محمد بشكار - السِّياسة تُفْسد الحُب!

في الوقت الذي انهمر فيه الجميع مُتدفِّقاً بكل ما يخْتزنه من أدمعٍ وراء عواطفه الجياشة التي تُغلِّب مبدأ الحب، وفي الوقت الذي انزوى فيه الجميع لاجئاً لمشاعره الدفينة يحاول أن يجعلها تتكلم بصراحة غير معهودة في التعبير عن هذا.. الحب تجاه الأقارب والغرباء والبلد، عسى بالبوح يخفِّف نفسياً من وطْأة الحنين الذي أوْسَع هُوَّته البِعاد المترتِّب عن حالة الطوارئ الصحية، كان للسياسة أو لبعض حائكيها حتى لا نُعمِّم ونُصيب قوماً بجهالة وما هُم بعناكب، رأيٌ أو قلب آخر لا ينبض بدم إنساني إنما بالمحروقات التي تُحرك سيارة البلد نكوصاً، أمَّا المستقبل فقد حذفته الرقابة !
ولن أحمِّل لِقَرَف السياسة كل المسؤولية وأقول إنها تُفسد الحب، بل إن الإفراط في الحب مُضرٌّ بصحة المواطنين، وقد يضْرب بغشاوة على الأعين فتمضي إلى سجنها طواعيةً دون أن تنتبه للجُب الذي يُحفَر في غفلة تحت الأرجل، أنا نفسي منغمس في هذه الرومانسية الوطنية للأذنين، وأمنح فؤادي بصدق قبل سمعي للعبارات الرقيقة التي تخاف على حياتي من قبيلة: ابْقَ في دارك، الحجْر المنزلي واجب وطني، اعجني خبزك في دارك، وأنت تحمي نفسك تحمي بلدك، إلى ما لا ينتهي من الشعارات التي يتخذ بعض السياسيين عباراتها المسكوكة غطاء لتمرير أوبئة فكرية أخطر من فيروس كورونا، لكن ونحن نُعطي مسامعنا طاعةً لما يخدم المصلحة العامة حتى نخرج سالمين من الظرفية الصعبة للجائحة، ليس معناه أننا بآذان أطول مما لدى الأتان، وأن فراغ شارع الوطن من المغاربة في الحجْر المنزلي، أثمن فرصة مواتية لدسِّ قانون مسموم يحدُّ من حرية التعبير، وما أفظع أن تشْخص الأبصار وتخرس الألسن كأننا بين يدي ملاك الموت !
لست فقيهاً أو مُتفيْقِهاً في القانون، ولكنني أعلم أن القانون وُجِد ليحمينا من شطط الآخرين وشرور أنفسنا التواقة بطبيعتها لخرق ما يحد من الحريات، وبالقانون كنتُ أعرف حقوقي قبل أن تتلاعب السياسة بثغراته لمصلحة بعض محتكري الاقتصاد الوطني فضاعتْ كل حقوقي !
أعلم أيضا أن مناحي كثيرة من حرياتنا الفردية أحوج لتأطير قانوني واضح يحميها مما ينْتهك الحياة الشخصية من فضائح العلن، كما أعلم أنَّ غياب القانون يمنح للبعض سلطة مطلقة لإصدار الأحكام، وأن تكييف بعض القضايا لا يجعل الحاكم دائما على صواب وقد تتلاعب بمزاجه النَّفس الأمارة بالأهْواء، ولكن إذا كان الغرض هو استحداث قوانين تسدُّ كل هذه الثغرات خشية تسرب الشيطان وما أكثر وجوهه المقنَّعة بالعدل والصلاح في مجتمعنا، فلماذا بالضبط قانون أو كوفيد 20.22 الذي يكمِّم الأفواه في مواقع التواصل الاجتماعي ويُلجم متعاطي شبكاتها الوثيقة الصلة اليوم بالحقل الإعلامي، عن ممارسة حقهم الدستوري في التعبير والنقد البنَّاء وتداول المعلومة، علما أن المجال الحقوقي في باب الحُريات الفردية، أشد فراغاً من فؤاد أم موسى لمن أراد الاجتهاد في ابتكار قوانين تليق حضارياً بدولة الحق والقانون، ولن أقول إن الكابوس أشبه بفيلم تجري حقبته الظلامية في قندهار، ولكن يجب أن نصدِّق أننا نعيش للأسف لحظة انهيار أهم قلاع دستورنا الأحوج لنضالات أشرس تجعله يراكم مكتسبات أخرى تُشرِّف الإنسان المغربي ولا تُذلُّه لمواكبة المسار الديمقراطي، فبعد الاستفراد باستخراج قانون الإضراب على مقاس جشع الباطرونة مما يكفل استعباد الشغيلة بأبخس الأثمان، جاء الدور على حرية اللسان المغربي الذي أيْنع وحان قطعُه بعد أن تجاوز بجرأته الخط الأحمر، وأثبت أنه قادر بحركة تواصلية منه أن يقْلب موازين القوى لصالحه مُنكِّلاً بأرباح من يتحكمون في أرزاق الناس، ما رأيكم في قانون لا يقمع الجنس بالتراضي يُغني عن كل كلام ؟
حقّاَ إن السياسة تُفسد الحب وتلوِّث مناخه النظيف بما لا ينفع معه كل أشكال الطوارئ الصحية على امتداد الدهر، والسياسة تشتغل على الفراغات المواتية لانتهاز الفرص، ففي الوقت الذي يتابع فيه الجميع بعواطف جياشة هذا المسلسل الدرامي، لم يفطن أحد أن ثمة من ينْتقل مع القبلات المُرسلة للأحباب عبر الهواء، بعدوى وباء أخطر من كورونا، لم يخطر ببال أحد وهو يعبِّر عن مضاضة الشوق لأمه أو أبيه أو أبنائه المحاصرين، أنَّ ثمة من يزرع الشوك ليزيد جراحنا نزيفاً، ولا أعرف من يكون هذا الأحد ولكنني أشعر بكسادٍ جسيمٍ لحق بضاعته وهو يتلوَّى خسَاراً، وموقنٌ أن هذا القانون الجائر ليس بريئاً في مصلحة البلاد، وكلُّ أمرٍ فيه إنَّ لا يخلو من نصْب!


...........................................
* حُرِّر يوم الثلاثاء 5 ماي 2020 بالحجْر المنزلي بمدينة الصخيرات

** افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 7 ماي 2020


...........................................
رابط الملحق على موقع جريدة العلم:
https://alalam.ma/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85-07-%d9%85…/



L’image contient peut-être : 1 personne

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى