زكرياء قانت - حقنات متعاقبة.. قصة قصيرة

أشياء كثيرة هي تلك التي تنكسر في دواخلنا , فيستحيل إصلاحها بعد ذلك و لو حدثت معجزة و زرنا عيادات نفسية لنسأل عن الحل . لنحيا بطبيعتنا القديمة , و هل هناك حل أصلا لإصلاح ما يصعب إصلاحه ؟
خطيئتنا الصمت عن قول أشياء كان من الأجدر أن تقال في حينها , فتراكمها هو ما يؤلم و يبني خندقا غائرا في دواخل النفس . ندفع ضريبته أمام أطباء نفسيين كسولين لا يهتم بعضهم فعلا , بما نقول و حتى و هم يكتبون الملاحظات. نتساءل إن كانوا فعلا يفعلون ذلك حقا , أو أنهم ربما يلعبون ’’ السودوكو’’ , بعد أن أرهقتهم قصص زبائنهم .
أتخيل الحوار, يمر بهذا الشكل :
الطبيب : مرحبا ثلاثمائة درهم, الأولى ما بك ؟
المريض : بلا بلا بلا بلا بلا ... نعم كنت أحبها , أوووووف أحس بالألم , لا تتوقف الأصوات داخل رأسي بلا بلا بلا بلا ...
الطبيب : لديك اكتئاب حاد , وسواس قهري و ربما بداية ’’سكيزوفرينيا’’ . لكن لا داع للفزع , إنه مجرد اكتئاب حاد الكل يصاب به هذه الأيام .
المريض : إصبر إصبر, لم أكمل بعد .
الطبيب لا تحتاج أن تكمل فعلا, سأصف لك بعض الأدوية التي ستجعلك مستقرا. مضاد اكتئاب على الفطور , ’’ مغنزيوم’’ قبل النوم . ينبغي أن تعود كل أسبوع, لكي أغير لك الجرعات.
المريض : لكن عندي أشياء أخرى, أود قولها .
الطبيب سنلتقي الحصة, المقبلة .
المريض شكرا , أستاذ .
صوت في رأس المريض تبا , لهذا اللعين .
تغيب الطهارة داخل أجسادنا نكون نحن السبب في أحيان كثيرة , لكننا نجعل من الآخر شماعة خطايانا . لكي نبرر وضعنا نختار أن نكون الضحايا في القصة , و بالتالي فلا بد أن يكون الآخر سيئا . لكن ننسى أن الأمر ربما ( أقول ربما ) , يرجع لنا و لتكوين شخصيتنا. لسنا مخطئين طبعا حيال الأمر, لم نختر أن نكون هكذا . وددنا بصدق , أن نكون أسوياء .
لكن هذا لا يجعل أيضا بأي حال من الغير فاعلا بالضرورة , لنجعل من أنفسنا مفعولا بهم, فلنا كذلك جزء من المسؤولية شئنا ام أبينا . تواطؤنا قد يكون صمتا كل ما استدعت الضرورة الاحتجاج، و رفض كل ما من شأنه أن يضرنا .
نصبح مجرد أجساد تتحرك في الشوارع, و قد توقفت عن الحياة ’’ كسدة بلا روح ’’ كما يقول المغاربة. كل ما نظرنا في المرأة لا نستطيع أن نعرف أنفسنا , يصبح الأمر ككابوس طويل مزعج . نستمر بعيشه بمعونة مضادات اكتئاب تصيب بنعاس و خمول شديدين في بداية استعمالها , و نفي لكل اشكال المشاعر و الأحاسيس سواء كانت حزنا أو فرحا .
يتوقف إدراك الزمن و المحيط فجأة , والأشياء تصبح متشابهة بقدرة قادر . نوبات الذعر و القلق لا تتوقف كل ما اخترقنا الزحام . يصيح صوت في رؤوسنا:
- سيصيبك الجنون , الكل يشمت فيك أنت نكرة.
يكون الصوت صادقا في أحيان كثيرة رغم سلبيته , فكثيرون هم فعلا من يشمتون في ما أوصلتنا له الحياة, أو ربما لا يستطيعون تفهمنا . يتعجبون من ملامحنا المتجهمة , و قد اعتدنا الضحك قبلها, و لذلك إن كان أحدهم يقرأ هذا بطريقة أو بأخرى, فأقول له :
- تبا لك أنت, و تفهمك.
لطالما كنت بحالة جيدة, لقد كنت فقط أكتب نصا طويلا بجسدي. إنه ’’ برفورمانس’’ شعري و ربما رقص تعبيري, اخترت ممارسته في المصحات , و بالمكوث الطويل في المنزل , في أحيان أخرى. دقات قلبي المتسارعة شكلت موسيقى تصويرية . وقد توصلت لما يلي :
الجنون احتجاج
الخيال المطول
عن غضب المخافر
و قسوة الأباء

اكتشفت كذلك أمرا مهما آخر، لا يملك الأطباء النفسيون أرائك مريحة في أغلب الأحيان تعين على البوح , كما هو الحال في الأفلام . تمر الجلسات بشكل عبيط يجلس الطبيب بمذكرة خلف مكتبه, و يجلس المريض (بين قوسين) قبالته, فوق كرسي عادي. نعم كرسي جد عادي , و قد يكون كرسيا خشبيا مؤلما, إن ملكت حظا سيئا. و يبدأ في طرح الأسئلة :
الطبيب مرحبا فلان ( لا يهمه اسمك حقا , يقوله فقط) ; كيف تحس الآن هل ساعدتك الأدوية على التخلص من التعب المزمن .
المريض : نعم نعم مرت الأمور , بشكل جيد .
صوت في رأس مريض : يارب شافني .
صوت ثاني أو ثالث. في رأس المريض : تبا لهذا الهراء, أنت تعرف فعلا الحل.
الطبيب الأول نصحني بتعلم آلة موسيقية ما , جربت تعلم الجيتار . و لشدة كسلي لم يكن الأمر موفقا , و أدخلني الأمر في حالة اكتئاب أكبر . فقررت تغيير الطبيب بعد أن نصحني صديق بعيادة جيدة بالدار البيضاء, اقترح فيها علي الطبيب الكتابة المطولة كل ما احتجت الحديث. و هذا ما فعلته من حينها إلى وقت كتابة هذه السطور. لا أعرف فعلا المكان الذي أنا فيه, أنام, أستيقظ , ضوء , صراخ, خطو في الردهة , وجه أبي , وجه حبيبتي, أووووووف حبيبتي, أصرخ:
- أود الخروج, أود الخروج .
تدخل الممرضة فتحقنني مباشرة, في الوريد أصرخ :
- تبا تبا تبا ; ما خطيئتي.

ملحوظة :
وجدت الأوراق المرفقة أعلاه لجانب جثة المتوفى .المسمى قيد حياته ’’ فلان بن فرتلان’’, كان يعاني من مشاكل نفسية حادة, و ’’ تروما’’ نفسية يرجع بعضها لأيام الطفولة المبكرة . كان يخضع للعلاج باستعمال عقار ’’ د’’ , و حبوب مساعدة على النوم .
تطوان 05/06/2013
الدكتور حمزة بونفوس
مستشفى الأمراض العقلية و النفسية
قسم ’’السكيزوفرينيا’’ و القلق المزمن .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى