إبراهيم القريشي - الشهيد " شيلمهن"!

عراقيات من ذاك الصوب

في جنبات المحلة وبين أزقتها، وتحت فيء شناشيل البيوت الناعسة في شمس آب، وفي درابين السوق المتعرجة كان ثمة مجنون بثيابه الرثة ولحيته الكثة يقضي مفردات حياته، وكان اذا أسلس الليل قيوده تهادى الى بعض خربة أو بقية بيت أو زوايا في أطراف الحي لينم ملىء جفونه، وأذا ما أطل الصباح وأرتفعت زقزقة العصافير وأعتلت الشمس كبد السماء نهض نشطا وتحدر نحو السوق يساعد البقالين في تصفيط خضرتهم أمام محلاتهم ويرفع مع الحمالين ماثقل وزنه وينادي مع القهوجي ويخدم الزبائن، وكان يتناول الشاي من هذا والخبز الحار من الخبازين ويأكل ممن يساعدهم دون مقابل وهكذا كان يقضي ايامه وسويعاته وكانت الأبتسامة معتلية وجهه دائما وكان شديد المسالمة سخي في المساعدة محبوب من قبل الجميع وكان أذا ما حل في الحي نادمه الكبار وأستأنس بحركاته وقفزاته الصغار وكانو أذا ما سألوه ماأسمك؟ " شيلمهن" أجابهم!!! وماذا تعمل؟ كرر على مسامعهم " شيلمهن"!!!! واين تسكن " شيلمهن"!!!! يجيبهم" حتى لشدة ما أعياهم بكلمة " شيلمهن" اسموه " شيلمهن"!!!! وكان اذا ما خلا لنفسة سويعات الظهيرة تمشى في أزقة السوق مهلوسا مع نفسه رافعا يده اليمنى بحلقات دائرية متواصلة متسائلا : " شيلمهن ؟؟!!!" ، " أدري أذا راح شيلمهن؟؟؟!!!، " مدكللي شراح أيلمهن؟؟!!!

وكانت اذا ما أضطربت حركة السوق في ساعات الذروة تصاعدت المناداة على " شيلمهن" من بين ثنايا محلات البقالين والعربات التي أصطفت أمامها ومن خلف القيصريات التي تعرجت في زوايا السوق ومن أعماق سراديب بعض البيوت التي حورها أصحابها الى محلات بسبب شظف العيش وفتك الحصار الأقتصادي، فكان البعض يناديه : " شيلمهن" أرفع مع الحاج مالايستديع حمله وأوصله الى باب الدار، وذاك يطلب منه أن يذهب مع الحاجة الى رأس الزقاق لكبر سنها وثقل أمتعتها، وكان أحيانا يبادر هو نفسه الى المساعدة في حيث لم يطلب منه، فيدفع مع " العربنجية" ويفرغ من سيارات الحمل، وهكذا يعمل بجد ونشاط الى ساعات الغروب، وعند ساعة الأصيل، ومتى ما كبر المؤذّن تكبيرة صلاة الغروب تباطأة حركة الأشياء وقلت الحركة رويدا رويدا أنسل الجميع الى بيوتهم مع أمتعة آخر النهار وأنسل " شيلمهن" الى حيث ينام ويرتح من نهاره الحافل .

تسلل الفضول يوما الى قلوب بضعة نفر عن هذا الذي يسمي نفسه " شيلمهن" ويعيش بين ظهرانيهم منذ أمد وتنامى هذا الفضول البريء ، بمرور الأيام، الى الآخرين حتى أصاب الجميع فقرروا عندها معرفة من هو " شيلمهن" ؟؟!! وماذا تعني "شيلمهن" ؟؟!! وأتفقوا أن يضيقوا عليه الخناق لكن بشكل ودي وليس عدائي حتى يشبعوا فضولهم الذي أرّق عليهم تساؤلاتهم، واتفقوا ذات يوم حتى اذا ما قدم حاصروه وأرغموه على تفسير ماذا تعني " شيلمهن" والا حجبوا عنه الرز والمرق والخبز والشاي وهذا جل ما كان يفضله في طعامه !!!!
حاول الأفلات لكن دون جدوى وكررها ثانية ولكن تآلبوا عليه، وأذ ضيق القوم الخناق عليه، أرغم على أن يجيبهم والبسمة تعتلي وجهه : " أدري أذا راح صدام شراح ايلم الصور مالتة؟؟؟!!!" وعندما سمع القوم هذا ضحكوا ملىء شدقيهم وعقروا الضحك في داخلهم وأنفضوا عنه بلمح البصر وكأنهم لم يكونوا بالقرب منه أو لم يشاهدوه حتى!!!!!

ومع تكبيرة الغروب وعند تباطىء حركة السوق عاد كل’ الى داره محملا بما ينتظره أطفاله وعياله، وأذ نزل الليل نزل معه صوت أنين يتناهى من أحد أطراف الحي فكان سكون الليل يقطعه الأنين الغريب المتخافت والمتصاعد تدريجيا حتى غفت المحلة بين أنين الليل الموحش وسكون الليل المخيف.

ومع أطلالة الفجر وتناثر جدائل الشمس الذهبية التي أضاءت المحلة وأنارت فيها بسمة خجولة، ومع خروج الناس سعيا الى مناكبهم أستوقفهم منظر جثة متدلية من على عمود الكهرباء وعندما تراكضوا حتى يعرفوا الخبر أستبقهم وجه " شيلمهن" البشوش وهو صائر الى جماد وقد أصفرّ بشكل داكن بعد أن أستدار حبل غليض جدا حول رقبتهة الهشة فتدلى منه جسده مشنوقا أذ ذاك أصابتهم كآبة مزمنة بعد أن صعقهم مشهد شنقه!!! وهم يجترون الحسرة والألم على هذا البريء، وهم ممتعضين من الطريقة التي شنق بها، وهم حيرى يتسائلون عما قد فعله هذا البري الذي لايعرف ما يقول، ولا يدري مايفعل، خرج من بين الجمع رجل مكفهر الوجه شديد صلابته يتشح بالزيتوني من قمة رأسه حتى أخمص قدميه وبدد حيرتهم وتساؤلاتهم عندما بدأ يقرأ عليهم قرار شنق " شيلمهن" :" لقد تهجم على صور السيد الرئيس فهو أذن قد تهجم على القضية الفلسطينية لأن السيد الرئيس هو أبو القضية الفلسطينية وراعيها وهو المتكفل بتحرير فلسطين وحتى كونه مجنون لم يشفع له لأننا بضرب عنقه سوف نجعله عبرة لغيره وليخسأ الخاسئون"!!!! وأذ أنتهى الجمع من سماع آخر كلمة تمتموا في صدورهم سورة الفاتحة وخنطلوا رؤوسهم يتخطون في المحلة بتثاقل كئيب غير مقبلين على العمل!!!!
ومن ساعتها أستحوذت على أفئدتهم صورة المجنون البريء وصاروا يسمونه الشهيد " شيلمهن".

أبراهيم القريشي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى