إسماعيل كاداريه - مرسوم الإعماء.. قصة قصيرة - ت: فوزي محيدلي

في بواكير الشتاء، بدأ العميان بالتجمع فجأة على الأرصفة وفي المقاهي. أدت خطواتهم المتلمسة للدرب بالمارة إلى التوقف والتحديق غير مصدقين. مع أن المواطنين عاشوا لأشهر في ظل الخوف من "فرمان العميان"، إلا أن رؤية نتائجه على الملأ أذهلتهم، بل سمّرتهم في أماكنهم.
قبل فترة كان الناس قد سمحوا لأنفسهم الاعتقاد أن ضحايا النظام سيئ السمعة قد بلعهم ليل النسيان، وان الأشخاص الوحيدين الذين قد تلتقي بهم في الشارع أو الساحة هم العميان السابقون، بمظهرهم المألوف ـ الضربات المسالمة لعصيهم ـ ذلك النوع من العميان الذين اعتادت عينا وأذنا كل واحد منذ زمن عليهم. لكن الآن جلبت تباشير الصقيع معها جماعة لا تحصى من العميان من نوع جديد وأشد حزناً.
كان ثمة شيء خاص ميزهم عن العميان التقليديين. كان بهم نوع من التيه المزعج فيما اصدرت عصيهم ضربات متوعدة على حجارة الرصيف.
في تفسير ذلك قال البعض إن هؤلاء لم يتعودوا بعد على حالتهم الجديدة. فقد حل بهم العمى دفعة واحدة وليس تدريجياً كما يحصل عادة، لذا لم يكتسبوا بعد الطواعية الضرورية... لكن من سمع تفسيراً كهذا هز رأسه غير مقتنع. أيكون هذا السبب الوحيد؟
ما كان ملفتاً أكثر عودة الظهورالجماعي. الأرجح أن ذلك لم يكن مصادفة، ولم يكن أيضاً نتيجة تواطؤ سري بينهم، بعكس الشائعات التي روجها أناس يرون في أي شيء وكل شيء مؤامرات مناهضة للدولة. في واقع الحال أن ذلك تأتى من الحقيقة البسيطة التي تقول إن الوقت المراد لمعظهم ليشفى ـ سواءمن الجراح العضوية الناتجة عن الإعماء أو عما يصاحبه من أذى نفسي ـ قد انقضى الآن.
بعض هؤلاء لا سيما من عميوا بطريقة ارستقراطية، من مثل التعرض للشمس، ظهر عليهم سيماء الوقار والرفعة لدى جلوسهم في المقاهي وصالات الشاي. يمكن الافتراض انه كان من الأسهل عليهم التصرف بتعجرف وليس بسبب العلاوة أو المعاش التقاعدي المجزي الذي منحوه بل لأن عيونهم لم يطُل إليها التشويه حين أنزل بساحتهم العمى من ناحية أخرى، أطلق معظم الآخرين العنان لأنفسهم.
كانوا يرتدون الأسمال وينتعلون القباقيب الخشبية التي جعلت صوت دنوهم مصدر أسى.
لكن أولئك الذين فقدوا بصرهم بفعل اساليب عنيفة لم يكونوا وحدهم ذوي منظر بائس. حتى بعض الذين كانوا قد سلموا أنفسهم إلى "مكاتب العميان" واستقبلوا بكل حفاوة لازمة كانوا يتنقلون الآن مرتدين الاسمال. كذلك الحال، فإن هناك عدداً من الأشخاص الحسني الزي ـ ارتدوا ازياء أفضل مما اعتادوا سابقاً ـ بين من نُزع بصرهم بشكل عنيف. وقفوا بجرأة امام أنظار الجميع وكأنهم يريدون تحدي العالم بمآقيهم الفارغة المظلمة.
لدى مرأى هذه الجراح الفاغزة اضطرب بعض الناس حتى انهم راحوا يتعثرون وكأن الأرض قد انشقت تحتهم.
لمَ عليهم إظهار أنفسهم بهذه الحال؟ تساءل الناس. لمَ لا يُحال دون خروجهم إلى الطرقات الرئيسية لمنعهم من التسبب بتجمّد دمائنا في العروق بسبب تلك التجاويف المروعة في رؤوسهم؟
لم يولِ العميان أدنى اكتراث لملاحظات كهذه. وكونهم لا يودون البقاء إلى طاولات صالات الشاي والمقاهي لساعات فقد عمدوا إلى الاصغاء إلى الأخبار التي كانت تُقرأ من الصحف التي على الطاولات المجاورة وانخرطوا تالياً في النقاش. لحسن الحظ أن الشؤون العامة كانت تنحو ايجابياً هذه الأيام، كما تبين لهم، مما أثبت لهم ان تضحيتهم لم تذهب سدى: "ما يدعو الى الشفقة اننا لا نستطيع لفقدنا البصر رؤية ما يحصل! راح بعضهم يردد متحسراً. "لكن ذلك لا يهم بالنتيجة. حتى لو لم يكن بمقدورنا أن نرى، إلا أن باستطاعتنا تخيّل طبيعة الحال، ونحصل على نفس متعتكم في ما خص الأمر".
بعضهم بقي صامتاً، وبنفس كآبه وصمت الغربان، فيما عمد آخرون وبعد تبني أحد تقاليد العميان إلى تناول اداة موسيقية وراحوا يترنمون بقصائد ملحمية او أغاني حب من تأليفهم الخاص.
لم ينقطع المد البشري للعميان عن التدفق بنفس وتيرة تنامي الشائعات المعادية تجاههم. قالت إحدى الشائعات ان مرسوماَ وشيكاً سيعيد توزيع معظمهم في مقاطعة قصية من البلاد (كان ثمة وفرة من المناطق الفقيرة المعوزة في الامبراطورية!) مما يحول دون أن تقع عيون الأجانب عليهم.
بعيداً عن اعطاء اي أساس مادي لشائعات كهذه، حدث في يوم الجمعة الأخيرة من كانون الأول ـ في نفس اليوم حين صدر أمر خاص يمنح عفواً تاماً للأشخاص الذين اعيدوا بأساليب عنيفة ـ حدث ان أقامت الدولة مأدبة مغفرة (صدقة، كما يقال في لغة البلاد) لصالح كل ضحايا "أمر الإعماء" (إفقاد البصر).
"أقيمت مأدبة المصالحة" كما صاغت التسمية الألسن الخبيثة في "مدرسة الفروسية الامبراطورية" التي كان بناؤها الوحيد القادر على استيعاب عدد الطاولات المطلوبة لآلاف الضيوف.
اندفع العميان أفواجاً نحو مدرسة الفروسية قادمين من مختلف أحياء العاصمة مصدرين بقباقيبهم وعصيهم قعقعة متواصلة بحيث اضطر رجال الشرطة وسط جلبة كهذه الى اغلاق كامل المنطقة بوجه حركة المرور لساعات طويلة.
كان عشرات الموظفين بالانتظار للترحيب بهم ولأخذهم إلى اماكنهم، لكن حدث انه حين دخل العميان إِلى القاعة الكبرى ولا سيما لدى محاولتهم الحصول على طاولاتهم المحددة أن مالت الأمور نحو شغب حقيقي. راحوا يصطدمون بالكراسي غير دارين أين يضعون القيثارات البلقانية التي جلبوها معهم، والله وحده يعلم، لمَ تلمسوا اطباقهم بشكل سيئ موقعين الطعام على أنفسهم أو تسببوا أحياناً أخرى بقلب تلك الأطباق.
وسط هذا الحشد من العميان، لاحظ أحدهم رجلاً رث الثياب يشق دربه بمرفقيه نحو الطاولة، وذلك لم يكن سوى الوزير.
إلى طاولة طويلة جلس موظفو البلاط الكبار، ومعهم أعضاء من الحكومة ومن بطانة شيخ الاسلام وكان قد دعي كذلك الصحافيون والديبلوماسيون الأجانب.
حاول أحد المسؤولين إلقاء خطاب لكن بما أن معظم العميان كانوا بدأوا حشو بطونهم بالطعام فان معظم كلماته حجبها صوت قعقعة سكاكين المائدة وطقطقة آنية الطعام الفخارية. مهما يكن بقي بالامكان التوصل الى فهم نفسي للجمل الأساسية الخاصة بالحاجة إلى التضحية خدمة للصالح العام وبالأخص جمل الرسالة الوافدة من السلطان التي يشجع فيها الجميع على نسيان الماضي والمحافظة على الولاء للدولة.
مع شرشرة مرقة اللحم من ذقونهم وببهجة سببها تلك الأطعمة اللذيذة مثل الحلاوة المحشوة بالحوز عمد العديد من العميان الى العزف على آلاتهم الموسيقية.
راح المسؤولون والصحافيون والديبلوماسيون ينظرون إلى ما يجري بصمت فيما المأدبة الفاقدة للنظام تتواصل فصولاً أمام ناظريهم.
لدى سماعه "لكل غيمة بطانتها الفضية"، قال القنصل النمسوي "يجب أن يكون لديكم شعر كهذاً في لغتكم أيضاً". موجهاً كلامه إلى زميله الفرنسي.
"بالطبع" أجاب الفرنسي.
رغم تسميته المروعة، والتي لا يمكن ترجمتها ورغم الرعب السيئ الصيت الذي سببته، فإن "مرسوم الإعماء" قد ساعد على ازدهار شعر شفوي جديد، كان حسبما لاحظت في حالة تراجع قوية في هذه البلاد خلال السنوات القليلة الماضية.
"أتعتقد ذلك؟" سأله الفرنسي وهو ينظر بدهشة إلى زميله. ثم ما لبث ان تذكر أن زميله قد أخبره ذات مرة انهماكه في بحث عن الشعر الشفوي مما جعل ملاحظته تبدو على قدر أقل من السخرية بل أقل غرابة.
"يكفيك ان تنظر الى هذا الحشد اذا شئت برهاناًعلى ما ذهبت اليه"، أضاف النسموي.
"أعتقد ذلك"، قال الفرنسي بصوت خفيض فيما هو يحدق في القاعة الكبيرة حيث نشاز صخب العميان كان يبلغ مداه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى