محمد بن ماضي - بصيرة سبينوزا

نقول في أحاديثنا اليومية بنوع من الاستنكار لجهل مبصر أو صمم سميع بأن: الأعمى أعمى البصيرة لا أعمى البصر!
والبصيرة هي معرفة تُشبه معرفة أعمى أصم غير مجرب؛ بحيث تكون أتم من معرفة ممتلك البصر والسمع والتجربة والاستنباط العقلي؟!
عندما نسأل الفيلسوف الكبير سبينوزا عن صحة ذلك يقول نعم البصيرة هي المعرفة الأتم والأوضح؛ وبسؤاله مرة ثانية عن كيفيتها؟
يجيب بأنها تقوم وتتكون على حدس مباشر بموضوعها عن المعرفة، أي (بالشعور) بالشيء ذاته والاستمتاع به!
ولكي يوضح رأيه هذا يضرب مثالاً رياضياً مأخوذاً من قاعدة الثلاثة فيقول:
- يبلغ إنسان أنه وفقاً لقاعدة الثلاثة، متى ضرب العدد الثاني في العدد الثالث ثم تمت قسمة حاصل هذا الضرب على العدد الأول فإننا نحصل على عدد رابع تكون نسبته للعدد الثالث مساوية لنسبة العدد الثاني إلى العدد الأول.
ومن دون التثبت من صدق من ابلغه ذلك؛ يشرع في العمل وفق هذه القاعدة، مع أن معرفته لقاعدة الثلاثة لا تفوق معرفة الأعمى للألوان!
ولا يعدو أن يكون سرده إلا تكراراً ببغائياً لما تعلمه!
وهذا المنهج هو منهج السماع الذي وفقه تكون معارف الناس؛ وعندما تسألهم عن مصادرهم يردون بـ وكالة يقولون!
- إنسان آخر صاحب بديهة، لا يكتفي بما يبلغ مسامعه، بل يسعى إلى التحقق من الأمر بالقيام ببعض العمليات الحسابية؛ فإذا وجدها موافقة للقاعدة سلم بها. بيد أن هذا الضرب من المعرفة معرض للخطأ أيضاً؛ فإذ كيف يكون واثقاً من صدق القاعدة عموماً بمجرد اختباره لحالات جزئية معدودة.
وهذا المنهج هو منهج الاستقراء الذي نقده جذرياً فيلسوف العالم كارل بوبر كمنهج داخل الحقل التجريبي وطرح منهج القابلية للتكذيب بديلاً عنه.
- إنسان ثالث لا يرضى لا بما يقوله قائل؛ إذ قد يخدعه، ولا باختبار بعض الحالات الجزئية؛ إذ لا يمكنها أن تقدم قاعدة كلية، فيسترشد بالعقل المبين الذي لم يسبق أن خدع أبداً من أحسن استعماله؛ فيخبره العقل أنه من طبيعة الأعداد المتناسبة أن يكون الأمر هكذا، ولا يمكنه أن أن يكون بنحو آخر.
وهذا هو المنهج العقلي الاستنباطي المنطقي.
- لكن الإنسان الرابع؛ إذ يملك معرفة في غاية الوضوح، فهو لا يستحق أن يسمع ولا أن يختبر ولا أن يستنبط؛ لأنه يدرك فوراً بحدس مباشر التناسب بين الأعداد.
وهذا هو المنهج الحدسي عند سبينوزا أو ما أسميه البصيرة؛ رزقناها الله وإياكم.

*كتبت ذلك من قراءتي في كتاب رسالة في إصلاح العقل لباروخ سبينوزا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى