معاوية محمد الحسن - توطئة حول قيامةٍ لا تقوم!

في تلك الساعة من الظهيرةِ التي تفرق دمُها بين عفاريتِ الوحشة والمعاناة ، باغتنا ثمةَ إحساسٌ مفاجيْ أخذ يتحولُ لاحقاً إلي ما يشبهُ اليقينَ ، بأن الحياة قد أوشكتَ علي الزوال، وأنه لم يكد يتبق من عمرِ الزمانِ كلهِ سوي بضع ساعات ليتلاشي كل شيء . كانت ذراتُ الرماد العالقةِ في قعرِ موقدِ الشاي تتطايرُ في الهواء ، بينا راحت (سيدةٌ الشاي) التي جلست كفتاةٍ عتيدةِ الحُزن في مهب الريح عبثاً تستجدي الجمر و تستنهضُ النيران من غفوتها . كل شيءٍ حسب حدسنا القوي سيتحولُ إلي ما يشبه نقيضهُ قبل أن ينزوي في العدم ، الطرقاتُ مثلاً ستتحولُ إلي خطواتٍ شاحبة و الخطوات ستغدو دروبا و الدروبُ آمكنةَ و الأماكنُ بنايات و البناياتُ بدورها حجارة و الحجارةُ ستصبحُ ترابأً بينما يتحولُ الترابُ إلي بشرٍ يصيرون لاحقاً الي حيوانات تنقلبُ إلي نباتات و يصيرُ النباتُ مجرد بذورٍ تطفو علي الهواء قبل أن تتحولَ إلي ترابٍ يستحيلُ بدورهِ الي مياهٍ تتبخرُ صاعدةً في السماء مثلَ خيوطٍ فضيةً من الضوء !
و هكذا كل شيءٍ ساعتئذٍ كان موقوتاً لآجلهِ الوشيك ، سيارات الجنود ذات الدفع الرباعيً الجاثمة علي صدرِ شارع النيل ، مبني الحاكم العام ، أشجارُ النيم و الجميز ، أبراج الهواتف ، قوافلُ العربات . كل الأِشياء تقفُ علي حافةِ الهاوية ، حتي أُمُنا هاوية نفسها كانت تسيرُ بإتجاهِ الهاويةِ الكبري التي سيهويِ في قعرِها العالم .
حدثتنا أنفسنا آنذاك بان العالم الأثيم الغارق في عبثيتهِ لن ينجو هذه المرة من اهوآلِ المهالك المحدقة به . و برغم فظاعة المشاهد المرتقبة فقد غمرتنا سعادة لا توصف كون القدر يهيءُ لنا –نحنُ التعساء في أتعسِ بلآد الدنيا - أمرَ صياغة التقرير الختاميً حول نهاية العالم.
يقولُ أحدُنا للأخر:
-صدقنيً ما يعترينيً بل يعترينا جميعا ليس مجرد خطرفات ناشئة عن عقار مهلوس ، بل هو الهاتف المقدس ،يدوي في صدورنا . العالمُ يترنح و لا أحد في هذه اللحظة بمقدوره أن يري ذلك سوانا . نحن نري ما لا يُري .! .
في وقت واحدٍ معا ، نهضنا من المقاعد الشعبية المصطفة أمام (سيدة الشاي ) البلقيسية ذات الوجه الموناليزيً ،التي ظلت تتربع علي أعصابِ أكثر من ثلاثمائة و ستين نهارا علي عرشها الكائنُ في لًجةِ النيل ، تنفح الأعصاب بالقهوة و الشاي . حين جاءت اللحظة الحاسمة ألقينا عن كاهلنا تلك الحقائب اللامرئية و صوبناها باتجاه دوامة النهر ، بعد أن لوحنا بها في وجه الهواء .واحد..اثنان ..ثلاثة ..عشرة ، هيلا هوب ، و هكذا حلقت الحقائب السحرية عاليا في الهواء قبل أن ترتطم بجسد النهر المُثقلِ بالتعبِ، ليتناثرَ محتواها السحري علي وجه المياه بشكلٍ فوضوي يشبهُ كثيراً أشكال النهايات ..كانت تلك الحقائب مليئةً بسيرة الماضي ، اوجاع الحاضر ، أفق المستقبل ، تفاهات الحياة الصغيرة و الكبيرة ، ذكريات المعادن في جوف الأرض، صبرُ الجبالِ الممُض علي حماقة منحدراتها , أنينُ المحرومين عبر التاريخ ، عتمة المحطات الوسطي ، رائحة سراويلنا التي ظلت تصرخ من الألم العمر كله ، سحناتُ أبناءِنا الذين ما أبصروا النور و فتنةَ نساءِنا اللائي لم يحبلن ، أنفاسُ الفجر ، رعشة الأجنة في أرحامِ النساء ، سجلُ التاريخ البشريً ، الحروب الكبري ، الكوارث . إكتشاف النار .المارشات العسكرية ، جنونُ الإذاعات و إفكُها . احاديث الساسة عن تخفيفِ أعباء المعيشة . رائحةٌ الفول علي قدورِ البقالين التعساء . سوء الظنِ الفادحِ بالأوطان ، أكذوبة الارض البكر التي يدخرها العالمُ سلةً لغذائه، أغاني البنات ، حدائقُ العشاق المنافقين ، سيرةُ تمردُ الأعضاء علي الجسد . الغرائز المجنونة ، و عهرُ اللغة التي ما إنفكت تمجد جرائم الحروب باسم الله و تغتالُ الإنسان ! .
كان محتوي الحقائب التي قذفنا بها في واقع الأمر فادحاً و ثقيلاً جدا بشكل يتعذر فيه علي النيل أن يحتفظ بها في القاع دون أن يختل توازنه و لذلك فقد راح النهر يلفظً أجزاءُ من تلك الحمولة علي السطح و من بين الركام أطلت وريقات مطوية بعناية كأنها أحجبةُ خطها مشعوذٌ ماكر بعنايةٍ فائقة ثم لفها في جلدٍ ماعزٍ صبور هضمت الحياةُ حقها في الحرية و قد كان مكتوباً في تلك اللفافات ما يلي:
( الحياةُ جميلةُ ..يجدرُ بك ان لا تنسي هذا ).!
لم تكن العربات علي شارعِ النيل وقتئذ قد خامرها الإحساسُ بان الحياة علي كوكبِ الأرض قد طفِقت تُسرِعُ بالتلاشي ساعةَ دويً صوت إنفجارُ العبوات السحرية للحقائب المحملة بسر الله الأعظم الذي ما إنفك يسريً في جسد النيلً بمجرد أن أندلق الحبرُ السريً من جوف تلك الحقائبِ اللامرئية ، عند تلك اللحظة الكونية شرع النيل يصرخ و يزمجرً كأنه أسدٌ هصورٌ قد باغتته آسلحةُ الصيادين ، و هكذا صار السرُ يتغلغل في جوف النيلِ منهكاً بدنه الهزيل حتي بدا مرتعشاً مثل مريضٍ بالملاريا أوغلَ الجوع بامعائه بعد أن تم حقنه بعقار الكلوركوين ،و لم تكد تمضي برهة من الوقت حتي ادعي النهر الخالد أن ثمة خدراً يسري في اطرافه ، قبل أن يحس لاحقا بالاعياء و الدوار و تجتاحه رغبة عارمة للتقيؤ ، لكنه عندما اراد أن يتقيأ شعر أن ليس ثمة اراضٍ صالحة يُفرغُ فيها إمعائهِ من سموم الحياة فأستفرغها علي شطآنهِ و قد عاد علي إثر ذلك كله خطوطا زرقاء متعرجة في كتب الجغرافيا ، مستجمعاً قواه و مستنكفا ان يلقي مصيره و يمثل أمام الله فارغاً من عشقِ الحياة .
في تلك الساعة و عند ناحية المرسيً المقابل لقصر الحاكم العام ، كان النيلُ قد أخذَ يفرزُ كمية هائلة من اللعاب تكفي تماما لتزويد الصحراء الكبري بالخصوبةِ و المحبة . أطلق تنهيدةً قوية في الهواء ثم ركل أخر حمولة له من طمي الحبشة لدي الشاطيء و أرعد في وجوهنا قائلاً :
  • سحقاً لكم . أ أنتم نيليًِون مثلي ؟
  • صفقنا بشدة للخطاب التاريخيً الذي ألقاه سيدُ المياه ، و إعترتنا الدهشة :تُري كيف يُنكِرُنا و نحنُ من صلبهِ و وشائجنا موصولةُ إلي وشائجهِ . دارت الأرض في تلك اللحظات الأخيرة ما وسعها الدوران ، كانت في واقع الأمر تدور بسرعةٍ اكبر من المعتاد كأنها إطاراتُ الطائرة وقتَ أن تُهِمً بالإقلاع . كم أشتهينا لو أن غالليو بيننا حتي يشهد البرهان علي صحة نظريتهِ .​
  • في تلك الساعة أيضا أخذت الأشجارُ تتأرجح و لم يكن التأرجح بفعل عاصفةٍ أو نحوها و إنما فقط لأن الأرض قد أخذت تدورُ عكس إتجاه الدوران المألوف ، الأمر الذي جعلنا نصغي لقرقرة إمعائها الفارغة و الي تلك الاصوات الناشئة عن كركرة مفاصلها . إندلعت الموجة الاولي من الريحِ الصرصر فأبصر الناس مدينتهم و قد بدأت تدورُ حول نفسها مثل درويش في حلبة الرقص قبل أن تخمد حركتها فجاةً ، لتطير بعدها في الهواء و كانها مجرد بالون ، ثم إنطلقت شهقة عظيمة يبدو انها الشهقة المركزية لسائر الموجودات .و لم تكد تلك الشهقة تخفت الا بعد مرور خمسمائة سنة و عشرين يوما و كذا و أربعين ساعة ، كان جوف الأرض خلالها قد بدا يتماثلُ الي الشفاء بعد أن لفظ المفاعلات النووية و تحرر من زفير الاحتباسات الحرارية الرعناء ، هكذا عادت الأرض بعد ذلك كيوم خلقها مع حلول الموجة الثانية للريح الصرصر ، عروس بكر لم يطمثها إنسٌ ولا جان .​
  • و ظلت البلاد الملعونة في سائر المللِ ، توغلُ في الأفق الأحمر للسماء حتي أنها غدت في نهاية الأمر مجرد نقطة ضوئية متناهية الصغر معلقة في السديم ، و لشدة قلقنا علي الحياة رحنا نتفحص صدر النيل و نتحسس ظهره فلم نكد نعثر إلا علي الضفادع و هي تقيم حفلها السنوي علي ضفافه اليابسة غير عابئةً بإختلاجات الحياة الجديدة ، و عند ذلك الحين فقط ، أيقنا بصدق النبوءات القديمة القائلة بان الضفادع هي اخر الكائنات التي سوف تنقرض علي هذا الكوكب .!​
  • في تلك اللحظات الكونية الرهيبة ، كانت الأشياء لا تتركُ وراءها إلا ظلها حين تختفي .هكذا كانت تبقي الظلالُ فحسب و لا شيء غيرها . هرعنا صوب الأسافير القديمة فوجدنا مكتوبا عليها ان ملك الظِلال سيأتي في خاتمة المطاف ليهلك الظلال أيضا فلا يبقي شيءُ علي وجهِ البسيطة ،خلا الخيوط الفضية للضوء و التي ستهلك أيضا بعد مضي نحو ألف عام قبل أن تترك الكون وراءها غارقاً في ظلمة الغبار الناشيء عن تحطم الأفلاك و إنهيار المجرات !​
  • في البدء اختفت صورةٌ المياه و بقي ظلها عالقا يتراقصُ فوق السماء ، و ُ مثلما ينضو المرء الثياب عن جسدهِ خلع الشجر ظله ثم مضي تاركاً الجفاف يفترسٌ الحياة .كان الرب يبقي فقط علي ظلالِ الأشياء و يميت أجسادها . هاهي ظلالُ البشر في مدينتنا تمشي مثل الأشباح علي قارعةِ البنايات التي صارت الي ضدها .تطولُ حينا و تقصرُ حينا . ظلال القادة و الزعماء و اللصوص و المجرمين و السفاحين و القتلة منذ فجر التاريخ تعبر أمامنا ، ثمة وحوش نارية تلهب ظهورهم بسياط من النيران و هم يصرخون ، في حين بدت ظلالُ القديسين و الشعراء و الشهداء تأتي في كرنفالٍ بهيجٍ تحفه الاضواء الفضية اللامعة .​
  • هكذا عشنا في بلاد الظلال ردحا من الزمان ، أجيالاً تعقبها أجيال .مستمسكين بحظنا الضئيل في مواجهة الحياة الجديدة . كان البشرُ في تلك الأيام يتعرفون الي بعضهم البعض من خلال رائحةِ الظلال ، الرجالُ كانت ظلالهم طويلة و معقوفة بينما ظلالُ النساء واسعة و فضفاضة و يستوعبها خيالُ الشعر بصورةٍ أكبر ، و كانت أرواحُ البشر الهائمة في مكان ما من هذا الكون الفسيح الشاسع تتنزلُ فقط في خواتيمِ الليالي المظلمة لتزورَ ظلال أجسادها ، تقرئها السلام و تبكي لوعة الفراق قبل أن تغادر ساعة إنبلاج الضوء الذي كان يسطع علي الدنيا من قاع البحار لا من أفق السموات فتدب الظلال الآدمية و تسعي في مناكب الحياة الجديدة التي شهدت قيامة ما قبل القيامة ، تلك الحقبة الفاصلة بين بداية عصر الظلال الشاحبة و نهاية دورة حياة الانسان العاقل . !​
  • إنتهت

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى