عدي المختار - مسلسل الملك فاروق.. النظر الجديد للتاريخ

نجحت الدكتورة (لميس جابر) في إثارة قضية طالما أرقتنا طويلا؛ وهي ضرورة النظر بتاريخ الأمم وإعادة كتابته مجددا وفق نظرية التجرد من الميول والعواطف والتحصن بالاعتدال والموضوعية لتوثيق التاريخ بصورة أوضح وأدق، لتدمير بروج المدونات التاريخية التي كتبت بجبروت السلاطين والطغاة.
مسلسل الملك فاروق الذي كتبته بـ(حرفنة) تاريخية لميس جابر وأبدع فيه المخرج الملحمي (حاتم علي) فتح الباب على مصراعيه أمام كتاب التاريخ المعتدلين لتوثيق تاريخ أوطانهم بتجرد و(حرفنة) تدوينية لا تخضع للعجلات الإعلامية للحكومات والمتطرفين بالفكر والمنحرفين بالسياسة الذين يحاولون أن يقدموا أنفسهم كمثال جيد، عبر تزييف الحقائق وفبركة الكذب المبرمج إعلاميا للمراحل التي سبقتهم.
كلنا سمعنا وقرأنا وشاهدنا عبر الأفلام المصرية مدى بشاعة شخصية الملك فاروق، كما أرادتها الحكومات التي أتت من بعده، والتي لم تقدم سوى حفنة من الشعارات والوعود.
ولكأن كاتبة العمل أرادت أن تقول.. إن كنا قد استنكرنا وأدنا وجود الإنجليز والعلاقات المريبة التي تربط السراي بالسفارة البريطانية، فها نحن نحتضنهم في كل الوطن وليس ما بين السراي والسفارة، وان كان الملك فاروق خائنا بتوريده أسلحة فاسدة للجيش في قتاله مع إسرائيل، فنحن الآن كلنا خونة، لأن هودج سفارة إسرائيل عامر بيننا.
هذا المسلسل رسالة مشفرة رمت بها كاتبتها ومخرجها في بحر الحيرة والتوهان الذي يلف العقل العربي الآن، وربما هي رسالة لكتاب التاريخ.
وكم نحن الآن بأمس الحاجة لترسيخ مفاهيم هذه النظرية لفك طلاسم تاريخنا المشوه، وإعادة كتابته وفق تراكيب قيمية وأخلاقية عالية، نحقق من خلالها نظرية العدل في التعامل مع الظالم أي (انصاف العدو) الآخر.
نحن بحاجه الى أن نكتب ما على (أنفسنا لأنفسنا لا ما بأنفسنا لأنفسنا). علينا أن نمتلك شجاعة الكاتبة لميس لإعادة هيكلة المنظومة التاريخية وإعادة تركيبها مجددا على أسس منطقيه وواقعية بعيدة عن التهويل والانتقاص والمزاجيات والتعاطف الطائفي أو المناطقي.
هي كرة رمتها (لميس جابر) بملعب الممتهنين لحرفة الغوص في أعماق الماضي ونسج خيوطه كوثاق تاريخي، بأن يتركوا الشعارات الملكية والناصرية والساداتية والإخوانية جانبا ويشرعوا بكتابة التاريخ مجددا بمهنية وموضوعيه وإنصاف، علهم يكسبون رضا الله والتاريخ جراء ما اقترفوه من تحريف. ونحن أيضا في العراق بحاجة الى أن يتعلم كتاب الدراما العراقية ومدونو التاريخ كيف يكتبون مراحل التاريخ بشيء من عنفوان صحوة الضمير.
أبدعت الكاتبة (لميس جابر) فأبدع المخرج (حاتم علي) معها، وزاد هذا الوهج والإبداع وهجا وإبداعيا آخر انبعث من روعة أداء ممثلي هذه الملحمة الممثل السوري المتألق (تيم الحسن) الذي أبدع في تمثيله، ليقدم لنا عنفوان الملك وانكساره بأداء رائع يبشر بولادة عملاق للدراما السورية، والممثلة الجميلة (وفاء عامر) التي استطاعت أن تعلو بإبداعها التمثيلي لتقدم لنا احساس الملكة ومكابرتها بأداء فاق كل التصور، والفنانة المصرية الشابة (منى فضالي) المسكونة بالفن والروعة والتحدي، هؤلاء المبدعون حقا، كانوا في امتحان عسير لإيصال روح وإحساس هذه الشخصيات المعقده والمركبة للمشاهد العربي، ولكنهم نجحوا في ذلك بجدارة فائقة.

ملاحظة :
المقال منشور في صحيفة الشرق الاوسط بعددها الصادر في الثلاثـاء 24 شـوال 1428 هـ 6 نوفمبر 2007 العدد 10570

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى