شذى توما مرقوس - خائفة

كيف تجمَّع غباء العالم كُلّهُ بين كَفِّيها هكذا فَجأَة ؟ هي لا تَعْلَم ، هل لا زالت تلك المرأة نفسها التي كانتها في وطنِها ، أم أن شيئاً وأشياء في روحِها وكيانِها قد تغيَّرت ورُبَّما كيانها برُمتهِ قد انْقَلب ؟ وبعضٌ من الثقةِ بالنفسِ أَين هو الآن ؟ هل ودَّعت هذا البعض حين خطت بقدميها حدود بلادها . أو نسيت أن تحشُر هذا البعض في حقيبةِ سفرِها فأَغْلقتها من دونهِ ؟! لم تعُدْ ردود أفعالِها تُجاهَ الأحداث تزيدُ عن ردودِ بلهاء . لقد أصبحت بلهاء . والآن أَدركت الصلة القوية بين البله والثقة بالنفسِ ، فبمُجرد أن يفقد الإِنسان ثِقتهُ بنفسهِ ينقلِبُ إِلى أبْلَه . في وطنِها كانت سريعةُ البديهة وكان لها من الفطنةِ الحظ الوفير. أَين هي الآن من كُلِ هذا ؟ فكرت في أن تُفتش في حقيبةِ سفرِها عن كُلِ هذهِ الأشياء فلرُبَّما وجدت شيئاً منها ، لكنّ الحقيبة لم تعُدْ موجودة . رماها أحد المُهرِّبين الأَدِلاّء الَّذِينَ قادوها مع الآخرين إِلى هُنا ، في النهر حين كان عليهم عبور الحدود إِلى البلدِ التالي ، المحطة الأُخرى في طريقِ الهجرة ، ومن كُلِ بُدّ جاءت دون هذهِ الأشياء . افتَقَدت كُل هذهِ المعاني في حياتِها وفقدتها ، تذكُرُ أَنها في وطنِها أمتلكت من الثقةِ بالنفسِ والاسْتِعْداد والمُحاولة مايكفي لتُساعِد الآخرين وتُعينهم ولتكون ردود أفعالِها تُجاهَ الأحداث سريعة وفطِنة ورحيمة ، هل تَحَوَّل كُلُ ما بداخِلِها إِلى قسوة ؟! لم تعُدْ تفهم. فقبل أَيام في طريقِها إِلى منزلِها ، في شارعٍ مُكتَظّ بالناسِ وعلى مقربةٍ منها جداً فقدَ أَحدُ المارّين وكان يبدو في منتصفِ العمرِ توازُنهُ فوقعَ أرضاً وصارَ يتخبط في مكانِهِ مُحاولاً النهوض ولم ينجح إلا بعد أن لمحتهُ امرأةٌ عجوز من بُعدٍ فأَسرعت نحوهُ وأَعانتهُ على الوقوف ِ والتقَطَت حقيبته التي أَفْلَتت من يدهِ مسافةً ما فرفعتها إليهِ . كان الموقفُ كُلّهُ مؤلماً : المرأةُ العجوز بضعفِها وخطواتِها المُتثاقلة البطيئة هرعت لنجدتهِ وفعلت شيئاً ما ... أما هي المُمرضة التي تمرست على حُبِ المُساعدةِ والرحمةِ سنيناً طويلة وقفت هُناك كبلهاء فاغرة الفاه بعيونٍ مُمتلئة حيرة وشكاً ما عسى هذا الرجُل أن يكون ، وهل وقع حقاً أم إِنّهُ اخْتَلَق هذا المشهد ؟! هل هو مريض ؟! هل هو سكير ، أم إِنّهُ مدمن مخدرات ؟ لرُبَّما يكون خطراً اقْتِرابها منهُ ، لرُبَّما تقتربُ منهُ لمساعدتهِ فيُمسِك بها ويطعنها بخنجرٍ أو يدُقُّ برأسها على ذلك الحائط خلفيّهما ، أو رُبَّما سيضحكُ منها الآخرين لو ساعدتهُ على النهوضِ وهي الغريبة عن هذهِ الديار ، أو قد يكون تَدخُّلاً منها في شؤونهِ فيرفضُ ذلك الرجُل مساعدتها فتمتلئ خجلاً لمُبادرتها وهي الأجنبية التي لا تعرِفُ الكفاية عن ديدنِ الأشخاصِ وأَفكارِهم وأسْلُوبِهم في العيشِ هُنا . وحتى حين جاءت المرأةُ العجوز لمعونتهِ بقيت هي جامدة في مكانِها فاغرةُ الفاه مُمتلئة بالشكِ تُصارِعُ أفكاراً كثيرة ... فكرة تنطحُ أُخرى وفي عينيها تتجلى أَلْف وأَلْف علامة استِفهام . وحين انْتَهى الأمر ووعت إِلى نفسِها شعرت أن الجميع في هذا الشارع المُكتظّ يَرمّقُونها بنظراتٍ فيها من التساؤلاتِ والاحْتِقارِ والاستهزاءِ والاسْتِنكارِ لموقِفِها كفايةً لطعنةِ ألم في الروحِ وكأنّ الجميع كانوا يسألونها : أَين رحمتكِ ياملاك الرحمة ؟ أَين روح المساعدةِ فيكِ ياأيتُّها المُمرضة هل نشفت منكِ ؟ هل نزفتِ هذهِ الروح في طريقِ رحلتكِ إِلى هُنا يا أيتُّها الأنانية ؟ أيتُّها البلهاء الغبية ماذا بقي لديكِ مما كان لكِ ومما كُنتِ تملكين ؟!
وإذا بصوتٍ في رأسِها يصيحُ مُدافعاً عنها : مهلاً ! كان الجميعُ مثلكِ تماماً ينظرون واقفين لم يُحرِكوا ساكِناً ، فقط هذهِ المرأة فعلت ما نسي الآخرون فِعلهُ ، رُبَّما ساعدتها خبرتها الطويلة في الحياةِ ، ورُبَّما مُعاناتها مع الشيخوخة عَلَّمتها أن تكون أكثر قُرباً من الآخرين ، كان الجميع واقفين لم يُحرِكوا ساكِناً ، الجميع الأجانب منهم وكذلك من ولِدوا من رحمِ هذا البلد . فلماذا كان عليها وحدها دون الآخرين أن تُقدِم شيئاً ؟ ولكن لماذا عليها أن تكونَ كالآخرين ؟ لقد مارست الرحمة والمعونة طويلاً في مهنتِها إِلى درجة أنّ الإِسْراع لنجدةِ الآخرين أصبح أمراً تلقائياً في روحِها ، لم تُفكر لحظةً فيما مضى بما سيكونُ عليهِ الأمر ، لم تتردَّد أبداً عن المُبادرةِ مهما كان الأمر ، وكيفما كان الوضع ، لم تُفكرْ يوماً في حمايةِ نفسِها قبل إِقْدامها على المُساعدةِ ، كانت رحيمة حقا وهدفها دائماً أشار إِلى الآخرين لا إليها ، فما بالها اليوم وقلبها يملأُهُ الشك نحو الآخرين وثقتها بهم وبنفسِها قد غادرتها بعيداً ، ولماذا خوفها الكبير هذا والذي لم تعرِفهُ أَبداً في حياتِها الماضية من خوضِ غمارِ الحياةِ العملية مرةً أُخرى ، ومنذُ أن غادرت بلادها وفي كُلِ مجالٍ حاولت العمل فيهِ أَعاقها خوفها ففشلت ، رُبّما صُدِمت في صميمِ كيانِها إذْ لم يعُدْ بإِمكانِها مزاولة مهنتها التي شكلت دائماً كُل حياتها . رُبَّما؟ هل هذا ما تورِثهُ الغُربة : البله والغباء وعدم الثقة والشك والألم والحيرة ، أم أنّ المُشكلة ليست في الغُربة بل فيها هي كإِنسانة ، رُبَّما تفتقِرُ إِلى المرونةِ ، رُبَّما لم تتعودْ كفايةً في حياتِها على تقبُّلِ الأُمور مهما اشتدّت وصعُبت . تذكُرُ أن أَحدَ الأشخاصِ هُنا قبل أشهُر اغتصَبَ معونتها اغتِصاباً فهي وكما لفّها شكها وخوفها وبلهها وغبائها وكلَ ما يُمكن أن يُقال عن قسوتِها وأشياء أُخرى غيرها في حادثة الرجُل الذي فقدَ توازُنه فوقعَ أرضاً ، كذلك جرى لها مع هذا الشخص حين طلبَ مُساعدتها وهو يتلوى آلماً في تشنُجٍ حادٍ لعضلاتهِ أَعْجَزَهُ عن الحركةِ تماماً وعن كُل شئ إلا الصُراخ آلماً ، اخْتَلَقت أعذاراً كثيرة حتى لا تهرع لمعُونتهِ لكِنّهُ لم يترُك لها مجالاً للهربِ حتى اضطرت لمُساعدتِهِ ، فقدمت لهُ مُساعدةً خجلى وأَعانتهُ على مدى أسبوع بقدرِ ما اسْتطاعت وخوفها يتربصُ بها وشكها يُلاحِقها حتى تعافى تماماً وقالَ لها : كنتُ واثقاً ومُتأكِداً من أنّكِ إِنسانة تفعلُ الكثير لأجلِ الآخرين طيبةً ورحمة ، أنتِ إِنسانة
رائعةحقاً . هل عرِفَ إِنّهُ اغتصَبَ معونتها اغتِصاباً ؟ هل حقاً هي هذهِ الإِنسانة التي قال عنها ؟ لم تعُدْ قادرة على تصديقِ ذلك .
إِنّها تشتاقُ لثقتها بنفسِها وتفتقِدُ فِطنتها وسُرعة بداهتها ، إِنّها تفتقِدُ رحمتها ، إِنّها تلمُسُ بوضوحٍ خوفَها وشكها وقسوتها وبلهها وكذلك غبائها ، لم يعُدْ هُناك شيئاً مما أمتلكتهُ من ذاك الماضي ، ابْتَلَعتهُ مِياهُ النهرِ مع حقيبةِ سفرِها ، روحها أصْبحت فقيرة رغم أنّ الجميع هُنا يشيدون بخصائِلِها ، أَين هي المُشكلة ؟ من أَين تبدأ ؟ وأَين تنتهي ؟ رُبَّما من حدودِ بلدِها الذي قررت يوماً تركهُ رُغماً عنها وبدونِ رغبةً منها ، رُبَّما عند أرضِ هذا البلد الغريب عنها والذي وطأتهُ قدميها لأولِ مرة رُبَّما ...
وقفت مُعلقةً عينيها بزُجاجِ إِحدى العيادات الطُبية في ذلك الشارع المُزدحم مُراقِبةً حركة المُمرضاتِ في تلك العيادة. لقد كانت يوماً واحدة من هؤلاء. واحِدةً منهُنّ...

25 آب 2006

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى