د. عبد العالي الشداوي - فـي الحاجة الى صداقة الحكمة

أود من خلال هذه الورقة أن أمعن النظر في بعض المواقف التي تنبذ الفلسفة وتكن العداء المكين لها، ليس بدعوى عقمها ولا جدوائيتها كما سبق وأن أعلن ذلك المذهب الوضعي الذي انفضح أمره تاريخيا. وإنما من قبل الذين لا يفقهون شيئا عن المفاهيم الفلسفية ومضامينها، وأخص بالذكر هنا، الحزب الحاكم الذي تلفظ بـ"لا حاجة للمغرب مستقبلا بالفلاسفة والشعراء والقضاة" بقدر حاجاته الى قطاع ذو انتاجية. قائلا في هذا الصدد: "نحتاج إلى أبناء ينتجون الثروة ". أرى من جهتي بوصفي باحثا في الفلسفة أن مثل هذه التصريحات تنم عن أدلجة فكرية. وهذا ما يدفعنا إلى طرح جملة من الأسئلة من قبيل: كيف امتلك رئيس الحكومة الجرأة اللازمة للتلفظ بهكذا حكم؟ وما هي مبررات هذا القول؟ وما هي خلفياته؟
أظن أن مثل هذه التصريحات تنم عن سوء نية، وليس عن سوء فهم "malentendu "، لان كل فهم من المنظور الهيرمينوطيقي يبقى محفوفا بالمخاطر ومفتوحا على عدة تأويلات، بينما تنكشف سوء النية هذه ليس بنقد موجه للفلسفة وإنما رفضها جملة وتفصيلا. فهل هذا يعني ان الفلسفة عدائية الى هذا الحد وبالتالي تستحق كل هذا الكره والرفض من قبل السياسي le politique ؟
لا أعتقد في ذلك، أن المهام والأدوار الملقاة على عاتق الفلسفة منذ أن خاضت تجربة الصراع مع النزعات اللاعقلانية في تفسير الكون لم تستنفذ بعد. بل على العكس من ذلك، تجد في القادمين الجدد بالولادة السند والدعم الكاملين للاستمرار في البقاء. " لأن الحياة من دون كلام، ومن دون فعل، هي حرفيا الموت في العالم. كلا الخاصيتان تكشفان عن الطابع المميز والفريد من نوعه. وتمييز بين الناس أنفسهم بدلا من أن يكونوا مجرد نسخ تكرر نفسها. هذا يعني شكل من اشكال تنظيم الحياة المشتركة للناس"( ).
وكما لا يخفى على أحد أن مرجعيات الحزب الحاكم هي ذات خلفية دينية من شأنها أن تؤثر بشكل فوري على ادوات فعل التفلسف( )، لأنه يمتلك سلطة القرار. وبما أننا لم ننخرط بشكل مسؤول وجاد في الحداثة والأنوار، فإن كل الاحتمالات تبقى ممكنة لتبني أي مشروع من المشاريع الفكرية التي قد تجلب الويلات. والأمر المؤسف الذي ينبغي الاحتياط منه هو أن رئيس الحكومة ربما عاجز عن صياغة المفاهيم والكلمات التي تعد ترجمة عميقة للفكر. وعلى هذا الأساس، أزعم كل الزعم أن رئيس الحكومة عاجز عن التفكير. والنتيجة الخطيرة التي تلي هذا العجز هي العجز عن الفعل. وهذا يذكي نار العدائية للفلسفة ؛ وقتل للأمل المنحدر من الحلم المأمول للمأمون العباسي في إنشاء بيت للحكمة لإشاعة روح الفكر والنقاش والتداول والتسامح.
وبالعودة إلى مكان نشأة الفكر الفلسفي، أعني الغرب. فالمتتبع للخيط الناظم الذي يربط ماضي أروبا بحاضرها، يكشف بالملموس مدى التقدم الهائل الذي حققته أروبا على جميع الأصعدة ولا أحد ينكر التحولات الجذرية والقطائع التي خلفتها الحداثة بعدما عانت الفلسفة تجربة الصراع المرير بدءا من القرن السادس قبل الميلاد إلى حدود القرن الرابع قبل الميلاد مع الأسطورة، فتمخض عن هذه التجربة، انتصار اللوغوس على الميتوس. وفي خضم هذه المواجهة، أنجبت الفلسفة شتى أنواع ومختلف العلوم. وهذا هو المقصود بالفلسفة أم العلوم. بل معظم الفلاسفة والحكماء كانوا رياضيين. أمثال طاليس فيتاغورس، ديكارت، راسل.. وهم في الان ذاته ألهموا التفكير الجاد حول الاخلاق والسياسة والتفكير العلمي الخيالي والميتافيزيقي" أي أنهم كانوا موسوعيين... وكل تبخيس للفلسفة والفلاسفة يعتبر جريمة نكراء ترتكب في حقل العقل والاختلاف والحضارة والإرث الانساني
ففي ظل الأحداث العنيفة التي يشهدها العالم، وكذا التغيرات المتسارعة التي يعرفها المغرب في شتى الحقول والميادين، فنحن في أمس الحاجة الى الفلسفة. وهذا يتطلب المزيد من بذل الجهود للدفاع عن القضايا الانسانية العادلة. لأن العلم لوحده غير قادر على تدبير شؤون البشر التي تكتسي طابع التعقيد والتناقض، وكما هو معلوم لا يخفى على أحد الصراع المرير الذي خاضته الفلسفة مع الأسطورة، وقد نتج عن هذا الصراع الانتصار للعقل والخطاب والحجة.
إن الحاجة إلى الفلسفة اليوم تبدو أكثر من أي وقت مضى. خصوصا وأننا نشهد اليوم بروز تيارات فكرية هدامة تثير نعرات الكراهية والعداء وتحول الاختلاف إلى خلاف وتذكي لهب النزاعات بين الافراد والجماعات.
في ظل التشويش الذي يطال حقول الآداب من طرف السيد وزير التعليم العالي، وكم هو مكلف هذا التشويش، بل نحن مطالبون بتوطيد اواصر الصداقة مع الحكمة بدلا من أن نكن لها العداء وكما هو معلوم فالعاجز عن الفعل بالمعنى السياسي سيكون عاجزا في الان ذاته عن الإشادة بعاطفة الصداقة. فكلمة فيلو Philo تعني صداقة نسبة الى الفيليا Philia التي نحتها الحكيم فيتاغورس، الذي عمل ارسطو على نقلها الى المجال السياسي كما يظهر ذلك من خلال كتابه علم الاخلاق الى نيقوماخوس الذي ربط بشكل بارع بين الصداقة والديمقراطية لتلافي الأخطار المحدقة بطبيعة وماهية الانسان باعتباره حيوان سياسي. وبهذا الملح السياسي، قد تكون الأرسطية في القرن الواحد والعشرين تقدم اجابات بارعة فيما يتصل بقضايا تمس كينونة الكائن. متخطية بذلك التفسيرات الميكانيكية للعالم. خصوصا وان الانسان في علاقته بالعالم ليس مجرد رقم او ظاهرة فيزيائية محضة. بل انه ذات مفكرة، واعية، راغبة ومريدة. فما احوجنا اليوم الى الفلسفة بمعناها الارسطي، اي ان نكون اصدقاء للحكمة بدلا من ان نكون اعداء لها. خصوصا وان "المتجمعات الأبوية والدينية لا تسمح بالصداقة بل تخشاها"( ). بل ان ارسطو يرى انه "حيث تسود الصداقة لا يحتاج المرء الى العدالة" .
تدخلنا اذن الفلسفة بهذا المعنى إلى إدراك الاهمية المستقبلية لها. وهذا من شانه ان يختبر الاحكام المسبقة التي يكونها الحس المشترك عن الفلسفة وعن نفسه. انه قاصر، فهو غير قادر على مجابهة وتصدي الاخطار المنحدرة من الانظمة السياسية والتقنية والدينية، وبالتالي استحالة "توقع" الآتي.
تكمن أهمية الفلسفة إذن في القرن الواحد والعشرين في أنها لها القدرة على الاستخدام الذاتي للعقل من دون قيادة أحد أو وصايته، سواء باسم الدين أو العلم أو السياسة. وكل ادعاء من هذا النوع، تبقى مجرد أفكار بالية في سوق الأفكار الرخيصة. وهذا من شانه أن ينسف حرية وكرامة الانسان. وهكذا يكون زمن الفلسفة بصيغة نتشوية هو السفر من "الإنسان الأعلى" نحو "الناس بالمعنى الآرندنتي"( ) بغية التجسير بين الهوة المفجعة التي تفصل بين التصورين على مر التاريخ الحضاري والثقافي للإنسان. ومنه يمكن القول إجمالا أن زمن الفلسفة هو زمن الإنسان، وعلى هذا الأساس تصبح الفلسفة ضرورة ملحة لحياة الانسان سواء لوجود الفرد أو المجتمع. وعليه لا يستطيع الإنسان ان يعيش اكتفاء ذاتيا، إلا إذا تشرب من ماء الفلسفة وإلا يدمره العطش. ومصدر هذا الاهتمام يجد صداه بشكل جليل وجميل -بمصطلحات كانط-الإستطيقية في الفلسفة.


  • Like
التفاعلات: وحي لحسن

تعليقات

أعلى