لطيفة لبصير - الدعسوقة.. قصة قصيرة

كانت في يدي قصبة طويلة ممتدة، وأنا أغطسها في عمق النهر، سقطت واختفت من أمامي، سحبت قدمي ثم عدت إلى الوراء قليلا وأنا أشعر بخوف شديد، تبدى لي من يدي المرتعشتين... فالخوف من أن يبتلعني النهر لم يعد يفارقني منذ أن سمعت حكاية العمة فنيدة. كانت في كل مرة تعيد حكاية الفتاة الجميلة التي أرادت أن تنام في النهر قليلا فغرقت، وكنت كلما رأيت النهر في هدوئه التام أتذكر قول العمة، بأن النهر يكون أكثر هولا حين يغري بالنوم في أحضانه.
لم أكن أستطيع أن ألعب مع أطفال القرية، فقد كانوا ينقضون على صديقتي الجميلة كلما رأوها. كان يوما صعبا حين رأيتهم يتصارعون فيما بينهم للظفر بالدعسوقة، كانت قد طوت جسدها وتكومت قليلا حتى لم يعد يظهر لها رأس أو أقدام...سارعت إليهم أرجوهم كي يتركوها تذهب بسلام، لكنهم أبوا...منذ ذلك اليوم العنيد، ذهبت إلى الغابة التي تجاور بيتنا، كانت الأشجار قد غطت مساحات كبيرة وتفرعت عنها غصون نحيفة لم أعهدها من قبل، وكنت أشعر بأنني أبحث عن الدعسوقة كي أمنعهم من دحرجتها كل يوم، فقد كنت أعشق هذه الحشرة الصغيرة. جمعت أعدادا منها في إناء زجاجي واسع و وضعتها في شرفة غرفتي وأحضرت لها بعض الحشرات... وصار لي أصدقاء جدد من كل الألوان :الأحمر والأصفر والبرتقالي، كنت أعشق اللون البرتقالي كثيرا، وكنت أنزوي وأركن إليهم في تلك الساعات الرتيبة التي تمر بطيئة في المساء، فقد كان من عادة والدي في كل مساء أن يضع نظاراته الطبية التي يحرص على تثبيتها فوق أرنبة أنفه، قبل أن يتفحص ببطء الجرائد التي تصل متأخرة إلى القرية وهو يلعن ويسب ويقذف بأقسى اتهاماته في الهواء مخلفا زمجرة تستقبلها أمي بهدوئها المعتاد، وهي تطرز مناديل منذ زمن بعيد، حتى أنها راكمت منها في الغرفة المجاورة طوابق من نفس الألوان ولكن في أشكال مختلفة، كانت ترغب أن تغير الألوان، لكنها كانت تعجز عن الذهاب إلى وسط البلدة للقيام بذلك. ما زلت أشعر بدقات الساعة الثامنة، كنت أعرف أنه بعد ثمان دقات ستنادي أمي العمة فنيدة لكي ألتحق بسريري بعد أن أكون قد نظفت في الثامنة إلا أربع دقائق أسناني بالفرشاة، وأنا أتمضمض بحفنة من الجمل التي تكررها العمة كل يوم في نفس الدقائق التي تسبق دقات الثامنة، والتي صارت تدق في صدري كل يوم. كنت أخبىء دفاتر فارغة تحت اللحاف في ذلك اليوم، لأنني صرت أكره الثامنة والنوم في تلك الساعة الرسمية التي تؤذن بانتهاء عالمي الطفولي في البيت. أشعلت الضوء وبقيت أنتظر قليلا إلى حين انقطاع أية خشخشة، ثم حملت أقلامي الملونة وبدأت أرسم صديقتي فوق الدفتر الجميل، لكن العمة فنيدة حضرت على التو لتبلغني أنني إذا لم أنم فسيتم طردها من العمل، وأعادتني إلى مضجعي على الساعة الثامنة وخمس دقائق، وكانت تلك المرة الوحيدة التي تنار فيها غرفتي بعد الثامنة بخمس دقائق أو أكثر قليلا...
بعد أيام ارتديت بذلة برتقالية اللون ذات نقط سوداء، كنت قد ذهبت مع العمة واشتريتها من وسط البلدة، كنت قد عشقت هذه الألوان وعشقت ارتداء أصدقائي لها، كان أصدقائي الجدد قد ألفوا شرفتي، لذا صاروا يذهبون ويعودون إليها وكأنهم اتخذوها مسكنا لهم، وكنت قد اعتدت أن أناولهم أصبعي ليتسلقوه وهم يطيرون بأجنحتهم التي تساعدهم على الصعود والطيران إلى الأعلى البعيد وصاروا يقتربون أكثر حين بدأت أشبههم في اللباس والطقوس معا، وكنت أردد لهم بلطف شديد
Petite coccinelle
Laisse-moi compter tes vies sur tes ailes
Toi qui n'as jamais vu ta colère dis-moi
Dis-moi comment faire comme toi

لكنني لم أستطع أن أنام في تلك الليلة رغم الظلمة ودقات الساعة المتتالية، كنت ما أزال أسمع الأطفال وهم يرددون بصوت مرتفع ويقهقهون حين رأوني أرتدي البذلة:

- كوكسينيل....كوكسينيل...كوكسينيل...
لم تنتبه أمي إلي، ما زالت تسترق النظر إلى أبي، وهي تطرز مناديلها... مناديل لم أعد أستطيع عدها، ولا أظن أمي نفسها تستطيع ذلك.
كانت الساعة الثامنة حين كان زوجي ينادي بأعلى صوته، لم أكن أحب أن أجيبه في تلك اللحظة، سحبت قدمي من اللحاف كي أقاوم تلك النوبات التي أغفو فيها كلما دقت الطرقات الثمانية، وتمنيت حينها ألا أراه حتى تزول النبضات وما يليها من طقوس، كنت قد اعتدت على الطقوس السرية، حتى أنني أكررها دون أن أدري، أحيانا تبدو لي العمة فنيدة وهي واقفة بمنشفتها الوردية لتجفف جسمي وتدعكني وهي تقول لي بصوتها الخافت: لقد بدأ عودك يشتد، وأصبحت فتاة جميلة... لكن والدي كان قد رأى الحشرات تتطاير من الشرفة، وكانت تلك هي اللحظة التي غيرت جلساته الاعتيادية كل مساء، فقد صعد إلى غرفتي ليكتشف الإناء الذي ترتع فيه الحشرات الجميلة، وصرخ في وجه العمة:
- ابنة أكبر أعيان القرية تربي حشرات سخيفة...
كانت العمة قد بلعت صوتها الخافت حتى أنني تخيلت أنها لن تنطق فيما بعد، نادى على البستاني وأمره بأن يحرق هذه الحشرات حتى لا تعود أبدا إلى المنزل...وأعاد نظاراته الطبية إلى مكانها المعتاد وغرق في جرائده، لكن البستاني لم يحرق أصدقائي، بل أعادهم إلى الحقول وقال لي:
- إنهم أصدقاؤنا جميعا، فهم يأكلون الحشرات التي تلتهم الزرع... لقد أعدتهم إلى الحقول...
بعد أيام أصيبت العمة فنيدة بذهول حتى كادت أن تسقط، فقد ناديتها لأفاجئها بالدعسوقة، وقد رسمت منها أشكالا عديدة، حتى أن ألوانها البرتقالية صارت تلمع في الليل لتؤنس اللحظات التي أخاف فيها من الظلمة الشديدة، وشيئا فشيئا بدأت العمة فنيدة تلمع الألوان كي لا تذبل وتحاول أن تختلق أسبابا تجعل أمي تعدل عن الصعود إلى غرفتي.
كان زوجي ينظر إلي وهو يتفقد غيابي، وقد وضع قفازيه السوداوين على الكومودينو، كان قد عاد من الصيد، فقد كانت له هواية دأب عليها منذ زمن بعيد، في نفس الساعة من العصر وبنفس الملابس ومع نفس الأصدقاء الذين كانوا يحدثونني عن الثروات التي استطاع آباؤهم جمعها بمجهوداتهم الرصينة وبمثابرتهم الدائمة في الكد والجد. كانوا يدخنون السيجار الأسود ويضعون قبعات سوداء، وفوق أعينهم استقرت نظارات سوداء تقيهم من الشمس وهم يصطادون الحيوانات الجميلة... لم يكونوا في حاجة لأكلها، بل إنهم في كثير من الأحيان يصطادونها ليرموا بها في الخلاء ولكنهم يتباهون على بعضهم البعض، بأصوات منظمة جدا وضحكات مرسومة بعناية تامة...
كان زوجي يربت على بطني بهدوء تام، وهو ينظر إلي وقد ارتعش شاربه المشذب، وكان ذلك الناقوس الذي يجعلني أشعر بأنه يريد شيئا، كانت طقوسه هادئة لا انفعال فيها، وكنت أرغب لو أستطيع أن أصرخ أو أقهقه عاليا حتى تسمعني البيوت المجاورة، لكن زوجي كان دقيقا كساعته الأمريكية التي يتحدث عنها منذ أن زار أمريكا، وليتحفني كل مساء بنفس الحكايات المتكررة التي جعلته يكتشف ذلك العالم البعيد عن أعيننا، وليكون فاتحته للدخول في طقوس حميمية كل مساء بارد.
وكنت أتكور... بداخل بطني كان يحدث اشتباك معوي، كنت أتمنى أن أحضر معي حشراتي الجميلة من غرفتي الصغيرة، فهي ما تزال هناك، كان أبي قد تركها فوق الحائط بعد أن رجوته كثيرا على ألا يجعلها تغادر الغرفة. كان قد ضحك ضحكة رتيبة، وقال:
- نعم، سأتركها، فأنت الفتاة الوحيدة التي رزقنا بها، وسنتذكر حماقاتك وسنقهقه ذات مساء...
ثم ضحك ضحكة مدورة، كررتها والدتي بصنعة مدربة وقوست فمها قليلا، فأثنى عليها أبي وعلى تربيتها لي...
لم أكن أستطيع أن أغض الطرف عن ساعديه القويين. كان يخفي عينيه الجميلتين لأنه لا يملك أن ينظر في وجه السيدة، ويوما ما بقيت أصر على أن ينظر في وجهي مباشرة وهو يكلمني، كانت عيناه ساحرتين للغاية. كنت أتمنى ألا تطرقا أبدا. كنت في تلك اللحظة قد شعرت بارتباك في كل شيء، وكانت الأرض تدور...ولجت غرفتي وانهلت على الورق لأرسم العينين. كان قريبا جدا من أصدقائي، كان يشبهني رغم أنني بعيدة عنه. لم أستطع النوم في تلك الليلة، كان زوجي ينظر إلى توتري ويحاول بهدوئه المعتاد أن يمتص كل الانفعال الذي أختزنه بداخلي. وكنت أراه معي، وأستعيد خارطة ذراعيه القاسيتين، حتى أنني ظننت أنني أمسكه هو. في ذلك اليوم تبعته، كان يعدو بداخل الأشجار. حين رآني شعر بالارتباك، وقال لي: بماذا تأمر السيدة؟ نظرت إليه، كنت أنظر إليه برغبة، أطرق خجلا مني، أمسكت بذراعيه ووضعت يدي على شفتيه، شعرت بعنفه الكامن، وبشيء ما سينفجر بداخله. بدأت أمرر شفتي على شفتيه، لم يقاوم. أمسكني بكل القسوة التي أشتهي وضمني بساعديه القويتين حتى ذبت بين أحضانه. كانت تلك اللحظة الوحيدة التي شعرت فيها بأنني أوجد على وجه هذه الأرض الصغيرة. وكان ذلك العناق غريبا، لم يسبق أن أحسسته أو عشته من قبل، كنت أحلم به فقط، وقلت: المهم أنني عشت هذا الانفعال ولو لدقيقة واحدة...كان ينظر إلي بعدها بوجل، وكأنه قبلني دون أن يدري، لكنني وضعت يديّ على شفتيه وأومأت إليه بألاّ يتكلم...لقد ذبت معه لدقائق فقط، لكنها لن تغيب إلى الأبد.
أسحب قدميّ الباردتين من أعماق النهر وأقهقه ثم أصرخ... وأعود كل يوم إلى بيتي لأتكور قليلا بعد أن يداعب النوم جفون زوجي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى