الدينُ بِلاَ رجال دين

لم يَكُّن التاريخُ ليقْصُد تعطيل المُراقبة الدينية على المؤمنين مثلما يفْعل حالياً بسبب الأوبئة، لأنَّ تاريخ المعتقدات قد كُتِبَ بطريقة المُراقبة تدخُلاً فيما لا يجب. الفقهاء والقساوسة والحاخامات والشُراح جميعهم نهضوا بفرْز الأنفاس والحركات والسكنات والأعمال الخاصة باتباع الأديان وتصنيفها. أيُّها أقرب للالتزام به وأيُّها ينبغي تركه..، ولو تمكنوا لتدخلُوا فيما يخلقُ الخالقُ، وكيف سيكُون، ولماذا لا يضع منشوراً بأسمائهم في كل عصرٍ؟! ومن ثمَّ ظهرت مذاهبُ الفقهاء واتجاهات القساوسة ورجال الدين إزاء مستجدات الحياة وفقاً لما يقّعدونه من أصول دينية إجمالاً.
المفارقةَ أنَّ كورونا أفرز نمطّاً من الحياة دون مراقبةٍ على الأفعال، هو نمط التدين بلا تدخل ديني من قبل سلطةٍ ما. غالباً بجميع الأديان كانت تأخذ طبقةُ من أصحابها متابعةَ المجال الاعتقادي وتحرسُ حدودّه دافعةً للتمسُك به وجهاً لوجه. حضور المؤمنين بالنسبة لهؤلاء كان شرطاً لضمان التعلق بخفاء الإله واليقين والثواب والتوبة الغفران. ولكن نظراً لانتشار العدوى، بَطُلّت هذه المتابعة بِفضل انعزال المؤمنين وتباعدهم. لقد أوجدَ الفيروس وضعاً هو الدين بمعناه الجوهري: " أنْ تكونَ النفوسُ حُرةً طليقةً، تُؤمنُ كما تشاءُ وتعتقدُ مثلما تريدُ وتمارسُ حياتَّها الروحيةَ بما تَخْلُص له. وإزاء كل هذا الرُكام السلطوي، أعطى للأفراد حرية التعقل والفهم ولو كانوا في مساحةٍ ضيقةٍ هي حجم الذات والبيت".
المعنى أنَّ فيروساً قد أرجعنا فيما نفْعل إلى حياتنا الخاصة، وهذا الوضع وتَّرَ العلاقة مع مُدمني الهيمنة على الآخرين بأشكالها المتباينة. إنَّ الإقامة الفردية بالمنازل ليست إقامةً إزاء الأشياء بقدر ما هي إزاء كل ما يُؤثر علينا ولو كان بسلطةِ ما نُؤْمن. وهذا هو الشيء الخطير في المسألة: أن تُشتَّق من جانب ما نثق به ونؤمن سلطةً تاريخية تعيد توجيهنا لأغراض عامة أو خاصة أحياناً. ونتيجة التَّصحُر لعلاقةٍ قائمةٍ على شيء ثالث(أي الدين بين المؤمن ودُعاته)، فقد كنّا نحن المتفلتين بالضرورةِ من كلِّ ما يجري شكلياً ككائنات غير قابلةٍ للترويض. فموقف فرض الهيمنة الميتافيزيقية على المؤمنين يعد موقفاً خارج منطق الدين نفسه.
لأول مرة نتيجة الوباء بوضعه الكوني، ينسحب الفردُ من حركة المجتمع إلى نقيضها، إلى حياة فردية موغلة في الانعزال. أين المفر دون وجودنا الذاتي الحر حيث تخفت أصوات الدعاة؟! بعبارة واضحة أصبحنا نستوحش أية حياة اجتماعية بدلاً من عبارات الدفء والحميمية، فلقد غدت العبارات قاتلة لأنَّ نهايتها العدوى والموت. بلغة المسيحية، عاد الفردُ إلى البريَّة ثانيةً دون سائسٍ كيوْم ولدته أمهُ وكل أم أخرى(الثقافة، التاريخ)، بعد أنْ دجنته المجتمعات والسياسة والاخلاق. حيث كان هنالك لمفتاح التدجين مَنْ يقلّه( مهام الكاهن والشامان والساحر والواعظ والخادم السياسي وحامل الاختام وحافظ الخبايا) كوظيفة كاتم الاسرار في الأساطير القديمة. وهؤلاء استولوا على كيان الإنسان لا مجرد دعوته إلى هدايةٍ ما، كورونا هو الاستثناء التاريخي بامتياز كوباءٍ أظهر أوبئة أخرى في عقر دار الحياة الإنسانية.
الفكرة المثيرة أنَّ كورونا أبْطّل فعل السلطة الزمنية للأديان بمنع الطقوس الجماعية والحيلولة دون الشعائر في بيوت العبادة( منع الصلوات والفروض والمناسك كالعمرة والقُداس بالكنائس والأعياد بالمعابد اليهودية)، جعل التباعُد الجسدي رمياً روحياً للانفراد بالذوات دون إلزام خارجي إلاَّ من خوفٍ على الحياة. فالبيولوجيا أعادت الدين (الاعتقاد والسلوك الجسدي) مجرداً من سلطته العينية العمومية. وتلك كانت حالة التدين الأولى بالنسبة لنزول الأديان في شكل إيمان فردي(موسى- عيسى – محمد). فلم ينزل الدين جمعاً( بصيغة الاعتقاد العام)، بل كان الأنبياء هم الأفراد الذين بلَّغوا رسالتهم إلى أفرادٍ تاليين، ثم يكون انتشار الدين بوجود رجاله(الاسلام) ودعاته أو مبشريه( المسيحية).
طبعاً استشعر هؤلاء الرجال حَرجّاً في الديانات الثلاث، فأقاموا بعض الشعائر بمفردهم كقرع أجراس الكنائس دون شعب الرب أو رفع الآذان من غير مصلين دفعاً للصلاة بالبيوت وفي الرحال أو التنبيه الخاطف بصدد أيام الأعياد الدينية لدى اليهود تجنباً لاحتفال المؤمنين معاً. وهذه المظاهر تتشبث بالمهام التاريخية لحراس الديانات- فيما يعتقدون- واستعادة خجولة لوظيفتهم لدى البشر. أغلبهُم يأملون في عودة الحياة إلى سيرتها الأولى أكثر من الأطباء الذين عجزوا عن مداواة مرضاهم!!
وهناك أبعد من ذلك إذ أخذَ بعضُ كهان الدين يطُلّون عبر التلفاز بواسطة الأدعية والتذكير بمقولة(نحن هنا بالدنيا) أو حث المؤمنين على الزكاةِ وبذل العطاء للفقراء والمرضي غفرانا للذنوب(نحن هناك بالآخرة). وأخرون لا يتكاسلون عن تشغيل عجلات الدهس الأيديولوجي باسم الله وبخاصة جماعات العنف، حيث يصرون على مغالبة الفيروس لصالح فيروساتهم الأشد فتكاً. جميع الصور تعيد تنشيط الجوانب السياسية للدين مرةً أخرى، لأنَّ كلامهم وإشاراتهم تدخل الفضاء العمومي الذي يخص كل الناس. ولم يكن معناها لينفرد بفئةٍ دون أخرى، بل يتدخل في الشأن الذي يسوسهم حيث أهداف المجتمع والدولة.
يقول عابد الجابري: "عندما يتدين الفردُ لوحدِّه، فهو يمارسُ الدين، ولكن عندما ينادي الآخرين ليتدينوا معه، فهو يمارسُ السياسةَ "... وهذا هو البُعد المفقود في فهم الدعاة ورجال الدين، من حيث إغفال لعبة السياسة (أرجوحة: مع أو ضد). فهم حتى بالنسبة لضمائر المؤمنين يمارسون تسييسها شاءوا أم أبوا، وخطورة ما يفعل هؤلاء أنهم يقيموا طبقة عازلة تدريجياً بين الفرد ونفسه. فالقرآن تحدث عن السحرة الذين يفرقون بين المرء وزوجه، كذلك قد يكون الزوج هو النفس، الذات، أي القرين كما تستعمل الكلمة في بعض الثقافة الشعبية (تحت معنى أخته).
التفرقة الأولى معروفة في الأسرة الواحدة(بين الرجل وامرأته)، أمَّا التفرقة الثانية(بين الإنسان وذاته): أنَّ رجال الدين نتيجة الخطاب الداعي للإتباع والتحريم والشعائر الظاهرية أمام الناس(بوصفها كل الدين) يحفرون فجوةً غير قابلة للردم بين المؤمن ونفسه. لأنَّه سيبادلهم صورةً بصورةٍ، شكلاً بشكلٍّ، ومراوغةً بمراوغةٍ مع تقلبات الفتاوى والأحوال الدينية والسياسية. وسينسى الإنسان الجوانب الروحية في الدين منغمساً داخل الشكليات ليس أكثر.
سيُصبح المؤمن مسْكوناً بهواجس التتبع والمراقبة غير الذاتية، ستخبو لديه مراقبة الله لقاء حضور شيء آخر ليس من جنس الدين إلاَّ رسماً. وهواجس الخوف نفسه عادة ما تتوحد السلطة به أو بالأحرى يتم اسثماره من الخطاب الديني وصولاً إلى نفوس المؤمنين. فالغاية القصوى داخل كل مجال سياسي هو بث الخوف في روع المواطنين( باسم القانون)، كأنَّ الدولة ليست جهازاً سياسياً رمزياً للحكم، لكنها(إله) من عجينة المراقبة والمعاقبة، وهو الأمر الذي لا يكون ممكناً إلاَّ بتجربة رجال الدين. فرجال الدين – لو نتخيل- يسبقون الدولة في المراقبة والمعاقبة بلغة ميشيل فوكو. وسيكون الخوف مما يلحق بالأفراد أبعد من الخوف من أية سلطة سواها. إنَّ فكرة الاصنام في أصولها ضرب من درء الخوف من المجهول الميتافيزيقي، فكان تجسيدها في شكل عيني أدعى لترويضه وتحديده مشخصّاً.
ولذلك، فالمسألةُ الحيوية كالتالي: هل تعد واقعة كورونا حدثاً في تاريخ الوسيط الديني؟ هل سنرى تصدُّعاً في الخطاب الديني من جهة خفوت تأثيره الجمعي؟! وهل غياب المؤمنين يغيب القائمين على رعايته بالضرورة؟ مهما تكن الإجابات، فإنَّ البشر هم من يخلقون كهانهم بأقنعة لا حصر لها، وليس الدين في ذاته هو ما يفعل ولا ما يحدد كهانه. الكاهن قابع في طرائق الحياة وسياسات البشر نحن ما هو عمومي. فالدين – حتى بنظرة مبدئية- لا يعطي زمام أمره إلى أي لاهوتٍ بشري يبتلعه تحت سقف السلطة.
إنَّ ما فعله كورونا ليس نوعاً من التنظيم كما حاول رجال الدين تصويره والتهوين منه إذ يواصلون إزجاء النصائح الدينية للمؤمنين حتى أثناء الحجر الصحي. كإشارة أنهم لن يتركونهم إلاَّ عند باب القبر ثم إلى الجنة أو النار. إنَّه عودة إلى الأصل، التفاتة تاريخية بالغة الدلالة إلى المنابع، وهي عودة تكشف كل تاريخ استعمال الدين وحجبه وتغطية أصوله باسم الدعوة إليه. كأنَّ الفيروس يقول: إذا كان الدين تتنازعون حولة كلما التقيتم على نحو عمومي، فهو ليس لهذا الغرض بالتحديد. دوماً غرضُه بناء النفوس وتحقيق الخلاص الفردي بالدرجة الأساسية، وأنَّ رجال الدين قد يكونوا مرهونين بالأوضاع المسيّسة والمؤدلجة. بدليل أنَّ عنف البيولوجيا(الفيروس) أزالَ عنفَ الوسيط الديني بين الناس. لئن كان الإنسانُ مدنياً(أو اجتماعياً بالطبع)، فالطبيعة ترُد علينا فوراً إذ تزيل المدنية ليرتهن الفرد بثقل وجوده الذاتي، وتصبح مسؤوليته أنْ يتفرد طبيعياً واجتماعياً. أي بالمنطق نفسه عادَ الفردُ إلى بيولوجيته الذاتية التي هي المدنيّة الاجتماعية الجديدة.
وتداعيات المفارقة لم تقف عند هذا الحد، بل كشفت طبيعة رجال الدين، فإذا كانوا تاريخياً قد ألصقوا سلطتهم بالميتافيزيقا(بالسماء)، فالتدين الخاص( الانعزالي) أبرز عودة الحق إلي صاحبه، ولم تعد لتوجد وساطة بين الله والإنسان. صاحبه من طرفي العلاقة الدينية( الله – المؤمن)، فالوسيط عادةً هو الآخذ من قوة الوجود الإلهي ومن قوة الإيمان لدى الأفراد. فعلاً هو يعتّاش على الأخذ من( الطرفين) لأجل الوظيفة القائم بها. والأخذ نوع من الحساب الربوي لمصلحة القوى المهيمنة اجتماعياً بالضرورة. الربا الذي يكاثر نفوذ السلطة القائمة استغلالاً لرمزية العلاقة بين الدين والسياسة. والوسيط بالتعريف هو ما يأخذ من (الأعلى) على أنه فعل لأجل (الأدنى)، وهذا لون من المرابحة الرمزية لا أقول الاقتصادية فقط. وإنْ كان يجري الأمر بالمرابحة المادية كنوع من العمل، حيث كان رجال الدين وحفظة الكتب المقدسة يأخذوا مقابلاً مادياً على مهامهم الاجتماعية في القرى والأرياف والمدن. ورغم الاشتغال في نطاق المقدس إلاَّ أن بعض المجتمعات العربية كانت ومازالت تكيل لهم العطايا من ثمار المحاصيل الزراعية والانتاج الحيواني والدخول المالية. فالشيوخ(حافظو القرآن) يذهبون عند جني المحاصيل للأسر الميسورة للحصول على نصيبهم منها، ويعتبرون أنَّ ذلك حق لا مناص منه!!
المسألة ذاتها من جانب أخر شددت على علاقة حضورية خاصة بين الله والإنسان، وكأنَّ الحال يقول لا يجب أنْ يتدخل في تلك المساحة أيُّ كائنٍ من نوعٍ ما. فجاءت العلاقة وجهاً غير مباشر للتحرر بشكلٍ أو بآخر. قد يُقال إنَّ هناك اتصالاً عن بعد online في الخطاب الديني. حين يتلقى الأفراد أثناء الانعزال الصحي العظات والأحاديث والتفسيرات والقراءات الدينية الكترونياً وهذا يجدد العلاقة ولا يقطع بها. لكن المعنى هنا في صالح ضعف السلطة الدينية لا تقويتها، سيتفلت منها لا ليقويها، لأنَّ الشعائر كانت حُضوراً مباشراً حسيّاً وروحياً، ولعلَّ ذلك قد أعطّاها أثراً لا يُحد داخل المؤمنين، أمَّا التواصل الالكتروني(الافتراضي) فقد نقلها من الحضور إلى الغياب متعدد الدرجات، كما أنَّه أدمجها في معالم وآليات الوسيط الافتراضي.
غدا الخطاب الديني ألعاباً لغوية linguistic games (بمعناها الافتراضي) تدمج ذهنية المستمع في نوع من المراجعة والعقلانية التواصلية التي لن تكون لصالح مركزية السلطة بحالٍ. لأنه سيحمل معه إمكانية التفكير والنقد فيما يقال، هناك قدرات إلكترونية لنا على التأكُّد من المعلومات والأحداث وسلخها عن القداسة المعطاة لها في السابق. إن التنوع الخلاّق في هذا الوسيط التقني يسمح بالاطلاع على تجارب عديدة واشباع الفضول دون نهاية. وهذا لم يكن متاحاً في حالة الحضور المباشر أمام الخطاب الشفاهي، لأنَّ فائض الوعظ والارشاد الكامن فيه لا يُعطي المُتلقي فرصةً للاستفاقة من تأثيره.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى