صلاح البشير - رَاعِي اللانْدِ كُرُوزَر.. قصة قصيرة

تهادت السيارة اللاند كروزر موديل 2013 كالعروس على الطريق العام، كان شارع الأسفلت يترفق بها ترفق الحبيب بالحبيب، كانَّه يتوسل إليها أنْ تسمعه صوت محركها الشجي، أو تضيئه بأشعة فانوسيها الكحيلين، أو أنْ تتوسد دواليبها ذات الدفع الرباعي ظهره بحنانها المحتمل، أو أنْ يُحس غطرستها وهي تضن على العشوائيات المتمددة هنا وهناك بفضولٍ خجول. كانت تمشي بين رفيقاتها وفِيْ نفسها شيء مِنْ كِبَر، وتنهب وتملأ الأرض دلالاً وبهجة. واستقر الدلال والبهجة فِي نفسها لا يبرحانها، وأغفل بينها وبينهما ما وراء هذا الكِبر والغطرسة والدلال والبهجة مِنْ المعاني والحقائق، فهم لا يتجاوزونها ولا يعدونها. كانت حين تخطئ الطريق إلى العشوائيات المتمددة بفضولها الخجول تتأنق مِنْ أجلها غاية ما تستطيع، ويتكئ ساكنوها على أوتاد الأرض يبصقون "التمباك" باستحياء ويرسمون ابتسامة باهتة تفوح مِنْها رائحة العرق. لمْ يستطيعوا أبداً أنْ يفهموا سر هيبتها ولا أنْ يعوا سر رهبتها.

.. وكان راعيها مِمَنْ يتجرون ويثمرون المال، وكانت تجارته أخلاطاً مِنْ الغلال والعقار والدولار والسلاح وشيء مِنْ تهريب يُشتم فِي بعض لحاظه رائحة الكيف. يسعى فِي البيع والشراء ويحسن السعي فِيْهما. وكان رغم ذلك أمياً يجهل قواعد الاقتصاد حين يتجاوز الأمر خزانته، مفاخراً بهذا الجهل، منصرفاً عنْ شر النفع العام ما وسعه الانصراف، وإيثاراً للذات ومنفعتها ما أطاق إيثار الخاص ومنافعه. وقد ابتلاه الله بحب المال، فكان يلزمه فِي حِله وترحاله ويرهق النفس فِي خدمته، يضايق بذلك أدعياء السابلة وأصفياءهم. لكن المال كان يرضى ذلك مِنْه ويشكره له، ويسأل عنْه إذا غاب ويستدْنِيه إذا حضر، فإذا التقيا كان الرجل مِنْ خاصة القرش أياً كان مصدره، ومِنْ المقربين مِنْ ذوي مودته. ومنذ أنْ أبتُلي بالمال لمْ يفارقه فِي سفرٍ ولا إقامةٍ، وازداد عنْه رضاً، وبه ثقةً وإليه اطمئناناً.

.. لمْ يرث الحاج إدريس السروجي – وهذا اسمه ولقبه على السواء – عنْ أبيه تجارة واسعةً ضخمةً. كان والده سروجياً بارعاً، مات منذ عشر سنوات تزيد أو تنقص قليلاً، بعد صراعٍ شديد مع المرض العضال المسمى بالسرطان. لمْ يكن على وفاق معه. ولمْ تكد سنوات الحزن تمضي حتى دانت له السوق بمَنْ فِيْها. بدأ ببيع دكان والده ثم تاجر فِي المحاصيل. لمْ تكن تنبت حبة فِي أرض البلاد الخصبة إلا صارت مِنْ منبتها إلى مخازنه طائعة مختارة. ثم تفرقت مِنْ مطاميره أو مخازنه إلى مَنْ صيَّرها الله له رزقاً مِنْ الخاصة فِي المدينة أو ولايات البلاد القريبة أو البعيدة. ولا يكاد أحد يمر أمام هذه المطامير أو المخازن إلا رأى أمامها جماعات لا تكاد تحصى مِنْ الشاحنات واللواري. هذه يوضع عنْها حملها وتلك توقر بالأحمال. وقوافل الغلال تجري بين الصعيد والسافل لا تتوقف حتى لالتقاط الأنفاس. وكانت تجارته فِي السلاح والدولار وتهريب الكيف تجري فِي سرية تامة، وكانت مصدر رزقٍ لخاصة الخاصة مِنْ أهل الحظوة والسلطة. كانوا يأتونه فِي صمتٍ وسرية وكانوا يخرجون منه فِي صمت وسرية، وعلى ثغورهم ابتسامات شقية تحمل مِنْ الشر أكثر مِمَا تحمل مِنْ الخير.

.. وللحاج إدريس السروجي هوس خاص بتمائم وتعاويذ وحجبات ومحايات شيوخه بطول البلاد وعرضها. كان لكل تميمةٍ وتعويذةٍ وحجابٍ ومحايةٍ حظها مِنْ خويصات نفسه، فهذه تدفع الشر، وتلك تجلب الخير، وهاتان للحسد، وهذه المجموعة تمنع الموت إلا أنْ يشاء الله كأنَّ للموت دروباً لا تخضع لمشيئته .. حتى الرزق الذي قيضه الله لكل دواب الأرض وهوامها كانت له تمائمه وتعاويذه وحجباته ومحياته. كان يسكن فِي داره فِي ذلك الطرف المنعم مِنْ المدينة .. ذلك الطرف الذي يسكنه الملاك والأعيان ومَنْ يوصفون بعِليةِ القوم. وقد أوشكت هذه الدار أنْ تكون مدينة بذاتها بعد أنْ نمت نمواً مطرداً، وارتفعت عنْ الأرض حتى أوشكت أنْ تلامس السحاب، وامتدت حولها جنان منبسطة لا يكاد البصر يبلغ مداها، تعبث فِيْها أنواع مختارة مِنْ الحيوانات ذات المنظر الجميل والطبع النادر. بنى لولديه وبنتيه بيوتاً على أطرافها حتى كادت الدار أنْ تستقل عنْ المدينة استقلالاً.



.. وعاش فِي طرف المدينة البعيد – ذلك الطرف الذي يسمى بالعشوائيات – رجل قد سلخ مِنْ العمر بضعا وثلاثين، يحمل فِي حشاشاته عشقاً ما بعده عشق للمدينةِ وأهلها. كان اسمه محمد المصطفى، وكان يسعى إلى خيرها وخير أهلها ما وسعه الجهد. كان قدره أنْ يكلف بها وبهم غاية الكلف، ويحسن القيام بواجباته نحوها ونحوهم. وقد اضطرته عنايته بها وقيامه على أهلها وسعيه فِي إصلاح أمرهما غير مرة إلى التخلف عنْ أمر نفسه والتقصير فِي خاصته مِنْ أهل بيته. وعرف أهل بيته – منذ صغره – مقصده حق المعرفة فعذروا تقصيره وعفو عنْ تخلفه. كانوا يعلمون أنَّ حبه للمدينة وأهلها قد استقر فِي قلبه ولن يبرحه ما رزقه الله بأنفاس الحياة. كان يُعلم الصغار والكبار ويمحو أميتهم، عمل مدرساً يمشي بين الناس بالعلم.

لمْ تجر الأمور بين الحاج إدريس السروجي والأستاذ محمد المصطفى على ما كانا يريدان، فحياة الناس ليست بين أيديهم يصرفونها على ما يهوون، وإنَّما تعرض لها العلل والآفات، وتتحكم فِيْها الحوادث والخطوب التي لا يملك الناس مِنْ أمرها شيئاً، أو لا يملكون مِنْ أمرها إلا قليلاً، وهي مِنْ أجل ذلك تدفعهم إلى مسالك لو خيروا لما اندفعوا إليها، وتضطرهم إلى أمورٍ لو استطاعوا لاجتنبوها. حاول الحاج إدريس السروجي أنْ يعبر الجسر إلى رجل العشوائيات – كما كان يسميه – فلمْ يستطع، وجدَّ فِي تحريك المياه تحته فلمْ يجد إلى تحريكها سبيلاً، فلجأ إلى الحيلة والترغيب مقتصداً فيهما ما وسعه الاقتصاد، مؤملاً أنْ يجعل الله له فِي قلب الرجل حظوة يلج بها إليه، لكن ولوج الجمل فِي سَمِ الخِيَاط كان أهون كثيراً. كانا نقيضين تضج المدينة بحكاياتهما فالسروجي لا ينسى نصيبه مِنْ متاع الدنيا ولذاتها ومصطفى ينظر إليها فِي شيءٍ مِنْ الازدراء والاستخفاف.

كان محمد المصطفى يُلح على إدريس السروجي أنْ يفرج على الناس كربهم، فبطون الجوعى لا تطمئن إلى الجوع ولا تقنع بالقليل مِنْ الطعام. وكان السروجي يفزع إلى شيوخه للوقوف فِي وجه رجل العشوائيات، ويفر مِنْه إليهم ليمنعوه إلحاحه عليه فِيْما يريد الناس وما لا يطيقه مِنْ الأمر. وقد انتهى ذلك بالسروجي إلى الفجور فِي الخصومة والعداء والقسوة لوحظت عليه فِي تعامله مع العشوائيين ورجلهم. لكن محمد المصطفى لمْ يلتمس له المعاذير حين يَدْبِرُ مِنْ مسئولياته وهو مَنْ تسبب فِي جوع الناس وانصرافهم عنْ العمل بتعاطي الكيف والاكتفاء بالجهل ومعاينة اللاند كروزر الفارهة. ولمْ تبخل بطانة السوء فِي تحريض السروجي وتغريه به وتسأله:

  • كيف تشكو رجلاً مثل هذا إلى شيوخك – وهو بلا حولٍ ولا قوةٍ – وتتعرض للحرج .. هذا الحاقد الذي يحس بالدونية ويسكن العشوائيات مكانه السجن .. عليك بالحاكم فهو طوع بنانك .. ولا يرد لك طلباً .. فهذا الرجل سيفسد عقول الناس .. عليك وعلى الحاكم سواء .. يريد أنْ يصبح بطلاً على أكتافك ..​
قام بين خاصته مقام الصبي الذي لا يعرف كيف يجيب، كان لسببٍ لا يعرفه يخاف رجل العشوائيات خوفاً لمْ تنفع معه الشكوى ولا استقام معه الضرر. ربما لأنَّه يحمل اسم النبي المصطفى .. وربما لأنَّه كان يتمنى يوماً ما أنْ يكون مثله.

ميريلاند – الولايات المتحدة الأمريكية (سبتمبر 2013م).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى