كاظم حسن عسكر - محمد مهدي البصير وخصوصية النهضة العراقية

أراد الدكتور محمد مهدي البصير لكتابه أن يحمل عنوان(نهضة العراق الأدبية في القرن الثالث عشر للهجرة) واول ما يثيره هذا العنوان في ذهن المتلقي هو حضور الثقافة الاسلامية, فما زالت هي الثقافة المهيمنة والموجهة حتى منتصف القرن العشرين، وقد كان البصير واعيًا بهذا ومدركًا إياه, و لم يكتف حضور هذه الثقافة عند عتبة العنوان بل تخطاها الى متن الكتاب, فغالبًا ما كان يؤرخ لولادة الشعراء ووفاتهم بتواريخ هجرية, وهذا الاهتمام الشكلي بالثقافة العربية الاسلامية يستند الى إدراك البصير بأهمية هذه الثقافة في توجيه الفضاء الثقافي العراقي؛ أي أن هذه التواريخ تستند الى وعي المؤلف بطبيعة بنية النهضة العراقية آنذاك, ويشير الى ذلك قائلا: "إن الثقافة العربية الاسلامية في العراق لم تنقرض بانقراض الدولة العباسية وإنما ظلت سائرة في طريقها قائمة في أروقة المساجد وحلقات المدارس الدينية ولا سيما على الفرات, حيث كانت الحلة مركز نهضة ثقافية عظيمة بزغت شمسها في أوائل القرن السادس للهجرة وما زالت مشرقة حتى أوائل القرن العاشر حيث انتقلت الثقافة العربية الاسلامية الى كربلاء ثم ما لبثت ان انتقلت الى النجف الذي ما زال مركزًا عظيمًا من مراكز الثقافة العربية الاسلامية ", وفضلا عن هذه الاستمرارية التي تمتعت بها تلك الثقافة, حظيت النهضة الأدبية في العراق –كما يرى البصير- برعاية الأسر الدينية في العراق, ومن تلك الأسر(آل نقيب) في بغداد و(آل شاوي) و(آل كبة) أما في خارج بغداد فهناك في الموصل (آل العمريّ) وفي النجف (آل كاشف الغطاء) و(آل قزوين) في النجف والحلة , وفضلا عن دعم تلك الأسر الى الشعر والشعراء , قد انتجت هي الأخرى جملة من الشعراء المميزين أمثال(عبد الباقي العمريّ) و(الشيخ علي صاحب) و(السيد مهدي القزويني وأولاده) , كذلك أن تأثير النهضة الأوربية كان ضئيلا في العراق, وقد أرجع البصير سبب ذلك -ضمنًا- الى عجز الولاة العثمانيين في كثير من الأحيان عن توطيد الأمن في ربوع البلد , ويتصل بهذا سبب آخر وهو " أن العراق لم يكن مستقلا استقلالا تامًا أو ناقصًا, ولم يكن في دست حكومته خليفة كالمأمون ولا أمير كسيف الدولة ولا مصلح كمحمد علي " لذا فغياب السياقات المعروفة لتوفر النهضة جعل الانسان العراقي يعود الى ذاته, الى الامكانات المتاحة ليستثمرها, مواكبًا بذلك حركة التاريخ المتسارعة, وبالتالي لم تتشكل النهضة العراقية في القرن التاسع عشر بتأثير من النهضة المصرية واصلاحات محمد علي, ولا بتأثير الارساليات الاوربية كما في بلاد الشام, بل استند العراقي الى ثقافته وإمكاناته الذاتية, وقد أشار البصير الى ذلك بقوله: "السر هو الاستعداد الكامن في نفس كل عراقي, ذلك الاستعداد الذي لا تواتيه فرصة من الفرص حتى يتكشف تكشف المعدن الثمين إذا انحسرت الرمال عنه[...]وإذا فالعراق مدين بنهضته الأدبية في القرن المنصرم قبل كل شيء لما آتاه الله من سلامة الفطرة وصفاء الطبع وجودة السليقة, ثم هو مدين بعد ذلك بنهضته هذه لمن ذكرناهم من الولاة العثمانيين " لا سيما داوود باشا وعلي رضا باشا , فالدكتور محمد مهدي البصير يرى أن النهضة العراقية أكثر تأثرًا بالثقافة العثمانية بفعل قربها من العاصمة العثمانية، ولكن هذا التأثير جاء داعمًا لتأثير الثقافة الاسلامية في البيئة العراقية. ولو أن الحضارة الاوربية وجدت لها تأثيرًا لها لكان التاريخ الميلادي حاضرًا.
وبالتالي لم تكن النهضة الأدبية في العراق شأنها شأن النهضات التي رافقتها أو سبقتها, بل خلقت لها نمطًا مختلفًا, وقد كرّس ذلك السياق العام الذي ألمّ بالعراق, فثمة صراع بين سياقين؛ سياق عام كان مثبطا للنهضة, وهو انعزال العراق عن التأثير الاوربي وسوء استعمال السلطة من لدن الولاة العثمانيين. وسياق خاص دعم النهضة ووفر لها جزءًا من شروطها؛ وهو وجود الأسر الدينية والأدبية في الحواضر العراقية وكذلك بعض الولاة العثمانيين, وهذه السياق الأخير مثّل خصوصية النهضة العراقية واختلافها, فقد تعامل الشعراء والمفكرون مع المتاح وسعوا الى استغلاله ليخلقوا لبلدهم زمنًا ثقافيًا على الرغم من ضآلة الامكانات وشحتها أحيانا كثيرة.
______________
نهضة العراق الأدبية في القرن الثالث عشر للهجرة, د. محمد مهدي البصير ، قدم له: د. علي جواد الطاهر, دار الرائد العربي- بيروت, ط3، 1990.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى