أشرف الصباغ - قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية

قالوا: "بالسر إن باحوا تُبَاح دماؤهم، وكذا دماء البائحين تُبَاح".
فقال: ما آيتى؟
قالوا: ألا تكلم الناس دهرا. فالصمت صفة العصافير العاصية، وصبر عاصم من عصف العواصف
العاصفة، وسيف مسلول مسموم مسحور إن قطعته قطعك، وإن وصلته قطع غيرك.. فالويل لك..
الويل لك.

( 1 )
في عصر يوم قائظ دخل جدى وخلفه ذلك المخلوق الغريب الذى انفلت إلى باحة الدار بخفة واطمئنان. نظرتُ إلى وجهه، ثم إلى القط الراقد هناك بجوار الفرن، وصرخت. قهقه جدى، ولاحت على شفتى الفتى الغريب ابتسامة كشفت عن أسنانه البيضاء بغير سوء، فازداد هلعي، والتجأتُ إلى أحضان أمى. وراح جسدى ينتفض، والحروف تتناثر على صدرها.. عفـ.. ريت ..عفـ.. ريت..
قال الجد: ولد ابن حلال.. سيعمل عندنا من اليوم وصاعدا.
نظر أبي مندهشا إلى عمي، وتلاقت عينا جدتي بعيون عمتي وأمي، ولاحت على شفاههن ابتسامة، بينما هرولت عمتي الصغيرة إلى الداخل في دلال وخجل.
* * *
لم يسل أحد عن اسمك، فأعطيتُك الاسم واللقب، وجواز المرور إلى قلوب نساء دارنا ورجالها. وعندما قلتُ عابثا: قطقوط، ضحكتْ أمي، واستلقى أبي على قفاه. وقال الجد: قطقوط.. قطقط.. عفريت.. سيان يا ابن الكلب. وجذبني إلى صدره مقهقها ، فحولتُ وجهي بعيدا عن رائحة عرقه ووخز الإبر المتناثرة على صفحة وجهه الخشنة.
أما أنت فضحكت..
فقأت شفتاك عين قلبى، وامتطت بسمتك نهر الدم السارى فى كل صوب. التقى ضوء عينيك بوميض أسنانك البيضاء، فاهتزت أذناك الكبيرتان، وارتجفت أرنبة أنفك وطالت بسمتك واستطالت. ورحتَ تتآخى مع الصمت حتى صرتما توأمين، فلا أحد يعرف من أين جئتَ، ولا نسمة متلصصة تخبر النفوس الزنخة عن أصلك ومنبتك. والناس فى قريتنا يدخنون الكيف، ويزْنون تحت ستار الليل، ينِمُّون ويرتشون خلف أشجار التين والزيتون، يسرقون بعضهم البعض ليلا ونهارا، ويسرقهم الغير مجانا، فاعتاد كل منهم الآخر واعتادتهم عاداتهم المجوسية.
وأتيتَ أنت..
أتيتَ بوجهك الأسمر المنحوت على صخر عمره بعمر السنين، بملامحك المنقوشة بإزميل خرافى، لتبطل صلاة الزنادقة والتيوس، وتزرع التين والزيتون كما زرعهما راعى الأغنام فى قيظ الصحراء والقلوب.
وتفوح رائحة الزبد المتعفن على زوايا الأفواه، تتسلل تحت الجلود السميكة ، لتسكن هناك فى مجرى دمائهم العطنة.
سألوا متهكمين: مِنْ أين جاء العجوز بهذا الأسود؟
وضحكوا ساخرين.
قالوا: هذا العجوز يأتي بالأعاجيب.. ربما يكون ابنه من امرأة أخرى.. وربما عثر عليه في الطريق.
وتغامزوا ضاحكين.
قرأتَهم السلام في الطريق ، فابتلعوا ألسنتهم الزرقاء وأعرضوا عنك. وراوغك الصمت فابتسمت.
وتبتسم أنت..
تبتسم فيختلط في عينيك الأبيض الناصع بالأسودالمتهافت، يسيل النور على وجهك القديم عشقا صوفيا رقيقا، وفي قلبك غصة حزن لا يريم.
ركبتَ حمارك، وغنيتَ في الطريق. صنعتَ لنفسك نايا، واتخذتَ من فخذك دُفَّا، ورحتَ ترتل كلمات من عسل وسكر. فأحبَّك قطيعك، وعلى وقع نغماتك سبَّحَتْ الماشية بحمد خالقها، وهم يمرون بك كواحد من القطيع، كجيفة نتنة عاشت وماتت وأُلقِيَت في ركن مظلم خلف جدار متهدم، يقرأون بعضهم البعض سلامهم المعتاد ولا يقرأونك إياه.
رحتَ تفتش، بين مراوغة الصمت ومراودة الكلام، عن إثم ارتكبته ، فلم تجد. أخذتَ تبحث عن الأسباب، فلم تعثر على سبب واحد، أو علة تكفل لهم تلك القسوة والجهامة صبحا ومساء. فآثرتَ السكوت ودمع قلبك يطفئ نار المجوس فيزداد سعيرها فـي قلوبهم. "وأمسيتَ غريب الحال، غريب اللفظ، غريب النِحلة، غريب الخلق، مستأنسا بالوحشة، قانعا بالوحدة، معتادا للصمت، ملازما للحيرة، محتملا للأذى، بائسا مِنْ جميع مَنْ ترى، متوقعا لما لابد من حلوله".
ولما أعياك الوجد وأنهكتك الصبابة، ألقيتَ بمرساك على شواطئ العمة الصبية. وفاضت عيناك بمروج العشق الشاهد على شهوة الشرايين المشرئبة، والتمستَ المدد من قلبٍ صَبِىٍّ يمتطى شراع الأفق الممشوق المشدود بالصمت والنور إلى سمت السمات والصفات والأزل. لكن العشق حرام فى قرى المجوس وبلاد الأسافل. فما كان منها إلا أن أحبتْ زيتونك، ورائحة زنديك، ومروج صدرك، وزحمة المساء حين تعود مع القطيع فتلامس أطراف أكمامك أصابعها الفتية المتعبة.
راودها العشق، فانتفت علة الكلام. وصار الصمت عِبَادَةً لِطَيْف المحبوب، وذوبان فى ذاته ولَذَّاته. وأمست الأحلام دروبا تسرى بها للقاء وجه الحبيب الأزلى فتوحدت الأرواح فى ظل نور أبدى يهب الأشياء أسماءها وصفاتها، ويبعث برسل من ضياء لا عين رأتها ولا خطرت على قلب بشر.
تُردد جدتى: "فقيرة هى تلك النفوس التى تبطش بالأشياء والأحياء.. فقيرة هى تلك النفوس التى لا تخفف الوطء، لأنها لا تدرى أن أديم الأرض هو من هذه الأجساد". ثم تبسمل وتحوقل ، وتستعيذ بالله.
ويراوغنى الحلم، فأمسك بمعصميك، وأتعلق بزنديك، وأراك عرسا قادما لا محالة. فأنسى قسوة جدى، وأفكر بما يقوله سيدنا فى "الكُتَّاب". وعلى مئذنة الله العالية أصعد مرددا آذان أبى ذر من أجلك ومن أجل الآخرين فى أرض الله الواسعة، حتى أتسامى أغنية وقصيدة على لسان الطير، والشعراء الصعاليك، والصادقين بمحض إرادتهم. وفى طريق عودتى وحيدا مجهدا أرى أمى فاتحة قلبها النورانى، فتتلقانى مدثرة إياى بلحاء روحها. ولما يشتد أوار المعركة المجاورة، أرى معاوية يفر، والآخر يكشف عن عورته الخلفية بمحض إرادته، ويزيد يسكر حتى مطلع الفجر، فأتقلد سيفى وأضرب الحجاج والمنصور والحاكم بأمر الشيطان حتى آخر خليفة عصرى. وعندما أُلقى برأس آخرهم فى النهر، تلتئم أشلاء ابن المقفع، ويستيقظ الجعد والحسين، وينزل الحلاج والمسيح والسهروردى من فوق صلبانهم، ويعود أبو ذر من منفاه، ويضحك أبو حيان ساخرا من الوزراء الأدباء والأدباء المستوزرين ومَنْ على شاكلتهم.
وفى نشوة الحلم والانتصار أرانى معك ريشة فى جناح طائر، وحبة فى باطـن الأرض، وسر فى قصيدة لشاعر جائع مجنون، وحفنة من نور الحبيب. وإذ يقسمنا الغدر المزمن، نتحول إلى خلية عضوية تنقسم وتتوحد، ثم تنقسم ولا تتوحد. وقبل أن نموت موتا بطيئا وطويلا، أنشدك نشيد الحزن والألم فى زمن ينتحر فيه الأنبياء والصالحون، وتقدِّم فيه الملائكة استقالاتها، ولا يبقى أمام الله سوى طريق واحد…
..فمن أين أتيتَ أيها الصامت دهرا والناطق صدقا؟ هل أنجبتك العتمة العذراء؟ أم اغتصب أبوك الليل امرأة مباحة على عتبات الصباح؟ فتساميتَ من رحم أمين، فسريتَ بسر مبين، فصرتَ جسدا يأتى من الغياب إلى الغياب معتمرا بالسنين؟
..هل نبتت ضفائر قلبك من تين وزيتون وطور سنين؟ أم انفلقت الأرض عن روحك فغدوتَ إنسيا
يركب الفلك ويأتمر بالصهيل؟
.."ها أنتَ على شاطئ لا أعشاب له، وعلى ضفة نهر لا ينمو فيه العوسج. ستطير سهامك وسط النهر، كما تطير أوزة وحشية إلى وليدها. أطلق-أتوسل إليك-وسـط النيل، واغرس حربتك فيه. ثبت رجليك ضد هذا الفرس النهرى، واقبض عليه بيدك، وإن كنتَ قد أصبحتَ عارفا فلسوف تقضى على هذا الأذى، وتسئ معاملة الذى أساء إليك".
..ها أنذا أنشب مخالب الذاكرة فى جسد الحلم، وأغرس ملامح وجهك بين حدود الرؤية المبهمة وموجات الشهوة المتعثرة. أنضو عن نفسى كل الألوان، وأتسربل بالحق لونا واحدا يحرق ولا يحترق. أرتدى سمرة وجهك بردا وسلاما، وأرفع بياض عينيك الناصع على أسنة الرماح الضاربة، وأحدِّق مشرئبا فى الأفق، فثمة خطأ يجعل الحق يحرق صاحبه.

( 2 )
قلتَ لى يوما عن أبيك عن جدك عن رجل مات فى قريتكم عن آخرين لا تذكر أسماءهم:
"علِّموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل". ولما كثُرت أسئلتى لم تسعفك الفصاحة. فأشرتَ لى أنْ اقفز. فقفزتُ. وأخرجتنى من بطن ترعتنا الصغيرة كفرخ بط سقط سهوا فى بِركة ماء. صنعتَ لى "نِبْلَة" وقلتَ ارم، فرميتُ. قذفتَ بى على ظهر الحمار قائلا:
اضرب، فضربتُ. وبين السقوط والقيام أمسكتُ باللجام. ورحنا نتسابق ونتبارى تحت سمع وبصر عسس الليل والنهار، وهم يظنون بك العته والجنون، وبى البلاهة والمجون. وما أنت بمجنون، ولا أنا بماجن أثيم، إنما هم الخاسرون الذين يمنعون الماعون، ويقيمون حدودهم على الناس وينسون أنفسهم.
قالوا إن الصغير يجب أن يتعلم الفضيلة فى "كُتَّاب" الشيخ التركى، ويحفظ القرآن بين يديه. وقالوا اللعب مضيعة للوقت، والعوم فى الترعة علة للموت، وركوب الحمار بغرض اللهو لا يعود بفائدة على أهل الدار. وعندما أعيتنى الحيلة واشتد عقاب الأعمى فـى "الكُتَّاب"، قلتَ لى: اغمض عينيك.. وامسح بيمينك على صدرك.. ثم اقرأ بتمهل وجلال. أجلستنى أمامك ورحتَ تدق على فخذك مرددا: فيها سرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابى مبثوثة. وعلمتنى الترتيل كما علمتنى العوم والنَبْل وركـوب الخيل. لكن الأعمى ضربنى متعللا بأن ثمة غناء فيما أتلوه. وقال: سمعتُ أن غريبا فى داركم.. فمن يكون؟ لم أرد. فَأَلَحَّ: من أين جاء فلم أزد. ولما نزلت عصاه على رأسى، نطقتُ: لا أعرف يا سيدنا. فقال هازئا: اقرأ. قلتُ: ماذا ؟ فقال: هل أتاك حديــث الغاشية.. فقلتُ ما أنا بقارئ. واحتضنتُ العامود.
وراح سيدنا يدق سافودا يوميا فى أعماق روحى حتى صار وجهه المجدور مسخا من سحنة إبليس. وطفق يردد فى سخرية وشماتة: لقد غشى الله على قلبك فأعمى بصرك وبصيرتك، فأضعتَ ما علمته لك.. لقد أودى العبد بنور قلبك، وأعماك اللعب واللهو.. إنه ملعون لا أصل له.. يصلى فى الخلاء مثل الذئاب الضالة.. وينظر إلى النساء بشهوة شيطانية.. وربما كان يفعل المنكر فى داركم.. لعله زنديق كافر أو أقلف فاجر.
ويضحك الأولاد، وأنا لا أعرف معنى الأقلف. وهو يرى بعيون العسس. ولما اشتد البلاء وعظُم الخطب، بات صوته اللعين يؤرقنى ويبث الرعب فى نفسى. وإذ فاض الكيل يوما، أعلنتها غير خائف ولا باك: أنت الكافر والأقلف.. ولا تغسل مؤخرتك قبل الوضوء.. ملعون أبوك يا سيدنا.
وتفاديتُ عصاه العمياء مُطلِقا ساقى للريح، فاتحا صدرى للعاصفة المُقبِلة، ولصوتك ونغمات نايك وترتيلك الشجى. وثمة هاتف يردد صوت الله فى جنبات كونه السحرى، أن السعى للخفيف، والنصر للصنديد، والغِنى للفهيم، والنعمة للعارف الحامد الشاكر. ويردد الصدى، أن السعى ليس للخفيف، والنصر ليس للقوى، والخبز ليس للحصيف.. فترتج شمس الله، وتتصدع أعمدة الكون، وينزع الليل الساجى عباءته، فيكشف عن عورات القلوب والبصائر والأدمغة الخربة، فلا لوم عليك ولا تثريب إذا احتميتَ بصمتك وصبرك وصومك، وأينما تولى وجهك فثمة وجه الله الحقيقى، حتى وإن زهق الحق وجاء الباطل.
عنَّفنى أبى، وأنبتنى أمى. أما الجد فضربنى لأننى تركتُ نعلىَّ فى "الكُتَّاب".
فأنقذتنى أنتَ من عقابهم الجماعى، وأقسمتَ يمينا غليظا بأنك ستجعلنى أحفظ للكتاب من سيدنا. فوعدك الجد ساخرا ببقرة تملكها، ومسحت الجدة على رأسك بحنان أم، وتمتمت أمى بكلمات ربما شفعت لك أمام الحبيب. أما العمة فغسلت لك جلبابك ومنديلك، ونفخت فيك من نور عشقها حلما لازورديا يأبى على البحر فك أبجديته، ونفحتك من روحها عطرا أرجوانيا مشوبا بقبس من أريج دمائها الزكية.
ولم يستجب جدى لتوسلات الوسطاء، فراح يتفادى لقاءه فى المسجد، وفـى الشارع ، وبين الناس. ولما تأكد الأعمى من وعد الجد بقرة لك، طار صوابه فأطارت دقات عصاه على باب دارنا بسكينة قلبى. والتقاه الجد بقسوة وجفاء، وعنَّفه لضربه إياى وسخريته منى. وبخبث مزمن طمأنه بإرسال مؤونته السنوية كالعادة. فأطلق ضحكة لزجة أخبث من وعد جدى له، ثم صب على رأسك ألف لعنة.
وبين السباحة والرماية وركوب الخيل رحتُ أعدو خلفك فى الخلاء الرحيب، صوب المدى المعلق على أسنة رماح عسجدية، ميمما بقلبى شطر وميض عينيك واستعار روحك التواقة لفك طلاسم أحلام الأزمنة الحبلى بالخصيان.
ورحتُ أسير وراءك على صراط مستقيم لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه. والحق والباطل عندهم شيئان مختلفان بينهما متسع لتعدد الألوان. فللأسود لونان، ولللأبيض ثلاثة، وللأحمر خمسة. وعندما تنتفض الحاجة من وحل المصلحة، يصير الأبيض أسود، ويغدو الأحمر أخضر بإذن الله، وتتبادل الأشياء أماكنها بإرادة الشيطان، وتكذب الشفاه على نفسها مدعية أنها إرادة الله.
كان يزلزلك نصف الموقف ونصف الحركة، ويهدد كيانك الدوران فى الموضـع الواحد، والمراوحة على خازوق من السكون المقصود بالعلة والمعلول. وللمجوس عادات يمارسونها ولا يفصحون عنها، فاعتصمتَ بالصمت ملاذا فوق مئذنة عمرك الصبى، والشمس تستيقظ كل صباح من تحت نعال الليل، وتطل فى توجس، تحدق فى عيون اعتادت خداع أصحابها ولما لا تجد سوى الزبد المتعفن يغطى شفتى الحقيقة، يحترق وجهها بحمرة الخجل المتواصل، ثم تدمع عيناها فى حزن واندحار، وينهال الأسى على قلبها الفضى، فتنطفئ وتهرب خلف جبال العتمة المخيمة على المدى الكلسى.
انتزعْتَنى من حكايا أمى المسائية عن الصبى الفقير والأميرة الغنية، وحواديت جدتى عن أمنا الغولة والأميرات وست الحسن والشاطر حسن. أخذتنى عنوة إلى عالم سحرى أكثر حكمة وصوابا. فأزحتَ صخرة عتيقة عن سنين عمرى الخضراء، وكشفتَ عن عالم يضرب فيه الرجال أعناق الرجال بالحق أحيانا وبالظلم أكثر. وكنتَ تفاجئنى بانتصار الظلم باسطا كفيك مندهشا، وشفتك السفلى تمتد للأمام معلنة عن جهل مصطنع. ولما تفيض أسئلتى، تتألق عيناك فى محاولة عبثية لإخفاء الألم بالصبر المتجمر.
حكيتَ لى عن رجل خانه أصحابه، فقتلته الفئة الباغية. ورويتَ عن ابنه الذى خانه نفر أبيه ونفره، فقُطِعَت رأسه، وقُدِّمَت على طبق من ذهب لحاكم أخرق دنَّس الشفتين بسبابته النجسة. ورحتَ تعتصر فؤادى، وتثير عصافير قلبى الهاجعة.
زرعتَ فى ذاكرتى شجرة نبق فتية، وأطلقتَ فى أحلامى طائرا أبديا لا يلبث أن يهب من رماد النار، بعد كل حرب وفتنة وموقعة وخيانة، فتيا وجميلا ورائعا. وطويتَ بعضا من عمرى فى قميص عثمان الحريرى المُذَهَّب، وعلَّقتَ بعضا منه على شعرة ابن هند التى لم يقطعها سيف الحجاج إنما قطع الحق ووصل الباطل إن الباطل كان سرمديا.
وبين الحكايا والتلاوة علَّمْتَنى الصبر، وبيَّنتَ لى الخيط الأبيض من الخيط الأسود فأشرق صباحى المندى بقطرات عطر روحك المستثارة، وانمحت فى عينيى الألوان الباهتة المستكينة، وتقلَّصت مساحة السكون والرضا حتى صارت حدا مسنونا بين الخيطين.
-ولكن ماذا عنك يا من تبنى جنتك فى النار؟
-لا شئ.
-لا شئ؟!
تحكى عن كل شئ إلا عن نفسك. قلبك هو بوصلتك، والصمت ملاذك وعباءة ذاكرتك المصنوعة من ريش طائر النار الأبدى.
عندما كان العجوز يردد فى حكمة ابن العاص وحذره، إن الصمت من ذهب. كنتَ تهز رأسك، ويتجسد الزمن فى عينيك طيورا مصلوبة، والعجوز يظنك معتوها. لكنك كنتَ تعود لتروى لى ذاكرتى مع أشجار النبق والأحلام مؤكدا، إن الكلام من نور، وليس كل ما يلمع ذهب، وشتان ما بين حفنة من نور وحفنة من ذهب فتسمعك المياه الجارية، وتطرب لصوتك البرارى والحقول، ويلوذ الطير بأعشاش قلبك المضيئة.
-لكن لماذا لا تقول للعجوز، إن الكلام من نور؟ وإن كان الصمت من ذهب، فلماذا لا تقول له شتان بين ذهب وذهب؟
وتتوه عيناك فى الأفق المشرئب ، فتأخذ نفسا عميقا ولا ترد.
الصمت.. الصمت..
ولذا كرهوك. أعلنوها عليك حربا سرية قاسية قدَّ قسوة قلوبهم، وقدَّ الدود الناخر فى أدمغتهم.
صمتك مريب يا قطقوط، ومجوس قريتنا يتصنعون الغفلة. يعجبهم الصمت إلا صمتك. يفعلون فى البيوت الأخرى، ويُفعَل فى بيوتهم. لكنهم ارتضوا ذلك منذ زمـن سحيق. وأنتَ تعلم أن معاوية كان يعلم، وابن العاص كان يعلم. وتدرك أن القدماء والمحدثين كانوا يعرفون، لكنهم ارتضوا ذلك. ولو أعاد الزمن دورته لفعلوا ما فعلوه راضين قانعين فى سبيل الله والشيطان والجوارى والغلمان. ولو قلبت الأرض من الماء إلى الماء لَهَبَّت شقائق النعمان تشير بأصابع من نور إلى الحاكمين بأمر الله بالتنسيق مع جوارى وغلمان الفرس والترك وحوريات أبناء الرب اللاتى ما أنزل الله بهن من سلطان.
قسوة قلوبهم أمضى حدا من حد السيف..
لم تفكر يوما فى تحطيم الأصنام الراسخة فى نفوسهم، ولم ترفض قط إمامة سيدنا. لكن أهل قريتنا يبصرون بالمال، وبجشع قلوبهم الصدئة. يَزِنُون الإنسان بعرض قفاه، وبلحم بطنه. فأوغَرَتْ صدورهم وعود جدى الخبيثة. وراحوا يلهثون خلفك ليفضـوا جمجمتك، ويهتكوا ستر روحك الأمين.
أنتَ تسمع وترى.. وصمتك أمضى من قسوة قلوبهم..
الصمت يؤرقهم ويقض مضاجعهم، فيفرغون حصافتهم ورجولتهم وما بسراويلهم فى أدمغة نسائهم وأطفالهم. فتراهم يرتكبون حماقاتهم المعهودة، ويعقدون مجالسهم، ويصدرون قرارات سرية وأحكام قسرية تفوح منها رائحة الحاكم بأمر الله والقبيلة والوطن. فسيدنا لا يسمح لمخلوق بالاقتراب من "كِتَابه" و"كُتَّابه" وتجارته الرابحة. والأعمام والجيران يرون فى عمتى بقرة حلوب إذا ما استطاع أحدهم دق ابنه وتدا بجدار قلبها. والآخرون يقفون بالمرصاد لأمثالك الذين يعملون عندهم بالوراثة والخلافة ووضع اليد. أما جدى فهو يعطيك بيمينه وعودا أمام الناس ليأخذ منهم صاغرين عشرة أمثال ما أعطاك، وليزيد من سعر ابنته وبضاعته فى سوق النخاسة الشرعى على ذمة سيدنا.
راحوا يبيعون الله فى صلواتهم الخرافية، ويسددون ديونهم بدماء الأنبياء. وفى مواسم الكساد يقطعون لحم أمثالك ويبيعونه بالتجزئة، ثم يركبون نساء بعضهم البعض راضين، فى السر والعلانية، ويمارسون اللواطة بجميع أنواعها مع سبق الإصرار.
وأعلنوا حكمهم السرى: العبد الغريب زنديق لا يجوز إلقاء التحية عليه أو مبادلته إياها. والعجوز ملعون أخرق ديوث يغض الطرف عن غريب بين حريم داره. والعجوز المأفونة لم تفلح فى زرع الفضيلة والوقار بنفس ابنتها المهرة العاصية.
وأنت تسمع وترى..
وكان من الممكن أن يصبح صمتك مثاليا، ووجودك ضروريا، لولا وعود جدى. كانت كل الاحتمالات تشير إلى إمكانية ترويض صبرك وصومك ليصيرا صكا براءتهـم وطهرهم. وما كان عليك إلا أن تنأى بصمتك عن صمت العارفين المنزهين عن الهوى فتحل محل الغائب منهم فى فراشه وقلب امرأته، والنساء يعرفن ذلك منذ السبى.
الأسود معتوه.. والصغير ديوث مثل أبيه وجده..
وتضحك أنت..
والصغار يرون بالحدس، فيهزون رؤوسهم ولا يؤمنون. ولما سمعوا منى حكاياك، استعجلوا الوقت، ونضوا عن أنفسهم رداء الطاعة المتهرئ على عتبات "الكُتَّاب"، وتعروا من الضلالات البريئة، ثم خبأوا الله فى صناديقهم الصغيرة الصدئة، وتركوها فى غرفة نوم سيدنا. هرعوا فرحين مستبشرين إلى الحقول والبرارى باحثين عن الله فى ذاته وصفاته مصممين على الدخول إلى مملكة عزته ومجده. فوجدوه على ذؤابات الأشجار الساجدة، فى تسابيح الطير، وبين دفات الريح المراوغة. اقتبسوا من نوره قدر ما استطاعت قلوبهم البضة، ثم أغلقوا عليه صدورهم خوفا من أذى الله القابع فى متجر سيدنا.
أعجبتهم حكاياك فالتفوا حولك فى الأمسيات المترعة بسحر صوتك. اجتذبتهم أشعة بسمتك البيضاء من غير سوء، فعرفوا أن لتينك وزيتونك طعم الفرح، وكسد تين سيدنا وزيتونه، وبارت تجارته.
وأنا أسمع وأرى.. وأحس بما تحس..
الوحدة تؤرقك وفطنة الطبيعة العفية لا تسعفك. ومهما تعدى العشق حدود الصمت وانكشف الستر عن الحرف، فالقيد إشارة فى بحر الوصل، وعاجلا أو آجلا سيتساوى الحد الفاصل بين النطق وبين الصمت. وطقوس أهل قريتنا عمياء مثلهم، وأخبث من ادعاءات الكواكب الإحدى عشر، وأقسى من أنياب الذئب الذى التهم الثانى عشر، وأنت الثالث عشر.
..قسوة القلوب أمضى من حد المقصلة..
والغباء المزمن أظلم من قاض فاسد. فى نفسك قلت، وقلت لى: فلنذهب إلى المسجد.. لنجرب صلاة الجماعة. ثم أطرقتَ حزينا.
لم أفهمك. ولم أعرف لماذا يكون الموت أحيانا أقرب إلى القلب من حبل الوريد. لكنها العصافير تصدع بما تؤمر، وتنحاز إلى جانب الأنبياء فى معاركهم الخاسرة، ثم تنتحر على مآذن الله وأجراسه، ويأفل نور قلوبها على أذناب معابده الخاوية علــى عروشها.. وهو الطير، إن طار ففى سماء الله، وإن أكل فمن خير الله، وإن غنى فبأمـر الله، وإن صمت فإن مملكة الشيطان قاب قوسين أو أدنى.
قلتُ: يا رب، إن مر اليوم على خير فسأصلى الخمس حاضرا.. وسأصوم دهرا.. وسأحج لبيتك عندما أبلغ.
وتمتمتَ أنت. تمتمتَ مطرقا وكأنك تنذر شيئا لله.
ويعتلى سيدنا المنبر. يعتلى عرش الله الذى حُرِّم على المنافقين والأفَّاقين وقاطعى الأرزاق ومُفَرِّقى قلوب العاشقين.
كان يعرف أنك خرجتَ على صومك وصبرك معلنا عن حب الجماعة وطاعتها. أدرك أنك طرحتَ صمتك، وأطلقتَ عصافير قلبك، وقررتَ السجود مع الجماعة وإن كان المعبود عجلا.
بسملَ، وحوقلَ. قال إن الأطفال أحباب الله. وقال: ربوا أولادكم على الطاعة والفضيلة، ولا تربوهم على المعصية والرزيلة. أشار إلى فساد الصغار ولهوهم، وراح يلعن قوما تحكمه امرأة، ويلعن رجالا يفتحون أبواب بيوتهم أمام غرباء ينتقصون من عفة نسائهم.
ونسى الجالسون همومهم. نسوا ما يحدث فى مخادعهم. تناسوا إنهم يَزْنُون ويدخنون الكيف، ويتزوجون من صبايا فى عمر الورود بعقود رسمية وشُهَّاد زور. هَرَّبوا عن ذاكرتهم الاغتصاب الرسمى بعلم الجهات المسؤولة، وأداروا ظهورهم لنسائهم اللائى حملن منهم سفاحا وأنجبن فى الحرام أطفالا فى براءة الصباح.
ويفيض كيلك .. والطقوس طقوس..
الصوت يصم الآذان، والقطيع على رأسه طير مجوسى. الأعمى يطلق سهامه ذات اليمين وذات الشِمال. ودارنا فيها نساء وصبايا فى عمر الفرح. والسهام مسمومة. يطير سهم يوغر صدر جدى الساجد مع القطيع. فإما أن يوافق طائعا على ضعفه أمام رغبة نساء داره، أو يقر صاغرا على جرم يحدث بين الغريب وبين أية امرأة فى الدار. وإما أن يعترف بنقض العهد المبرم سلفا بين كبار القوم.
ويطفح الصبر من إناء قلبك الرصين.. والكلام من نور..
لمعت عيناك نصلا حادا ارتفع فى الأفق الملبد بالغيم الأرجوانى المعتق بالهوى، فهوى على رقبة العجل الصنم الرابض فوق حدود المنتهى. سال لسانك مرا زعافا، انفك من القيد الأفعوانى يداوى الجرح العتيق المترهل: فليتعلم الأولاد الفضيلة والسباحة والنَبْل.. ليتربوا على الطاعة وركوب الخيل.
ويلعنك ألف مرة.. والطقوس طقوس..
فتستل لسانك سيفا حسينيا شهيدا وشاهدا: أما النساء فشقائق للرجال، يا سيدنا.. هن أمهات وأخوات وزوجات.. وبنات لنا من دم ولحم.. هن زهرة الحياة ومروج العشق.. وراية تُرْفَع وترتفع عندما تهوى رؤوس الرجال فى وحل الغيبوبة.. وإن سقطن فهو اختلال الميزان.. وإن قُهِرْن فهو انكسار العدل، ووأد لسيوف فرسان العشيرة والقبيلة والوطن.
ويلعنك ألف ألف لعنة..
فتغرس سيفك فى القلوب الهرمة المرتقة: للبيوت أسرارها وحرماتها.. لا ترم النساء بأحجار قلبك الباطلة.. فعندك امرأة صبية فاتنة.. والقلوب أسرار كما البيوت، يا سيدنا.. و.. ولم يمهلك القوم، فطردوك من بيت ليس لهم. ونادى المنادى أن أقم الصلاة.
ورحتْ. رحتَ إلى بيتك الواسع بقدر السماء والأرض، بقدر مجرة قلبك الراسخة. فافترشت الأرض متوجها إلى قبلة ترضاها، ورتلتَ آيات من تين شهى وزيتون، ثم أشعلتَ نارا تطفئ بها لهب المجوس المتحرش بالندى.
طقوس.. طقوس..
-إنى رأيتُ فى المنام أنى أطرده..
كان جدى يكذب. وكان يعرف أنهم يعرفون أنه يكذب. لكنهم هزوا رؤوسهم متغامزين، فَصَدَّق العجوز نفسه.
-صَدَقَ سيدنا عندما قال أن اللعين لن يعمر طويلا فى دارى..
لم يقل الأعمى هذا الكلام، لكنه أطلق ضحكة حلزونية عجفاء، وهز رأسه مُصَدِّقا. فطرب الجميع لفراسته، ولكز كل منهم الآخر.
طقوس.. طقوس.. وللمجوس فراسة بلون الكذب.
قال جدى أنه رأى فى المنام أنه يطردك. ونال صكا مجانيا، مثل حياتك، من صندوق سيدنا العتيق. فحافظ على شعرة ابن هند، واحتفظ بالبقرة الوعد، وافتدى نفسه بذبحك ذبحا عظيما، وطَهَّر شرفه، وأثبت أنه يجيد قيادة النساء، ويحافظ على عهود كبار القوم والأئمة الفاسقين.
وعلى أطراف الليل المعبَّق بالجوى، رحتُ أنتحب فى حضن أمى.
قلتُ: يا رب، أنا فى حل من صلاتى وصومى.
وقلتُ: "ألا أبلغ أحبائى بأنى ركبتُ البحر وانكسر السفينة، على دين الصليب يكون موتى ولا البطحا أريد ولا المدينة".
وبين اليقظة والنوم رأيتُ فيما يرى النائم رجلا أبصر على رائحة قميص مضمخ بعبير امرأة يبذل زوجها خزائن الأرض من أجل الغلمان. ورأيتُ سيوفا من خشب ترفع الباطل وتغتال الحق. ولما انفتحت طاقة لا عين رأتها ولا خطرت على قلب بشر، رأيتهم جميعا. رأيتُ كعب الأحبار يتحايل على الله، وأبا لؤلؤة والهرمزان من خلفه يثغيان وفى قلب كل منهما خنجر برأسين، وهند تلعق ما تبقى على مخالبها من دماء. رأيتُ أبا الحكم وابن حرب وابنه وحفيده وابن العاص يشربون نخبا من آنية فارغة، وحمَّالة الحطب تعد لهم قاعة الاجتماعات السرية. وهناك وقف أبو موسى الأشعرى، فوق الحد الفاصل بيـن الفئتين، معلنا عن قدوم ممثل بنى إسرائيل. ونادى المنادى: من عاهد ابن حرب فهو آمن، ومن دخل قصر معاوية فهو آمن ضامن لعيش غده، ومن ولج إلى حانة يزيد فهو آمن ضامن عامر قلبه بخزائن العرب والعجم.
وفى صدر الحلم الأخضر يممتُ صوب الصحراء.. كان راعى الأغنام يسقى الصبيين من عسل ريقه، فبسط بردته سهلا فسيحا من نخيل وأعناب وأنهار لبن وخمر. أجلسنى إلى جواره مرددا: "أوفوا بعهدى أوفى بعهدكم". ومن الفضاء الندى انطلقت مظاهرة الفقراء، وجاء صوت أبى ذر أن أقم الصلاة والزكاة والعدل. فأنشد صوت شجى: فيها سـرر مرفوعة، وأكواب موضوعة، ونمارق مصفوفة، وزرابى مبثوثة. فأضاء وجه الراعى ببشر عظيم، وقَدَّم لنا تينا وزيتونا، وحلب لنا لبنا بلون وجهه، ثم راح يهش على غنمه فيما رحنا نلهو فرحين.
ولما أجهشتُ ببكائى فى الحلم، هتف قلبى: أين ذهبتَ يا عفريت الليل والساقية؟ وتَرَدَدَ الصدى: هل يممتَ شطر المشرق تقبع خلف الذاكرة؟ أم صوب المغرب ترقـب الصياد؟ فى أى صوب سريتَ يا سوسنة سمراء سامقة غابت فى الغياب؟
ضمتنى أمى. ألقمتنى حلمة أذنها الصبية. فهتفتُ ما بين الرعشة واحتدام الروح: ها أنذا أسمع ضحكة عينيك تجلجل بين البحر وبين النهر، وبينهما يكتحل السواد بالسواد.. أركض خلفك.. أصهل كفرس جامح يتفجر بالشهوة والميعاد.. أتعثَّر على تضاريــس فؤادك.. أصرخ.. يا أيها الراحل عنوة فوق حافة الفجر.. لا الليل أسود، ولا الصباح يكشف عن الحد المسنون بين الرؤية والسراب، وأبتلع صراخى.. وأصرخ: "فلتمض على الشاطئ فى يسر دون أن توقفك عقبات، ولتعبر الماء دون أن يسوح الرمل تحت قدميك، ودون أن يجرحهما الشوك، أو يظهر وحش الماء".. وأقتات الصبر وملامح خبز وجهك وعينيك عَلَّلَك تعود كما أتيتَ، أو ترحل أبدا من الذاكرة إلى الغياب.. فالأمر ليس سيان.. والتين والزيتون والسنديان.. وآلاء عينيك تتقدان.. وجنات خلد تحت قدميك وحور عين حسان.
وتبكى الأم.
راحت تنتحب من أجلى ومن أجل الصبية العاشقة. فللأشواق شجون وللهـوى أحزان. وعمتى تبكى سرا، تخشى البوح، وحد المقصلة، وعيون النساء قبل الرجال. وحسبكما أن عشقكما كان على خلاف طريقة الطامعين والغلمان. فلم تهِمّ بها، ولم تهِمّ بك، إنما الهوى بين الوردة والفرح بيِّنة لأولى الألباب. وما كان لديك مآرب أخرى، لا فى عصاك التى تهش بها على غنمك، ولا فى نفسك الخاشعة. ولم تغرينك وعود جدى ببقرة تملكها، أو بأرض تزرعها. فمن الغيب أتيتَ وحيدا، وإلى الغيب ذهبتَ كما أتيتَ، إلا من آثام صمتك وكلامك. فسلام على الراحلين، وسلام على الملائكة والشياطين، وسلام على الزاهدين والطامعين وأبناء المجوس وقتلة الأنبياء. سلام على الأحياء والأموات والعصاة والطائعين والتائبين، وسلام على معاوية ويزيد والحجاج والمنصور، لهم التفسير والتأويل، ولأديم الأرض السيف والتنور: للعصاة والرافضين والمعارضين والخارجين على قوانينهم وقرآنهم وأحكام جواريهم وغلمانهم . سلام عليك حين ترحل، وحين تموت، وحين يصدح الطير على مئذنة الله معلنا كفره بكل المقدسات المباحة، والنساء المستباحة، والرجال المستباحة. سلام عليك حين تقوم مُكَلَّلا بلعنتك الصبايا والعطايا والورود والأطفال، ووجه الله الذى يخيفون به الطيور والعاشقين وأبناء السبيل.

( 3 )
على أطراف القرية أوى قطقوط إلى الربوة وحيدا إلا من عشقه وحيرته، فجعل منها سدا بينه وبينهم إلى حين، وقلعة تحميه من الغول القادم ريثما ينجلى الكرب وتزول الغمة.
راوده العشق فبكى، وأبكى بنايه الطير الهاجع. راح يقلب أمره بين زلة قدمه والوقوع فى المحظور: فلا الصمت من ذهب، ولا الكلام من نور. وكما للعشق أصول، فللزرع فصول، وللحمل والولادة مواعيد.
قال قطقوط لقطقوط: كان الصمت ملاذك وحصنك الأمين، فَلِمَ الكلام؟
فرد قطقوط على قطقوط: الكلام من نور، لكنه يوقع فى المحظور. وأنت الآن على مفترق الطريق، وفوق الحد المسنون بين نارين.
وبينما هو فى حيرة من أمره، إذا بملائكة الله تهبط عليه فوق الربوة.
قال: ما آيتى؟
قالوا: أن تكلم الناس دهرا. فالكلام ديدن الدرب وأول خطاه، ونور النار يطفئ ظمأ العاشقين المقبلين على الهلاك. وهو بشارة الهالكين بمحض إرادتهم من الأزل إلى الأبد حين يتخلى عنهم الطريق والرفيق وحبل الوريد. فهل من سؤال؟
قال لقد ابتليتُ بداء الهوى فصار الكلام أقصر من الصمت، وأقسى على القلب من سيف مسرور، وعلة ليس لها معلول. فهل من لوم علىَّ أو تثريب إن اتخذتُ من الشمس قِبْلَة وسيفا، ومن الله طريقا إليه؟
فقالوا: ما آيتك؟
قال: عشقى، وقلب الحبيبة، وياء البين.
قالوا: عشقك سيفك، وقلب الحبيبة قبلتك. أما ياء بينك فلا قبل لنا بها. فافعل ما شئت،
وليقضى الله أمرا كان مقضيا.
وعرجوا إلى السماء.
وبين الدار والربوة قطعت الصبية سبعة أشواط فى سبع ليالى من أجل جرعة عشق، والليل يبصر
بعيون العاشقين.
فى الليلة الأولى باحت بالسر. وفى الثانية كَشَفَت عن المستور. وكان الله يقرر أمرا كان مفعولا. وبين الكاف والنون تنعدم الياءات والأزمنة والمسافات. لكنه اعتصم بالصمت حبلا بينه وبينها، واتخذ من الكلام سبيلا إلى نفسه المتأرجحة على مشنقة الأفق. فهجرته طيوره القديمة، وعاد الأولاد إلى "كُتَّاب" سيدنا تائبين مستغفرين، مسبحين بمجد الله القابع فى قفطان سيدنا.
وفى الليلة الثالثة بَحَثَت فى صمته عن جرعة عشق أو كلام. وكان رجال القرية يدبرون أمرا نافذا لا محالة، وناموس المجوس بحر واسع يحمل سفن المتناقضات، وينشق للعصى السحرية، ويُغرِق الروابى والجبال والطير فى السماء.
وفى الليلة الرابعة تَطَيَبَتْ بالمسك والعنبر، وذَهَبَتْ فخيَّرَته. ولما انصرفتْ، قعد فوق الربوة
متأرجحا بين الباء والنون، مستمسكا بياء البين خشية الخوض فى المحظور. فهبط عليه ملاك
عملاق ضربه بجناحه ، فَخَرَّ صعقا.
قال الملك : المسافة بين الصمت والكلام أقصر من ياء البين، وأطول من طريق الحسين إلى جرعة ماء. كل خطوة فيها تقرِّبك من حتفك وتبعدك عن الهلاك، فإذا بك قاب قوسين أو أدنى. والسيف من أمامك والخيانة من خلفك، فهل تحمل قلبك فوق سيفك أم تنكص على عقبيك ناجيا بطوق هلاكك؟
فقال قطقوط: لا قِبَل لى بجيش معاوية، ولا حيلة لى أمام ألاعيب ابن العاص. والعشق يؤلمنى، فلا الخروج نجاة، ولا الإقدام فوز بقلب الحبيب.
فوارى الملك وجهه خجلا ولم يعرج إلى السماء.
وفى الليلة الخامسة ارتَدَتْ أبهى ثيابها، وطرَّزَتْ له منديلا بأول حرف من اسمها. وذهبت فسألته عما يريد. وكان الملك يرقب الموقف من بعيد متعجِّبا من أفعال البشر ففاضت عيناه حزنا من أجل الصبية. وبينما أفُلَتْ راجعة وفى قلبها غم أليم، راودت الملك أمنية مستحيلة.
وفى الليلة السادسة أخذتْ من ليل شعرها وحطت فى عينيها، وضمَّخَتْ بحناء الأرض ضفائرها، وبالمسك والعنبر والريحان هدهدتْ عصفورى صدرها الصبيين، ودغدغتْ بأصابعها خدين من رمان. وحين أقبلت امرأة مكتملة، خَرَّ الملك صعقا، وطافت الأرض حول نورها سبعا، وإذا بالمجرة تُسَبِّح باسمها فى فضاء العرش. ولما لم تجد جوابا على سؤال الأمس. قالت: أنت والعشق صنو لا صنوان. وإن كان الصمت قد أضناك والكلام قد أشقاك، فالعشق قد يشفيك والفعل قد يهديك. فافعل قبل أن يهلك الحرث ويموت الطير. وقالت: أنا أنت. وأنت القاتل والمقتول، والخبز وعيون الأطفال، والندى الموزع بالعدل. وأنا المريدة والشهيدة بين البين. فافتح أبواب جنتى ألد لك الفرح.
لكنه كان يتبخر فى الحزن والصمت.
وتحت عباءة الله كان القوم يصيغون المسألة، وينتقون المقصلة. فقال سيدنا: والله لأصلبنه صلبة تشيب من هولها النصارى واليهود، وتسير بذكرها ركبان المسلمين والمجوس. وأقسم العجوز بأن يقتلنه قتلة لا رأتها عين يزيد ولا خطرت على قلب السفاح، ولا وردت على تنور المنصور.
وفى الليلة السابعة أخفت خنجرا فى ثياب الحداد.

(4)
فى الليلة السابعة راحت صبية تفتش لآخر مرة عن جرعة عشق.
فى الليلة السابعة كانت الملائكة جميعا قد قدمت استقالاتها، ماعدا واحد راح يرفرف بجناحين من ألم.
فى الليلة السابعة كان هناك طفل يموت من العطش، وأبناء المجوس يتلذذون بمرأى أمه تهرول بين المروة والصفا.
فى الليلة السابعة صُلِبَ الجسد، وقبض الخونة الثمن.
فى الليلة السابعة سقط الفتى شهيدا من أجل جرعة عدل.
فى الليلة السابعة رف الملك الأخير، قبل أن ينتحر، رفته الأخيرة، فتقيأت الأرض أحشاءها.
فى الليلة الأخيرة انغمد خنجر فى قلب عاشق تردد بين الباء وبين النون.
وفى الصباح هبت نسمة، من صوب الربوة، محملة برائحة النبق، فبعثرت ما تبقى من رماد الصبية على المئذنة، وحلَّق طائر النار بعيدا فى الأفق، بينما كان يزيد يغلق حانته متوجها لصلاة الفجر حاضرا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى