محمد ايت علو - انفلات ومسافة جديدة.. أنا الريح التي ستغير قبح العالم...

أنا الرَّعد! أنا الشَّبحُ! أنا الرِّيحُ، أنا القِناعُ! أَنَا لاأَحَدْ...! فكيفَ يسقطُ الصُّبْحُ حزيناً مُنْكَسِراً؟ كيف ينْضُجُ الحزْنُ المغْبونُ في بكاءِ القَلْبِ؟! وكيفَ تُورِقُ الهمومُ في الضُّلوعِ والورق...؟ يقولُ الممَثِّلُ وهو يجرِي منَ اليمينِ إلى اليَسارِ على خشبةِ المسرَحِ، مسحتُ زجاجة نظارتي، لم أستَطِعْ أن أتبيَّنَ شيئاً، شيءٌ ما كان يتحرَّكُ في ذلك السَّوادِ أو هكذا بَدَا لي، ربما شبحٌ أو صَحْنٌ طائرٌ، والممثِّلُ لا زال يصيحُ: كيفَ يسقطُ الصُّبْحُ؟كيفَ ينضجُ الحزْنُ؟ ويهروِلُ بينَ جنباتِ الخشَبةِ...رفعتُ يديَّ أُشيرُ إليهِ، لكنَّه لم ينتَبِهْ، رفعتُ يديَّ مرةً أخرى وأنا أصيحُ لأَجْذِبَ انتباهَهُ، وفي تلك اللحظةِ انفجرَ الممثِّلُ وغاصَتِ القاعةُ في القهقهةِ..التَفَتْتُ،..لم يكنْ هناكَ أحد، فقد مضى وقتٌ طويلٌ ولم يحضر أحد، في وسط الخشبةِ صناديق وكراسي خشبية متعانقةٌ، وفي أقصى اليمين أعمدةٌ وإطارات أفقية تشبهُ السِّجْنَ، وأثوابٌ وأقمشةٌ مدلاة، وأقنعةٌ مختلفةُ الأحجامِ والملامح، والممثلُ لا زال يجري من اليمينِ إِلى اليسار ويصيحُ، ثم سرعان ما اشتعلت ملابسهُ ناراً من الأسفلِ رافعاً وَمُمَدِّداً يديهِ كأنَّهُ يحاولُ الطَّيرَان، يحرِّكُهُما عابثاً نحوَ الأعلى وأجنحة الريش على طول اليدينِ والدِّراعيْنِ لاتصفق، ولا أحدَ هُنا غيري يصفِّقُ، والممثلُ المسْعُورُ وحدَهُ يَصيحُ، يقفُ ويسقُطُ، دائم الصِّراعِ بين الأحاسيس والنيران في ذيلِ دثارهِ لا زالت مشتعلة، لعلَّها إحدى الخُدَعِ التمثيلية، فهو لم يحترِقْ ولم يمتْ لحدِّ الساعة، وقد مضى وقتٌ طويلٌ، أو هكذا توهَّمْتُ، ثم هو يقفُ بصعوبةٍ يتمايَلُ ويترَنَّحُ يميناً وشمالاً، يوشِكُ أنْ يقَعَ على الركخِ، يقتربُ قليلاً منَ الوسَطِ، ينكشفُ الوَجْهُ الغضوبُ عن فجاءة الفرح المصنوعِ وراءَ القناعِ، ثم يردِّدُ: أنا الرَّعد! أنا الشَّبَحُ! أنا الرِّيحُ، أنا القِناعُ! أَنَا لا أَحَد...!
وقبلَ أن تُرفَعَ السِّتارَةُ مرة أخرى، انزَوَيْتُ في رُكْنٍ قَصِيٍّ، جِسْمِي يرفُضُ الاستمرارَ في الشُّرودِ، حتى ظهَرَ الممَثِّلُ، لكن هذهِ المرة كان يضعُ رأسَهُ وسطَ مِشْنَقةٍ، وفي الأسفلِ بقايا رمادٍ، وبدَا المنْظَرُ برُمَّتِه متعدِّداً من خلالِ المرايا الَّتي عكَسَتْهُ والمبتوثةُ وراءَهُ، ثم صاحَ: أين هذا الزيف، أين يختبئ؟ أين هذه الأنا؟ وجسدُ من هذا؟ ومن هذه الرُّوحُ التي تسكُنهُ؟ أروحٌ خيِّرَةٌ أم شرِّيرة؟ اخرجُوا من أقنِعَتِكُم! ثم ما لبثَ أنِ انكفأَ على إحدى المرايا محتضِناً خيالَهُ الَّذي ضَمَّهُ وانزلَقَ، وأنا ما زِلْتُ مُنزَوياً في رُكْني القَصِيِّ..، لم أرَ الممثِّلَ ولا نِصْفَه، السَّوادُ هو السواد، فلم أكن قد حملتُ معي نظَّارتي، وكأنَّني كنتُ أعرفُ مُسْبَقاً بأنني لن أرَ شيئاً مما قد يُبْهِجُني، الممثلُ لا زالَ ساقطاً، والأوراقُ تبعثَرَتْ في كلِّ جنباتِ القاعةِ، وتحتَ أَرْجُلِ الكَراسي الفارغَةِ، الفصلُ الأَوَّلُ الَّذِي لم أَحْضُرْهُ تقريباً، والفصولُ الأخْرَى الَّتي انْقَطَع فيها التيارُ الكهربائي، وغابَتْ فيها الإنارةُ بكافَّةِ ألوانها وفُصولها، والظلامُ أيضاً اكتَسَحَ القاعة، والمشاهدُ والمسامِعُ انفلتَت وضاعَ النص بينَ الأَرْجُلِ، والممثِّلُ الوَحيدُ ما زالَ ساقطاً على الخشَبَةِ حتى الآنَ!! الأوراقُ لا عَدَّ لها، لا بداية لها ولا نهاية، ولم تكن مرقَّمَةٌ أو متسلسلة، ثم هَا أنَذَا أراكمها واضعاً بعضَها فوقَ بعض، فجأةً يقفُ الممثِّلُ ويَصيحُ: تحرَّكُوا إن هذا العالمَ الَّذي تتواجَدونَ فيهِ يتعذَّبُ في جُلِّ بِقاعِهِ، وإلاَّ فالأخطاءُ ستستمِرُّ حتى فوقَ هذهِ الخشبة، ولا أحدَ سيحرِّكُ ساكناً! ولَنْ تتلَذَّذُوا بِعَذابي! ولَنْ أُسَلِّيكُمْ أو أقدِّم لكم أيَّةَ فُرجَةٍ بعدَ اليومِ! وسأصيرُ هَشيماً وتَذْرُوني الرِّياحُ، وسَتَخْرُجونَ إلى مُعْتَركِ الحياةِ رغماً عنكُم لِتَرَوُا الحقيقَةَ وتَسْتَنْجِدُون! هيَّا تحرَّكُوا ألا تحُسُّون، فالموتُ واحدٌ، والموت قادم والحرباءُ تنتَظِر!! ثم يصيحُ أنا الرَّعد! أنا الشَّبَحُ! أنا الرِّيحُ، أَنَا لا أَحَد...! سَأَتَبَخَّرُ إِنْ لَمْ تَتَحَرَّكُو، أنا النَّارُ في الهشيمِ حتى تَتَحرَّكُوا لوَقْفِ هذا النزيفِ، أنا الرَّعد! أنا الشَّبَحُ! أنا الرِّيحُ، أنا القِناعُ، أنا الرِّيحُ الًّتي ستُغَيِّرُ قُبْحَ العالم!!
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى