنحدرات ... ملتقطا المفاهيم المدفونة و الملفوظة و المقصية والمطرودة والمطاردة من طرف سدنة الفكر الممركز و عسسه و حراسه الأوفياء . يقول الخطيبي " تعلمت الحداثة في الهامش و ليس في السوربون العتيقة " هكذا اختار الخطيبي الإقامة دوما و أبدا في معمعان الهامش .. لكنها إقامة مؤقتة .. متوترة .. متعسرة .. متوجسة من تحول هذا الهامش إلى مركز بذاته .. لهذا كان يحترف الترحال إلى هوامش الهامش مستوطنا خطوط التماس حيث الارتياب المطلق .. وحيث الانتماء المطلق إلى خطابه اليتيم الرجيم . يقول الخطيبي " يريد الآخرون أن يؤطروني في خانة ما .. والحال أني ممتهن لقياس المساحات " . إنها مساحات بلا ضفاف .. منفتحة على رياح الشمال والجنوب وفق مشروعه النقدي الموسوم ب "النقد المزدوج" الذي يرسم لنا الخطيبي خطوطه العريضة بقوله " ينصب النقد المزدوج علينا كما ينصب على الغرب . ويأخذ طريقه بيننا وبينه . فيرمي إلى تفكيك مفهوم الوحدة التي تثقل كاهلنا والكلية التي تجثم علينا . وهو يهدف إلى تقويض اللاهوت والقضاء على الايديولوجيا التي تقول بالأصل والوحدة المطلقة ". إنه معول نقدي حاد الزوايا و مزدوج الضربات لا يتهاون و لا يتوانى عن زعزعة مركزية الفكر الغربي و تفكيك بنية الموروث العربي الإسلامي على حد سواء . باعتبارهما سلطتين نافذتين و متجذرتين في وعينا ولا وعينا الجمعي . فالتراث اللاهوتي العربي الإسلامي يعمل على إلغاء و إقصاء بدعة و ضلالة الإختلاف و الفكر الغربي يمارس مركزية كليانية متعالية تبخس الثقافات الأخرى وتلقي بها نحو الهامش . لهذا سعى الخطاب النقدي لعبد الكبير الخطيبي إلى زحزحة البنيات المتمركزة للأطروحة السوسيولوجية الكولونيالية و منها سيتمدد مدماكه النقدي لمساءلة مركزية الفكر الغربي برمته وهو ما سبق أن راهن عليه "مارتن هايدغر" الذي حاول التخلص أو بالأحرى "الخلاص" من أنساق الفكر الميتافزيقي الغربي عبر خلخلة كل المفاهيم التي تشكل البنية الصلبة للعقل الغربي . غير أن الخطيبي كان أكثر قربا من تفكيكية جاك ديريدا مؤكدا ذلك في كتابه "المغرب المتعدد" حيث يقول " إني أقتبس هذا المفهوم من جاك دريدا بالنظر إلى أن فكره هو أيضا حوار مع مجاوزة الميتافيزيقا كفكر نقدي تأكيدي يبني خطوة خطوة فكر اختلاف ما بين الفلسفة والعلم والكتابة . وأن التفكيكية بما هي تدمير للميتافيزيقا الغربية وكما يمارسها دريدا بطريقته الخاصة جدا التي رافقت تصفية الاستعمار كحدث تاريخي " . هكذا تسلح الخطيبي بالترسانة التفكيكية الدريدية المشبعة بفلسفة الاختلاف محاولا اقتلاع السوسيولوجيا االمغاربية من بين كماشة علم الاجتماع الكولونيالي و الاستشراقي بكل ألغامه المدفونة في وعي ولا وعي العقل الغربي المتمركز حول ذاته . و هي المركزية الكليانية التي حاول زحزحة طمأنينتها و زعزعة استقرارها دون أن يغفل عن توجيه معاول منهجه النقدي التفكيكي إلى تراثنا العربي الإسلامي محاولا مداهمة معاقل الفكر الجبري اللاهوتي موجها راجماته النقدية للآخر و للذات في نفس الآن . محطما أوثان السرديات الكبرى التي تؤمن بالوحدة والأصل و المرجعية المقدسة ... وهو الأمر الذي دعاه لتوجيه معاول نقده التفكيكي للتقليدانية و السلفية والعقلانية التاريخانية . وبهذا انزاح الخطيبي عن جل المشاريع الفكرية المهيمنة على الساحة العربية رافضا الأطروحة التقليدانية التي تطبع الهوية بطابع لاهوتي دامغ .. و الأطروحة التوفيقية للخطاب السلفي الذي مافتئ منذ ليل الأزمنة القديمة يرتق خطابا تلفيقيا ما بين الدين والفلسفة تارة و الدين و العلم تارة أخرى . كما أن الأطروحة العقلانية في شقها التاريخاني إنتهت إلى السقوط في الأسلبة النسقية للمركزية الميتافيزيقية الغربية عوض ممارسة حفرياتها المعرفية واشتقاق أسئلتها من الهنا و الآن .
إن الخطيبي ككل مثقفي أبناء جيله كان مسكونا ومهموما بسؤال الهوية لكنه يحذرنا كما يذهب الأستاذ فريد الزاهي من " السقوط في ما يسميه بالهوية العمياء . أي تلك التي تعمى عن رؤية المغاير في ذاتها . و تعتبر نفسها وحدة متراصة وخالصة . الهوية حين تفتقد البصر تنفي الآخر و المتعدد و المغاير و تمارس سلطة الأصل والأصيل . إنها ترتكز على إسلام وحيد وفكر أوحد . في الحين الذي يعتبر الخطيبي أن الإسلام كيان تاريخي و متعدد . و أن هوامشه اليقظة هي التي تصوغ هويته المنفتحة المتبصرة . كالتصوف والفكر النقدي والفلسفي والفكر التاريخي " . إن الهوية ستشكل الخيط الناظم لكل حفريات الخطيبي سواء منها الفكرية أو النقدية أو السردية أو اللغوية ...حيث سيقوم برفع الحصانة عن جذورها الطاهرة و أصولها المقدسة و شعاراتها الوهاجة و اختلافها الوحشي و موضعتها في سياقها البيثقافي الذي يراهن على إعادة صياغة الوعي النقدي للذات و الآخر .

كريم الفحل الشرقاوي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى