نقوس المهدي - رحلة عباس السابع.. عباس البحري ( قصة قصيرة )

"بلاد ألفنــــاهــــا على كـل حــــالةٍ = وقد يؤلف الشيء الذي ليس بالحسن
وتُستعذب الأرض التي لا هوى بها = ولا ماؤها عــــذب ولكنهــــا الوطن "
شاعر مجهول

عباس البحري

خرج الريس من بين الصخور وجلا مرتعدا، رغم طوله وعرضه.. لكنها الحياة كلبة بنت كلب تمنح اللوز لمن لا أضراس له.. تقدم منا.. تفحصنا.. عدّنا.. وقادنا نحو قارب يهدهده الموج مكتوب عليه بالبنط العريض: طارق بن زياد.. طبطب على ضلعه كأنه يداعب فرسا أصيلة.. دفعنا الزورق بتؤدة.. سألنا إن كنا نجيد السباحة:
- قلنا بصوت غنائي: من يركب البحر لا يخشى من الغرق..
- قال بصوت خفيض: بسم الله مجراها ومرساها..
- قلنا فليكن الرحيل إلى البحر الحلزوني بن ماجد بن صلاح الدين بن ناصر بن عبد الكريم بن المهدي بن عمر بن جنبلاط عبر خارطة الوطن..
وانطلقنا.. انطلقنا ببطء أولا ثم بسرعة.. واحتوانا المالح – عالم من الضباب والفراغ.. بلا تخاريم ولا أروقة.. بلا أزقة وشناشيل ولا أقبية.. وطارق بن زياد يئن وينساب بحمولته رشيقا (يشق حباب الماء حيزومه) كمطية طرفة.. ونحن بين ممدد وجالس طلقنا الخوف والمهانة والبهدلة.. طلقنا الهم والمسكنة.. يا أ لله.. كل هذه الليونة لإفشاء طموحنا وشقاوتنا.. وهذا العظيم الذي لم يكن يوما وصيفا ولا زيرا ولا قوادا لأحد.. أحنى ظهره للسندباد البحري سبعا وعشرين سنة ، سافر خلاله سبع مرات كانت في واقعها أشد مرارة من ذكرياتها التي غنم منها سبعمائة مثقال من الذهب.. وغنمت الأميرة شهرزاد الجميلة شهرا من زاد الحكايات الجميلة وثلاثين فرصة للنجاة وولدين.. وفي عرضه أبحر نوح ويونس وعوليس وابن ماجد.. وطارق مر من هنا.. سلك نفس السبيل.. أبحر وخاطر وقهر البحر وأحرق السفن وقال ( البحر من ورائكم والعدو أمامكم ) وانتصر.. لا شك أن جنوده أتموا مشوارهم سباحة وغامروا.. ووصلوا إلى بر الأمان.. وحاربوا وانتصروا ونحن لا نود أن نرد على أعقابنا.. كأجدادنا المدحورين من الفردوس المفقود ، نريد منازلة هذا الخضم.. ضحكنا وتبادلنا النكات والكلمات.. وأذبنا ستائر الكلفة بيننا.. ومررنا كؤوس الماء.. وآثرنا بعضنا بالخبز اليابس.. وبللنا حناجرنا بعنب الفجيعة ومزة المجاملة.. ولم يخل سمرنا من فكاهة.. نروي النكتة ونضحك لها.. وقلنا ( هنا الوردة هنا نرقص ).. ورقصنا وتضوع الليل شذا ورقصنا، وحينما تمتلئ البطن توحي للرأس بالغناء.. فأطلقنا العنان لحناجرنا بالطرب والزغاريد والرقصات.. مزيج من كل فن طرب ولون.. وفي البحر يوجد ما لا يوجد في البر.. في البحر لا حدود ولا جمارك ولا قوانين ولا رسميات.. لا مقدمين ولا مخيرين ولا بوليس ، في البحر لا جوع ولا مبيت في العراء.. ونحن نريد منازلة هذا الخضم.. ولا نود أن نرد على أعقابنا.. وجنود طارق غامروا وانتصروا . وحاربوا . وخاطروا. ووصلوا إلى بر الأمان.. وأتموا مشوارهم سباحة.. وطارق قال ( البحر من ورائكم والعدو أمامكم ).. وأحرق السفن وقهر البحر وخاطر وأبحر وانتصر.. ومحمد ابن عبد الجبار النفري عندما قال في موقف البحر ( هلك من ركب البحر ولم يخاطر.. وفي المخاطرة جزء من النجاة ) انتصر هو أيضا.. ونحن متحدون في خساراتنا وانكساراتنا، عرب عرب عرب.. ( تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم ).. لم نركب البحر وركبنا رؤوسنا.. لم نخاطر وخاطرنا بوحدتنا.. لم نجرب وجربنا أحقادنا الدفينة وضغينتنا الحقيرة.. لم نحول المستحيل إلى ممكن، وحولنا هزائمنا إلى انتصارات.. واساقطت من عرش السماء البلاغات المبوبة لحروب انتصرنا فيها ولم نخضها.. وبهرنا أعداءنا وعرضنا عليهم فحولتنا وفتوحاتنا الجنسية.. وأفشينا لهم ما تيسر من سيرة النفط الحزين.. وانهزمنا ..
الله خلق الأرض في ستة أيام..
ونحن أضعناها في أيام ستة..
أي خراء هذا ..
وأي تاريخ يثلج القلوب سوف نخلفه لأحفادنا وأجيالنا المقبلة...
........
كان البحر يلف خاصرة الأطلس..
والأطلس يمتد كالسيف على ناصية مراكش..
ومراكش فاتنة تعشقها حوريات البحر الأزرق القرمزية..
هل تعلمون...؟
أن البحار سبعة بحور.. بحر نيل، وبحر ميت، وبحر أحمر، وبحر أبيض، وبحر أسود، وبحر ظلمات، وبحر متجمد..
وله في كل بلد اسم، وفي كل أرض لون، وفي كل موسم ثروة.. وفي كل غضب ثورة.. وفي كل موجة طعم.. وفي كل معركة انتصار.. وفي كل سنة عروس..
وأن البحر أميرال الأنهار والوديان والبحيرات والجداول والمجاري والسواقي والمزاريب..
وهل تعلمون..؟
أن هذا البحر غامر في رحلة بين الرمل والرمل.. خلخل الرمل حتى فاض فخرج.. تدحرج عبر النتوءات ولم يفرق بين السهل والوعر..
والبحر بين الألوان.. غلالات الزبد.. المد والجزر أعطى لونه مراكش كما أعطت اسمها للوطن.. ومضى إلى ما وراء الشاطئ ليطلب اللجوء السياسي..
....
من بعيد.. بعيد.. بعيد.. ظهرت الأضواء المندلقة من فوانيس الحطابين.. باهتة كذاكرة معتمرة بالأوهام.. تهللت سحناتنا.. وغزتنا الفرحة.. وبدأنا بالصياح والزعيق.. سحب الريس نفسا عميقا كأنه يستطلع حالة الجو.. للبحر رائحة مغايرة لرائحة البر.. خفف من سرعة المركب.. نهرنا.. صاح في وجهنا.. وأمرنا بالتزام الهدوء والصمت.. والتهيؤ للنزول.. وبدأ الوداع والعناق.. كأننا تعارفنا منذ طفولتنا البائسة .. اندفعنا لحافة الزورق حفاة عراة.. متسابقين، معزين، مشجعين بعضنا البعض، كأننا نود أن نفدي بعضنا.. وبدأنا القفز الواحد تلو الآخر.. ممسكين بقجاتنا بأسناننا.. متصلبين في رميم أجسادنا المهترئة بالطموح.. كان الماء باردا.. والليل باردا أيضا.. وأبداننا باردة أيضا وأيضا.. لم نرتعد .. لم ترتعش أطرافنا الباردة لملامسة الماء البارد في هذا الجزء من الطبيعة الباردة.. كأننا كلنا حللنا جسدا.. كان ذلك فوق إرادتنا.. أن تسبح ذلك شيء جد معقول.. وان تسبح في البحر فذلك شيء عاد تماما.. وأن تسبح في الهزيع الأول من الليل فإما أن تكون مجنونا أو متلبسا بعفريت سليماني انعتق من قمقمه.. كان قلبي يدق بعنف والدم يغلي بشبكة العروق ( كل ما أكلته المعزاة في الجبال تضعه اللحظة في السفوح ).. وأنا كما تعلمون لا أعالي صعدت ولا سهول جبت.. ابن أمي .. مقطوع من شجرة.. لا جاها ورثت ولا ثروة خلفت.. لم يتركوا لنا أي شيء.. تبا لهم.. فرقوا المناصب والأرصدة والأوسمة.. وزعوا فيما بينهم البر والبحر والجو.. وتركوا لنا الإفلاس والجوع والعرق والنكد والقهر.. ليس لدينا ما نخسره.. وحين يممنا وجوهنا ناحية البحر نبذنا المجد والوضاعة.. مجد البهدلة ووضاعة القناعة.. وأبحنا لحيتان المحيطات طفولتنا الكئيبة وعمرنا المنحوس.. سوف تولم بأجسادنا أسماك القرش.. تطاردنا ككلاب ضالة.. وتصطادنا كفريسة.. لا يهم المصير.. ما دام القبر بطن الحوت.. فقبر غريب خير من جيوب خاوية كما يقول جدي.. وأنا أود أن أقهر هذا العظيم.. وحيد وسط اللجة.. عار وأعزل.. المزق التي أسميها تجاوزا ملابسي وتتبرم من حالتها فوق جسدي ضاعت مني.. والصحاب افتقدتهم بدورهم.. لم أودعهم حتى.. أضرب الماء بكلتى يدي.. والماء حينما يتوالى عليه الضرب لا يزداد سوى صلابة..
" قلبي جا بين ايدين الحداد / والحداد ما يحن ما يشفق عليه.
يردف لو الضربة على الضربة / إلا برد يزيد النار عليه "....
هكذا يقول شيخنا سيدي عبد الرحمن المجذوب في رباعياته.. إنسان عركته الحياة وهمشته وازدرته وجعلت منه مجنونا يلغط بالحكمة.. منذ اليوم لن أشرب الشاي ساخنا تنعقد في حاشيته اليعاليل والفقاقيع كعيون الديكة.. ولن أرتشف كؤوس الزنجبيل يتطاير منها البخار.. ولا عبوات البيرة الندية كبحيرات استوائية.. منذ اليوم لن أشنف مسامعي بأغاني أم كلثوم والشيخ إمام وفيروز والحسين السلاوي وبن حمامة وناس الغيوان.. ولن أرقص على أهازيج شيخات الحوز والرحامنة.. ولن أطرب لإيقاع الرقص المجنون فوق طست الغسيل.. ولن أقف في طوابير التشغيل كأني أمام ماخور.. كنت أتذكر هذه الأمور التافهة وأنتحب.. أنشج.. وأجهش بالبكاء كامرأة داعرة.. منذ مدة لم أبك.. لم أذرف دمعة.. حتى جفت مآقي العين وتكلست أملاحها.. زعموا أن الدموع للنساء فقط.. وتكررت هزائمنا وحولناها لانتصارات باهرة على أعداء وهميين كي لا نبكي ولا تبتل لحانا وشواربنا.. كانت الدموع.. دموع العين.. دموع الغربة والمذلة تسيل عصية باردة ومالحة وتختلط ببرودة وملوحة مياه البحر.. أسقيه دمعة دمعة ويسقيني جرعة جرعة.. والعطش يلهب حنجرتي.. عطشان يا بحر.. والماء حولي وتحتي.. ( ستعلم إن متنا غدا أينا الصدي ) .. فاستعطفته بأيام الطفل والمرأة والشهيد والغابة والصحة والعدل والأرض والإنسان فهاج واستحلفته بأيام اليتم والدعارة والغدر والاحتراق والأوبئة والظلم والاغتصاب والقهر والاسترزاق فزمجر.. وكان البحر الأبيض الذي له دون البحار فضائل يراقص الحيتان على إيقاع موسيقى الموج الهادر..
كانت الأمواج عالية.. عالية كانت الأمواج كالجبال بلا أعمدة ولا سواري.. حلبة سباق لا ينقصها سوى الخيل والحبة والبارود..
لا حدائق أشجار تخفي الشمس،
ولا قصور مزينة بالرخام،
ولا عمارات تطاول السحاب،
وأنا لست خائفا.. ( إما أن أكون أو لا أكون، تلك هي المشكلة ).. أنتصر أو أموت دون ذلك لا فرق.. أن أموت كجيفة خير ألف مرة من أن أهان .. ما شعرت البتة بأهميتي أكثر من اللحظة.. أضرب الماء بذراعي.. بما أوتيت من قوة.. بيدي ورجلي ورأسي بحواسي وفورة غضبي .. وأستريح.. وأتقي صفعات الموج.. يقولون إن مياه سبع موجات تزيل المس والسحر.. وأنا أسلمت نفسي للسعات أمواج هذا العظيم بأكمله، تضمد جراحات الجسد المهزول.. زال سحري ومسي وجنوني وعقلي وطارت عصافيري.. أتصدى لفلول الموج المتراكضة.. وأخبئ نفسي تحت إبط العاصفة.. وأعاود السباحة.. وألهث ببلاهة.. وأعب الماء كما لم أعبه من قبل.. وأتوقف.. أستريح .. أتلفت حولي.. أحدق في الفراغ والظلام.. وأصيح بأعلى صوتي على أصدقاء لا أعرف أسماءهم وأصيخ السمع.. فلا يجيبني سوى الصدى مبحوحا متقطعا متعبا.. وطبطبة الماء ووعيد العواصف.. وهدير الموج يدفعني ويجرني، يغمرني ويسحبني، يرميني ويتلقفني، يبسطني ويقعدني كأني بين يدي محقق.. أتصبب عرقا!!.. أتبول وأضرط وأتغوط.. وألهت من شدة الإعياء والتعب والجوع والعطش.. وأنا وحيد.. أستميت بوجه الزوبعة.. حتى خارت قواي.. وأصابني الدوار والغثيان.. والكثرة تغلب السبع.. والحيتان تحتك بي.. أحس حراشفها الناعمة.. وألسنتها تلعق جلدي المثخن بالأوساخ اللزجة.. وتخزرنى بحدقات بلورية لا يعرف الخوف والخجل طريقا إليها.. تقرب خياشيمها مني.. تتشمم نتانتي المقرفة وتنصرف مشمئزة لا مبالية طرية براقة لا تطال وسط الأروقة المرجانية.. وأنا ألطم الموج المتلاطم.. أضرب الماء فينكسر تحت قبضتي.. أمسكه بكلتي يدي فلا أفتحهما إلا على الزبد.. وأنظر إلى سطح البحر.. مدى مسكون بالاحتمال والتوجس.. غابة سوداء مترامية الأطراف.. منبع إلهام (هايدغر) وعالمه السحري المحدود.. لو كان غابة حقيقة لعملت حطابا أو زرعته غلالا.. لكن ليس بيدي حيلة، ( كل مكان هو صحراء لمن هو وحيد..) هكذا قال تشيخوف.. وأنا خادمكم العبد الضعيف سليل الفقر والنحس والجوع.. منذور للخسارة والجراح والضياع.. امتطي صهوة الموج.. لا أميز بين يدي ورجلي.. متعب وكريه وحقير.. لا فوق الأرض ولا تحتها.. كأني معلق من حبل السرة.. هكذا بين البين.. بين أجواء السماء وعرش الماء.. مشدود للأعماق والقرار.. معانقا ( عدوا ليس لصداقته بد )..
هنا...
حيث الفجيعة تتنكر ببراءة الدلافين..
وحيث الظلام يورق في أعماق الليل كفظاعة..
وحيث الأسماك المؤرقة بسهاد النوارس..
وحيث كتائب الموج تتقدم كفصيل إعدام...
وحيث الموت يبادلني أنخاب القطيعة..
استسلمت لغواية الصعود والهبوط.. واستهوتني عملية التأرجح والمراوحة والحدس الرياضي الذي يمكنني من مقاومة هذا الصراع الميتافيزيقي الذي يجرني إلى أسفل ويبقيني في نفس الآن على وجه الماء.. محاولة يائسة أستطيع على الأقل أن أدالس بها مكر ونبض البحر ولو إلى حين مجيء الصبح..
- هل يمكنني تصور أن ما مضى خير مما هو آت؟؟..
- وأن أعماق هذا البحر أكثر رقة ولطفا من قساوة أهل الأرض؟؟
هكذا إذن أنا.. ممثل ثانوي في دور هامشي في مسرحية فاشلة في ركح هجين اسمه الحياة.. لست متشائما أبدا.. لا وربي.. لدي رغبة أكيدة في أن أحيا حياة حرة وكريمة .. ومن أجل هذه الرغبة عقدت العزم على الصمود منذ خروجي من الظلمات بوجه الموت .. يضربني الموج فأكيل له الصاع صاعين.. هم الذين قزموا هذه الحياة في عيوننا.. هجروا الأرصدة، وساوموا وفاصلوا في البلاد، ونهبوا الخيرات وزوروا الانتخابات.. وأنا وحيد..
أفتح أذناي وأصيخ السمع ، فلا أسمع سوى الهدير..
أسمع جعجعة ولا أرى طحنا.. صليل الصناجات ودق الطبول في أدغال إفريقيا..
أفتح عيناي وأمعن النظر ، فلا أبصر بالكاد سوى العاصفة تستكين على هودج الريح..
والريح تمسد أهداب الموج..
والموج يلوح بعمامته للصخور..
والصخور تدغدغني كزوجة أب ..
وأنا ممتشق أحلامي..
وأحلامي مبعثرة كملامحي..
وملامحي كسيرة كسيرة الدم النافر من وجهي..
ووجهي مليح كملاحة جرول بن أوس بن مالك..
وأملاكي الأتعاب والقمل والخسارة..
وحذائي مثقوب بحذلقة نواب الشعب.. ومسامي مليئة بالصئبان ورائحة بوليس الآداب.. ومتانتي تستمني بجلجلة ذات الخلاخيل.. المرأة الشهية.. الغادة ذات الغمازتين.. البهكنة التي تبيع زنبقتها بثمن بخس دولارات معدودة..
وخصيتاي متورمتان منذ باغت أمي الوحم ذات فاحشة على بالون مطاطي..
وجسدي مفرغ من تفاصيل الأحلام..
مشرع على الجوع والحرمان والمصائب..
والذل الذي سوف..
والأفراح التي لا..
والمجهول الذي قد..
والجراح التي لم..
والصبر الذي أصبح..
والسجون التي إن..
والليل الذي لا بد..
والمشاكل التي ليس..
والظلم الذي أمسى..
والأصابع التي لن..
والأمل الذي لا شك..
والكراهية التي ربما..
والاحتجاج الذي إذا..
والأمنيات التي لعل ..
والصبر الذي لو
وماء الوجه الذي س..
عند انبلاج الفجر.. لم يكن ثمة ما يشي بالحياة ما عدا الجوع والأوجاع والمغص المهانة والصقيع.. وقمر حزين حزين محمر العينين يطل بين نثار ليل مزنر بالخراب.. حضرتني أغنية انجليزية تقول كلماتها ( إن شمس النهار بضخامتها لم تضئ نهاري ، فهل أنتظر قمرا يضيء ليلي ).. انكمشت كجرذ.. كان الموج يهدر ويتلوى لا يزال.. ينجدل.. يتلولب ويرمح كأفراس جامحة.. يلحس بلسانه المليء بالزبد كثبان الرمال ويصلني رذاذه باردا مضمخا بالزنخ.. فتحت عيناي على سعتهما مشدوها، فأبصرتني منبطحا متمترسا بالصخور.. محاطا بأكوام الطحالب والقواقع والأصداف والعظايا وأسراب الجراد والنمل المجنح والبزاقات واليرقات والعلق والطيور والأسماك والرخويات والألواح. والأجساد المجزورة والسليخة التي ما تزال تنز دما وصديدا.... وأذناي مليئتان بالتراب.. ولساني مندلق ببلاهة كسلوقي.. أستشعر ألفة عميقة وحميمية لملمس اليابسة تحتي ولمذاق الرمال في فمي.. وجسدي موشى بالبثور والكدمات والأشنات الطحلبية والدماء.. وعار تماما كأني خرجت للتو من فرج أمي...


* نشرت بجريدة الانوار - أنوال
** صنائع من نوبة عراق العجب.. متتالية قصصية - منشورات منتدى مطر 2104
  • Like
التفاعلات: أريج محمد أحمد
الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.
أعلى