عبد الرزاق بوتمُزّار - لوحة من دماء.. قصّة قصيرة

فجأةً، تنهمر قطرات الغيث على المدينة بعد طول ترقّب. تتجمّع السّيول وتتكون وديان صغيرة تجري في جنبات الطرق. يظهر ارتباك ملحوظ في حركة المارة. الناس يركضون في اتجاهات مختلفة ليَختبئوا من القطرات الكبيرة المشاغبة. تنظر إلى المتراكضين وابتسامةٌ ساخرة تعلو شفتيك. لماذا يهربون من قطرات الغيث ولا يتركون أجسادهم تغتسل من قذاراتها وخطاياها بهذا الماء القادم من السّماء حاملا معه برَكتها العُلوية؟ تُسائل نفسك وأنت تسير على قارعة الطريق الإسفلتية التي تحولت حُفَرها العديدة إلى بِرَك مصغَّرة وجرَت المياه سيلَين صغيرَين على جانبيْها.
في مشيتك المتأنّية، والأمطار تُمارس هوايتها المعتادة في غسل جسدك الواهن، يسترعي انتباهَك طفلٌ صغير يقف على حافة بِرْكة في درب قرب الطريق الرئيسية. تقترب منه بخطى فضولية، مأخوذا بمنظر الصّغير الذي لم يفكر، مثلَ الكبار، في اللجوء إلى بيته للاحتماء من الأمطار. كان يقف بمحاذاة البِركة، التي اختلطت مياهها بالتراب فاتخذت لونا بُنياً تُزيّنه قطعة من بياض تُحرّكها الرياح هنا وهناك؛ وثمّة طفلٌ صغير، بملابسه المبلَّلة الموحلة وشَعره الفوضويّ الأشقر وعينيه الواسعتين مثلَ أفق سماء الرّبيع؛ يقف بحزم رجُـل ويداه خلف ظهره، مثل حنظلة ناجي العلي، يراقب مَركبه الصّغير، الذي يتأرجح فوق مياه البِركة. عيناك على الطفل، وعينا الطفل على سفينته الورقية وشفتاه تتحركان بكلام غير مفهوم، خمّنتَ أنه أوامرُ يُصْدرها لطاقم مركبه غير المرئي. أُخِذتَ باللوحة وتسمّرتَ في وقفتك دون حراك كي لا يراك ورحتَ تراقبه بافتتان. كان يتنقل بين أطراف البِركة /البحر مُحدّقا في مركبه الجميل حيثما تناقلته نسمات البرد، وعلى وجهه الشفّاف ترتسم انفعالاته المتقلّبة بتقلّب اتجاه الرياح العابثة بالسفينة الصّغيرة البيضاء.
كان المسكين غارقا في لهوه، حالماً بأن يَصيرَ، يوماً ما، مثل "كوستو"، يملك مركبا حقيقيا يمخُر على متنه البحار والمحيطات، عندما ظهرت سيارة فاخرة مرّت إحدى عجلاتها فوق المَركب الورقي الأبيض، أمام ناظرَي الصّغير. اغرورقتْ عيناه في الحال بدموع امتزجت بقطرات المطر فوق الوجه الملائكيّ...
جرى كلّ شيء في لمح البصر. فجأةً، انقلب المشهد. وأنت، مشدوهاً بما يحدُث، تقف متسمّرا في مكانك تُراقب الملاّح الصّغيرَ، الذي تعلقت عيناه الباكيتان بالسيارة التي المعتدية وهي تتمايل فوق الحُفر مبتعدة. تستفيق من شرودك على صوت صيحة قوية يطلقها الطفل وهو يعدو في اتجاه الطريق الرئيسية، محاولا الوصول بأقصى سرعة إلى بيته، الذي يقبع في الطرف الآخر للشارع. وانتبه المارة على وقع صرخةٍ لم تدْرِ كيف صدَرتْ منك أنت هذه المرّة، عندما رأيتَ شاحنة منطلقة ترطم جسدَ الصّبِيّ وترميه، على بُعد أمتار، جُثةً بلا روح..
سالت الدماء من رأس الصّغير وشكّلتْ مجرًى أحمرَ ينتهي إلى بِرْكة وسط الطريق، اتخذتْ لونَ الدماء! كان السائق يمسك رأسَه بكلتا يديه، كأنه يخشى أن تسقط من على جسده المنهار خلف عجلة القيادة. هرعتْ أمّ القتيل كالمجنونة من عتبة البيت وراحت تلطم وجهها مُولولةً، بعد أن تأكّدتْ من أنّ جسد صغيرها قد طوّقتْه برودة الموت.. تتدافعك الأجساد الفضولية المبتلّة، التي سرعان ما شكّلتْ حلَقة صغيرة تتوسطها أم مفجوعة في فلَذة كبدها، تهُزّه في حجرها كأنها تحاول أن تُعيد إليه نبضَ الحياة!
سحبتِ السّماءُ قطراتها فجأةً، وكأنها تُعلن تضامنها مع الأم التي انحدرت دموعها سيلَين على خدّيها المحمرّيْن. امتزجت عبراتُ الأم بدماء صغيرها وشكّلت مجرًى مقزّزاً ينتهي إلى البِركة الحزينة. ازدادت الحلقة اكتظاظاً والأكتاف تدافُعاً. وجدتَ نفْسَك تنسحب من الدائرة كئيباً، تبلع أسلاك وتُغالب دموعك. سمعتَ تعليقاً عن طيش الصغار وإهمال الآباء. التفتّ نحو صاحبة الجملة، التي ألجمتْ لسانَها نظرتُك. بصقتَ على وجهها في خيالك وحثثتَ خطاك مبتعداً؛ وعويلُ الأم ما زال يصل إلى أذنَيك قوياً وموجعاً، والأفقُ تُغطّيه سحابة سوداءُ كئيبة.
***
مستوحاة من واقعة حقيقية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى