جهاد فاضل - طه حسين.. استفز معاصريه فاتهموه بالتآمر

لا يشك احد في أن الدكتور طه حسين الذي يحتفل المصريون في هذه الأيام بمناسبة ولادته، كان احد أعمدة الأدب العربي المعاصر لدرجة تلقيبه «بعميد الأدب العربي» فقد قام بدور فريد في دراسة جوانب مختلفة من هذا الأدب باحثا وناقدا ومفكرا ومؤرخاً، وأي مراجعة لثبت مؤلفاته كفيلة بأن تقنعنا اليوم بأن هذا الدور الريادي له كان عظيما فعلا، بصرف النظر عن الكثير من الملاحظات السلبية التي يمكن أن يوجهها المرء لهذه المؤلفات.

لا شك أن الزمن قد مرّ على «حديث الأربعاء»، و«ذكرى أبي العلاء» «ومع المتنبي» وسواها من الكتب ولم تعد سوى مراجع مهجورة أو شبه مهجورة، وان الباحثين الذين أتوا بعده، قد أنتجوا ما هو أفضل منها وامتن، وهذا أمر طبيعي لان عالم الأبحاث والدراسات يطرأ عليه جديد على الدوام، ولان للريادة، على فضلها، نقائص كثيرة لابد من أن تتكشف للأجيال التالية.
آراء معاصريه
وإذا كانت المعارك حول طه حسين، بين مقدّر لجهده وغير مقدر، لم تهدأ حتى الساعة، إذ أنها استمرت بعد رحيله، فإنه يحسن ألقاء الضوء على أراء معاصريه من الباحثين فيه وفي أرائه.
ذلك أن هؤلاء الباحثين انقسموا انقساما حاداً في هذا الشأن، ولكن كثيرين منهم صدموا بما أتى به الدكتور من مناهج ونظريات وطرائف، وقد انعكس موقفهم هذا حتى في ما خطته أقلامهم من ألفاظ هي اقرب الى السباب والشتائم، وهذا يدل على شراسة المواجهة التي قامت بين أدب طه حسين وما نظروا هم عليه من التعامل مع أدب السلف.
إذ المعروف أن «العميد» تأبط منهج الشك عند ديكارت وسلطه على الأدب الجاهلي، فشكّ بالكثير منه وفي طريقه اخذ شخصيات ورد ذكرها في القرآن الكريم، فلم يوفرها من شكه مثل شخصية إبراهيم وإسماعيل!
الشعر الجاهلي
ومنذ مقدمة «في الشعر الجاهلي» كشف طه حسين أوراقه المنهجية واثبت تبنيه منهج ديكارت القائم ع‍لي التجرد من كل الأفكار المسبقة إثناء البحث في حقائق الأمور، لكن خصومه ممن نقدوا هذا الكتاب يرون إن مؤلفه لم يفهم هذا المنهج على حقيقته، وانه «شعوذ به على الطلبة، وانه لا يعدل جهله فيما ينقل عن العربية إلا ما ينقله عن الفرنسية».
وباللهجة نفسها والأسلوب نفسه نعته زكي مبارك بالجهل وقلة الاطلاع، بل انه في رأيه «لم يقرأ في حياته كتابا كاملا، وإنما يقرأ فقرات من هنا وهناك، واخذ يشطح ذات اليمين وذات الشمال الى ان اتصل بالمرحوم ثروت باشا فوضعه بالجامعة المصرية».
سارق الأفكار
ويوغل زكي مبارك في مثل هذه النعوت فيقرر بان «طه حسين لم يكن يوماً من المفكرين، إنما هو أديب قليل الفكر، قليل الاطلاع، نشأ في أوقات لم يكن يعرف فيها الناس غير المجلات السياسية، وكان النقد فيها قليلا، فتظاهر بالعلم فظنه القراء من العلماء»! والنتيجة الطبيعية للجهل هي في نظر خصوم طه حسين السرقة، لذلك ركزوا انتقاداتهم على المقارنة بين ما ورد في كتبه وما ورد في كتب غيره من العرب والمستشرقين، وانتهوا الى أن جلّ تحليلاته ومواقفه وحججه مسروقة.
وقد بين طه حسين في بعض كتبه أن العرب كانوا يعيشون في الجاهلية عيشة بدائية، والحياة البدائية لا تفرز النثر الفني القائم على العقل بل تفرز الشعر، إذ الشعر بصفته ظاهرة فنية أسبق في الظهور من النثر الفني، فرد عليه خصومه بان هذا الرأي أعلنه مسيو مارسيه في المحاضرة التي افتتح بها محاضراته في مدرسة اللغات الشرقية في باريس منذ أعوام ثم أذاعه مطبوعاً في كراسة خاصة.
وطه حسين بنظر إسماعيل أدهم «يلبس أهواءه صورة البحث العلمي، وهو يميل مع هواه فيميل على إظهار ذوقه وتتجلى شخصيته بأغراضها وأهوائها في نقد ذاته، ونستطيع منها أن تستكشف عواطفه.
وقد ألح النقاد السبعة لكتاب «في الشعر الجاهلي» على هذا الجانب، فرأوا أن مؤلفه كلما وجد رأيا عند المؤلفين القدامى يناسب نظريته أخذه عنهم من دون نقاش (محمد لطفي جمعة)، وانه يصدر الأحكام جزافاً (محمد فريد وجدي)، وانه يبني على افتراضات كثيرة (الغمراوي)، وانه ينص على النتائج من غير ذكر المقومات (محمد الخضري). ويلخص محمد الخضر حسني هذه الطريقة القائمة على الانسياق للأهواء والتعصب للرأي بقوله: «أفلا ترى بعد ذلك أن الدكتور اتبع الهوى فبادر الى تصديق حكاية سخيفة من غير أن يؤيدها بما يقويها، وذكرها وحدها دون أن يذكر الروايات الأخرى إرادة أن يخدع عقول القراء، فيفهموا أن هذه هي الرواية فيتبعوه في ما يريد أن يثبته من تجريح للناس وإشاعة السوء فيهم؟ ألا يدعونا ذلك الى القول إنه متعصب لرأي معين يصطاد له من الأقوال من يؤيده، تاركا التحقيق العلمي الذي يوصل الى الحق أينما كان»؟ وقد بلغ الأمر بالرافعي، الى قذف طه حسين بمحاباة الإنجيل، مراعاة لشعور زوجته، فهو يرى انه يتهجم على القرآن والتوراة فقط، «وإما الإنجيل فيظهر لنا في شفاعة زوجته المسيحية»، وهذا الموقف عاد إليه ناقد آخر هو محمد البهي الذي رأى شبها بين كتاب «في الشعر الجاهلي»، وكتاب «المذهب المحمدي» للمستشرق جب.
مع المتنبي
ولا تقل لهجة محمود شاكر حدة في مناقشته لكتاب «مع المتنبي»، فأول ما يتهم به طه حسين هو سرقة أفكاره من رسالة متواضعة، كتبها عن المتنبي، قبل صدور كتاب طه حسين بسنة واحدة 1936، ثم يتهجم عليه بمثل هذه العبارات: «إنني أشفق على الدكتور طه حسين بك من بدوات عبقريته، فهي تصور له الأشياء كما يريدها هو، لا كما يجب أن تكون، فيتورط فيحتال، فتكون حيلاته كالكذبة البلقاء لا تجد ما يسترها»، أو هذه العبارات: «اسمع يا سيدي الدكتور: انك لرجل كثير المغالطة، شديد اللدد،غير مستقيم الرأي، مضطرب الفكر، متخلف النظر‍»»!
هذه عينة من آراء أدباء ونقاد وباحثين كبار من معاصري طه حسين به وبنتاجه، لقد أرادوا تدمير منهجه الذي اعتبره اعز ما آتى به من فرنسا، ولم تسلم مواقفه الأدبية والفكرية الأخرى من طعون به، أثارها في وجهه خصوم أقوياء، رأوا أن تفكيره ليس متجذرا في المحيط العربي الإسلامي، بل هو نوع من التغريب الناتج عن كثرة الإعجاب بآراء المستشرقين والعلماء الأوروبيين واليهود، فهو أذن خيانة وتآمر على الإسلام، لا يخدم سوى حركة التبشير والغزو الثقافي.
ولكن طه حسين لم يعدم بالطبع من يدافع عنه من الباحثين والنقاد المصريين، ولكن لهذا مقال آخر.


الصفحة المصدر :.
جريدة القبس الكويتية
أعلى