غياث المرزوق - ذٰلِكَ ٱلْغَبَاءُ ٱلْقَهْرِيُّ ٱلْتَّكْرَارِيُّ: طُغَاةُ ٱلْتَّقَدُّمِ أَمْ بُغَاةُ ٱلْتَّهَدُّمِ؟ (الجزء الأول)

إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ الهَرْجَ.
قِيلَ: وَمَا الهَرْجُ؟ قَالَ: الكَذِبُ وَالقَتْلُ [أَيْضًا].
قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الآنَ؟
قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ [أَعْدَاءً]، وَلكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا!
محمد بن عبد الله

(1)

قلتُ مَرَّةً في مقالٍ آنفٍ إنَّ ذٰلِكَ الغَبَاءَ القَهْرِيَّ التَّكْرَارِيَّ، بِجَلِيِّ الكلامِ، إنَّما هُوَ دَاءٌ نفسيٌّ عُضالٌ يستحْوذُ كلَّ الاستحواذِ على ذِهْنِيَّاتِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ كافَّتِهِم، أينما ثُقِقُوا في أرْجَاءِ هذا العالمِ العربيِّ المُوحِشِ واللَّهِيفِ، وأمثالِهِ. وقلتُ كذلك إنَّ هذا الدَّاءَ النفسيَّ العُضالَ، والحالُ هذهِ، تَبْتَنِيهِ بنْيَتَانِ نَقِيضَتَانِ، في آنٍ واحدٍ، إحْدَاهُمَا بنيةٌ فِطْرِيَّةٌ وأُخْرَاهُمَا بنيةٌ مُكْتَسَبَةٌ: فهُوَ، من طرفٍ، دَاءٌ فِطْرِيٌّ بِبُنْيَانِهِ لأنَّ الطاغيةَ العَتِيَّ المُصْطَنَعَ المَعْنِيَّ ليسَ فردًا مُتَفَرِّدًا قائمًا في ذاتهِ (ولِذَاتِهِ) كيفما اتَّفَقَ، بَلْ فرعًا مُتَفَرِّعًا، في الأساسِ، عن جَذْرٍ تَالِدٍ يتغلغلُ، أو عن جُذُورٍ تليدةٍ تتغلغلُ، في ثنايا «نظامٍ كُلِّيَّانِيٍّ» Totalitarian Regime مُفْتَعَلٍ ومُصْطَنَعٍ اصطناعًا أجنبيًّا، في الحَيِّزِ الأولِ، نظامٍ كُلِّيَّانِيٍّ لا يعْدُو أنْ يكونَ، في حقيقةِ الأمرِ، «نظامًا أبَوِيًّا» Patriarchal System وِراثِيًّا ومُتَوارَثًا يطمعُ في الدَّوامِ المُطْلَقِ في الحُكْمِ للذُّكُورِ من «سُلالَتِهِ» دونَ غيرهِمْ إلى يومِ يُبْعثُونَ، سواءً تسرْبَلَ هذا النظامُ بِسِرْبالٍ «مَلَكِيٍّ» أو «عَاهِلِيٍّ» سَافرٍ أم تقنَّع بِقناعٍ «جمهوريٍّ» أو حتى «اشتراكيٍّ» طافر. وهُوَ، من طرفٍ آخَرَ، دَاءٌ مُكْتَسَبٌ بِبُنْيَانِهِ كذلك لأنَّ الطاغيةَ العَتِيَّ المُصْطَنَعَ المَعْنِيَّ يَكادُ أنْ يُعيدَ للنَّاظِرِ المنتمي، أو حتى للنَّاظِرِ اللامنتمي، بِناءَ عَيْنِ المَشاهِدِ السياسيةِ أو المُسَيَّسَةِ بحذافيرِها، تلك المَشاهِدِ التي تَجَلَّى فيها مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أسْلافِهِ مِنَ الطُّغاةِ «الأَمَاثِلِ»، سواءً من حيثُ المَسَارُ الذَّميمُ الذي سَاروا عليهِ وهم باقُونَ، أو عَائِشُونَ، أمْ من حيثُ المَصِيرُ الدَّميمُ الذي صَاروا إليهِ وهم فانُونَ، أو سَاقطونَ. وقد كانَ الكلامُ الجَلِيُّ في مُتَتَالِيَةِ Series هذهِ المقالاتِ كلِّهَا، أو جُلِّهَا، يدورُ حولَ فَلِّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ من ذاك النظامِ الكُلِّيَّانِيِّ ذاتِهِ لدَى تَقَنُّعِهِ بِقناعٍ «جمهوريٍّ»، أو «اشتراكيٍّ»، ابتداءً من نشوءِ ما سُمِّيَ، حينَئذٍ، بـ«حركات التحرُّر الوطني»، أو «القومي»، بُعَيْدَ الحرب العالمية الثانية، وانتهاءً باندلاعِ، لا بَلِ استمرارًا وإكمالاً، لِنشُوبِ نيرانِ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ «الرَّبيعيِّ» خلالَ هذا العقدِ الدَّمَوِيِّ والدَّامِي من الزمانِ – على الأقلِّ في تلك البلدانِ العربيةِ التي تقنَّعتْ طَبَقَاتُ حُكْمِهَا بالقناعِ «الجمهوريِّ»، أوِ «الاشتراكيِّ»، المُتَكَلَّمِ عنهُ، هَا هُنا، في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، على أقلِّ تقديرٍ.

بَيْدَ أنَّ سَيْرورةَ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ «الرَّبيعيِّ» في هذهِ البلدانِ العربيةِ بالذاتِ، وبالأخصِّ في البلدينِ الأخيرَيْنِ منها، في واقعِ الأمرِ، لمْ تَكُنْ سَيْرورةً دائبةً ذلك الدُّؤُوبَ الذي كانَ يُؤْمَلُ منهُ أنْ يَشْرَحَ الصُّدُورَ وأنْ يُثْلِجَ القُلوبَ، ذلك الدُّؤُوبَ نحوَ حُرِّيَّةٍ وعدالةٍ اِجتماعيَّةٍ كانتْ شُعُوبُ هذهِ البلدانِ المقهُورةُ من كلِّ الجهاتِ، وما بَرِحَتْ، تَتُوقُ إليهِمَا أيَّمَا تَوَقَانٍ، كبدايةٍ لحَاضِرٍ جَديدٍ وبدايةٍ لمستقبلٍ مَجيدٍ. ومَرَدُّ ذلك، في التحليلِ المفيدِ أولاً وآخرًا، إلى رُجْحَانِ كَفَّةِ الميزانِ، ميزانِ الرَّيْهِ والهَيَجَانِ، رُجْحَانًا زمنيًّا ليسَ غيرَ في الوجهِ الخَبيثِ المقابلِ (للوجهِ الحَميدِ أو السَّليمِ) من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ، عندما يدافعُ السُّفَهَاءُ والمُراؤونَ والمتملِّقونَ والمتزلِّفونَ، على اختلافِ مَشَارِبِهِمْ ومَآرِبِهِمْ، عندما يدافعونَ عن شَخْصِ الطاغيةِ العَتيِّ المُصْطَنَعِ المَعْنِيِّ (كمثلِ بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، وأمثالِهِمَا) تشويهًا وتشنيعًا لوجهِ الحقيقةِ، وعندما يتيحونَ من ثمَّ لتلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، منهمْ أنْ يحملوا ما يتيسَّرُ وَ/أوْ مَا يتعسَّرُ لهُمْ من «مشاعِلِ» الثَّوَرَانِ المُضَادِّ، إلى أجلٍ مَسَمًّى، حتى لو كانوا يظنُّونَ أو يُوقِنونَ أنَّ هذا الثَّوَرَانَ المُضَادَّ عينَهُ لا يعدُو أنْ يكونَ، إبَّانَ المَسَارِ التاريخيِّ «الطبيعيِّ»، طورًا مذمُومًا من أطوارِ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ (الكونيِّ) ذاتِهِ، طورًا محْتُومًا زمَانيًّا ومحْسُومًا مكانيًّا مهما امتدَّ زمَانُهُ ومهما اتَّسَعَ مكانُهُ، طورًا محْمُومًا ومسْمُومًا لا بُدَّ لهُ، من كلِّ بُدٍّ، من أنْ يسْعَى إلى حَتْفِهِ بِأظْلافِهِ، حينما تندلعُ ألْسِنَةُ اللَّهَبَانِ الخَبيءِ من جديدٍ عاليًا عاليًا، وحينما تُعْلِنُ هذهِ الألْسِنَةُ بسَعِيرِها العَارمِ إرْهاصَاتِ الطورِ القَرَاريِّ الأخيرِ، طورِ الحَسْمِ الثوريِّ الذَّخِيرِ، شاءَتْ أرْجَاسُ تلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، ومَنْ تُكِنُّ الوَلاءَ لهُمْ من لفيفِ أسيادِهَا الطُّغَاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أمْ أبتْ. ففي «مَعْمَعَانِ» هذا الطورِ المذمُومِ والمحْمُومِ والمَسْمُومِ في حدِّ ذاتِهِ، طورِ الثَّوَرَانِ المُضَادِّ المحْتُومِ والمحْسُومِ الذي تمرُّ بِهِ سَيْرورةُ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ «الرَّبيعيِّ» في تلك البلدانِ العربيةِ الآنفةِ الذكرِ، ينجلي كلَّ الانجلاءِ عاملانِ قَمْعِيَّانِ «كَمِّيَّانِ» مكمِّلانِ لبعضِهِمَا البعضِ، أولهُمَا داخليٌّ مباشرٌ وثانيهمَا خارجيٌّ لامباشرٌ، عاملانِ قَمْعِيَّانِ يعملانِ على إدَامَةِ هذا الطورِ، وعلى دَيْمُومَةِ مُنْتَهَاهُ، بأيَّتِمَا ذريعةٍ سياسيةٍ براغماتيةٍ كانتْ، حتى لو كانتْ هذهِ الذريعةُ لاأخلاقيةً في الصَّميمِ، وحتى لو كانتْ هذهِ الذريعةُ لاإنسانيةً، لا بَلْ مَا دُونَ-حَيَوانِيَّةً، في صَميمِ الصَّميمِ.

يتبدَّى العاملُ القَمْعِيُّ الداخليُّ المباشرُ، من جانبٍ، في حقيقةِ التنفيذِ العسكريِّ و«السَّمْكريِّ» المَرْئيِّ الذي كانَ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، في «الجمهورياتِ» أو في «الاشتراكيَّاتِ»، وما انفكُّوا، يتولَّوْنَ القيامَ بِهِ على أكملِ وَجْهٍ بكلِّ ما أُوتوا «مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ»، من أمثالِ بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، كما ذُكِرَ. ففي قرينةِ المَآلِ الوَخِيمِ الذي آلَتْ إليهِ «سوريا» الطاغيةِ العَتِيِّ المُصْطَنَعِ الأوَّلِ، على سبيلِ التمثيلِ المُؤَوَّلِ، فإنَّ ما يُسَمَّى بـ«عَسْكَرةِ» الثَّوَرَانِ الشعبيِّ «الرَّبيعيِّ» التي تُؤْخَذُ غالبًا كمأخَذٍ جِدِّ سَلبيٍّ على هذا الثَّوَرَانِ لمْ تَجِئْ، بادئَ ذي بدءٍ، بمثابةِ قرارٍ إراديٍّ تبنَّاهُ أيُّ طرفٍ من الأطرافِ شعبيٍّ ثائرٍ على الطغيانِ هكذا عنوةً، بلْ جاءتْ بمثابةِ ردِّ فعلٍ مؤجَّلٍ أيَّمَا تأجيلٍ، بعدَ أنْ بلغَ السَّيْلُ الزُّبَى، على مَا قامَ بِهِ أزلامُ النظامِ الأسديِّ الطائفيِّ المَافْيَويِّ الإجراميِّ من عَسْفٍ واعتسَافٍ عسكريَّيْنِ بحقِّ العُزَّلِ مِمَّنْ ثاروا ثَوَرَانًا سلميًّا، في المقامِ الأولِ. حتى أنَّ هذا النظامَ الأسديَّ الطائفيَّ المَافْيَويَّ الإجراميَّ ذاتَهُ، على سبيلِ التمثيلِ الراهنِ، إنَّمَا يتحمَّلُ المسؤوليةَ كلَّهَا عن أكبرِ نسبةٍ من نِسَبِ الاختفاءِ القَسْريِّ (نسبةٍ تبلغ 90% منهُ)، حيثُ يخضعُ المختفونَ والمختفياتُ، على اختلافِ أعمارِهِمْ وأعمارِهنَّ، قَسْرًا وقَهْرًا إلى أسَاليبَ تعذيبيَّةٍ غايةٍ في الوحشيَّةِ والهمَجيَّةِ والحُوشِيَّةِ، وأشدَّ من ذلك حتى – وهذه النسبةُ الشُّؤْمَى تستبيءُ قمَّتَهَا اللاإنسانيةَ، لا بَلْ مَا دُونَ-الحَيَوانِيَّةَ، وحدَهَا، ووحدَهَا فقط، في مقابلِ نسبةِ الاختفاءِ القَسْريِّ الذي تتحمَّلُ المسؤوليةَ عنهُ بكليَّتِهِ كذلك بقيةُ الأطرافِ، أطرافِ الاحترابِ والتحَارُبِ «المُحْتَدِمَيْنِ»، في المسرحِ السُّوريِّ الدَّمويِّ والدَّامي (نسبةٍ لمْ تبلغْ سوى 10% منهُ)، كمثلِ تنظيمِ «الدولةِ الإسلاميةِ» (أو «داعش»، اختصارًا)، وتنظيمِ «هيئةِ تحريرِ الشَّامِ» (أو «جبهةِ النُّصْرةِ»، سَابقًا)، وتنظيمِ «حزبِ الاتحادِ الديمقراطيِّ الكرديِّ»، وغيرِهَا من تنظيماتِ فصائلِ «المعارضةِ المسَلَّحَةِ» الأُخرى، حَسْبَمَا جاءَ في تقريرٍ أخيرٍ صَادرٍ عن «الشبكةِ السوريةِ لحقوقِ الإنسانِ» ذاتِها. ويتبدَّى العاملُ القَمْعِيُّ الخارجيُّ اللامباشرُ، من جانبٍ آخَرَ، في حقيقةِ التنفيذِ الاقتصاديِّ و«العتاديِّ» اللَّامَرْئِيِّ الذي باتَ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ (أو، بالحَرِيِّ، من ممثِّليهِمْ من أولئك «الانفتاحِيِّينَ» و«الحَداثوِيِّينَ» الجُدُدِ)، في «الإماراتِ» أوْ في «المملكاتِ»، وما فَتِئُوا، يتولَّوْنَ القيامَ بِهِ على قَدَمٍ وسَاقٍ، ولكنْ من وراءِ الكواليسِ والكراريسِ، بكلِّ ما أُوتوا من «حِرَانٍ»، لا بلْ من «خِلاءٍ» بعبارةٍ إبْلِيَّةٍ بَدَويةٍ بَيْدَاويَّةٍ أقربَ إليهِمْ، من أمثالِ وليِّ عهدِ أبو ظبي، محمد بن زايد، ووليِّ عهدِ آلِ سعودٍ، محمد بن سلمان، على وجهِ التحديدِ. كلُّ هذا «القيامِ على القَدَمِ والسَّاقِ» إنْ هو، في جوهرِ الأمرِ، إلاَّ تخوُّفٌ دفينٌ من وُصُولِ المَدِّ الثوريِّ إلى عُقر الديارِ وَاعِدًا بالحُرِّيَّةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ بوصفِهِمَا ألَدَّ عدوَّتَيْنِ جَاثِمَتَيْنِ لهذَيْنِ الطاغيتَيْنِ «الانفتاحِيَّيْنِ» و«الحَداثوِيَّيْنِ»، دونَ غيرِهِمَا. ناهيكُمَا، أيَّتُهَا القارئةُ الكريمةُ وأيُّهَا القارئُ الكريمُ، عن أنَّ هذا «القيامَ على القَدَمِ والسَّاقِ» لا يتمُّ أيَّ تمامٍ إلاَّ من خلالِ أوامِرَ مدروسَةٍ تأتيهِمَا من لفيفِ أسيَادِهِمَا في أمريكا وإسرائيلَ، على وجهٍ أكثرَ تحديدًا، أوامِرَ مدروسَةٍ تأتيهِمَا ما بينَ آنِ وآنٍ، وعلى شَاكلةِ «التَّحَكُّمِ عنْ بُعدٍ» Remote Control تِبْعًا لظروفِ الزَّمَانِ والمَكَانِ.

وهكذا، على هذا المِنْوَالِ الحَزِينِ والمُحْزِنِ الذي يُعيدُ «الذكرى» إلى وَرَاءِ الوَرَاءِ في التاريخِ القديمِ الأشَدِّ حُزْنًا والأشَدِّ إحْزَانًا، كانَ العربُ يقتلونَ بعضَهُمْ بعضًا حينما كانوا يَحْيَوْنَ حَيَاةَ التهدُّمِ والبَدَاوَةِ، أوْ حينما كانوا من قبلُ «كَأُمَّةٍ وَحْشِيَّةٍ، أَهْلَ نَهْبٍ وَأَهْلَ عَبَثٍ»، على حدِّ تعبيرِ العلاَّمَةِ الفذِّ ابنِ خلدونٍ. وهكذا، على هذا المِنْوَالِ الألِيمِ والمُؤْلِمِ الذي يستعيدُ «الذكرى» ذاتَهَا إلى أمَامِ الأمَامِ في التاريخِ الحديثِ الأشَدِّ ألَمًا والأشَدِّ إيلامًا، صَارَ العربُ يقتلونَ بعضَهُمْ بعضًا حتى عندما صَارُوا يَحْيَوْنَ حَيَاةَ «التقدُّمِ» و«الحَضَارةِ»، لا بلْ صَاروا معَ هذهِ الحياةِ يقتلونَ بعضَهُمْ بعضًا قتلاً عُصَابيًّا وقتلاً ذُهَانيًّا لمْ يسبقْ لأيٍّ منهما مثيلٌ، وذلك لأنَّهمْ صَارُوا من بعدُ «كَأُمَّةٍ أكثرَ وَحْشِيَّةً، أَهْلَ كُلِّ النَّهْبِ وَأَهْلَ كُلِّ العَبَثِ»، استئناسًا بتعبيرِ ابنِ خلدونٍ ذاتِهِ، أو بصُورةٍ أرْقى بَيَانًا وبَلاغةً وفَصَاحةً، حتى، عندما صَارُوا من بعدُ «كَأُمَّةٍ أكثرَ وَحْشِيَّةً بِكَثِيرٍ، أَهْلَ كلِّ الهَرْجِ وَأَهْلَ كُلِّ الكَذِبِ وأَهْلَ كُلِّ القَتْلِ»، استئناسًا بتعبير الرَّسُولِ محمدٍ ذاتِهِ، التعبيرِ الذي وقعَ عليهِ الاختيارُ كعبارةٍ تصديريَّةٍ لهذا المقالِ.

(2)

قلتُ في القسمِ الأولِ من هذا المقالِ إنَّ ذٰلِكَ الغَبَاءَ القَهْرِيَّ التَّكْرَارِيَّ إنَّما هُوَ دَاءٌ نفسيٌّ عُضَالٌ يستحْوذُ استحْواذًا فِطْرِيًّا ومُكْتَسَبًا على ذِهْنِيَّاتِ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أينما ثُقِقُوا في أصْقاعِ هذا العالمِ العربيِّ المَحْزونِ، وأمثالِهِ: قلتُ «استحْواذًا فِطْرِيًّا»، من جَانبٍ، لأنَّ هؤلاءِ الطُّغاةَ لا يعْدُونَ أنْ يكونوا، في الأصْلِ، فروعًا مُتَفَرِّعةً عن جُذُورٍ تليدةٍ تتغلغلُ في ثنايا «نظامٍ كُلِّيَّانِيٍّ» Totalitarian Regime مُخْتَلّقٍ اخْتلاقًا أجنبيًّا ليسَ لهُ إلاَّ أنْ يُجَانِسَ في صَيْرورتِهِ «نظامًا أبَوِيًّا» Patriarchal System وِرَاثِيًّا طامعًا في الدَّوامِ المُطْلَقِ في الحُكْمِ للذُّكُورِ من «سُلالَتِهِ» دونَ غيرهِمْ إلى يومِ يُبْعثُونَ، سَوَاءً تَسَرْبَلَ هذا النظامُ بِسِرْبالٍ «مَلَكِيٍّ» أوْ «عَاهِلِيٍّ» سَافرٍ أمْ تقنَّعَ بِقناعٍ «جمهوريٍّ» أوْ حتى «اشتراكيٍّ» طافرٍ. وقلتُ «استحْواذًا مُكْتَسَبًا»، من جَانبٍ آخَرَ، لأنَّ هؤلاءِ الطُّغاةَ يَكادُونَ أنْ يُعيدوا للعَيْنِ بِناءَ عَيْنِ المَشاهِدِ السياسيةِ، أو المُسَيَّسَةِ، التي تَبدَّى فيها مَنْ سَبَقَهُمْ ومَنْ عَاصَرهُمْ مِنَ الطُّغاةِ «الأَمَاثِلِ»، سَوَاءً من حيثُ المَسَارُ الذَّميمُ الذي سَارُوا عليهِ وهُمْ بَاقُونَ، أوْ عَائِشُونَ، أمْ من حيثُ المَصِيرُ الدَّميمُ الذي صَارُوا إليهِ وهُمْ فانُونَ، أو سَاقطونَ. تِلْكُمَا هُمَا الحَالانِ، أعْنِي حَالَيْ ذلك الاِستحْواذِ، ابتداءً من نُشُوءِ مَا سُمِّيَ، حينَئذٍ، بـ«حركاتِ التحرُّرِ الوطنيِّ»، أو «القوميِّ»، بُعَيْدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، وانتهاءً واستمرارًا بِنُشُوبِ نيرانِ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ «الرَّبيعيِّ» خلالَ هذا العقدِ الدَّمَوِيِّ والدَّامِي من الزَّمَانِ – وبالأخصِّ في تلك البلدانِ العربيةِ التي تَقنَّعَتْ طَبَقَاتُ حُكْمِهَا بالقِنَاعِ «الجمهوريِّ»، أوِ «الاشتراكيِّ»، في تونس وليبيا ومصر واليمن وسوريا، على أقلِّ تقديرٍ. إلاَّ أنَّ سَيْرورةَ هذا الثَّوَرَانِ الشعبيِّ، في واقعِ الأمرِ، لمْ تدأبْ ذلك الدُّؤُوبَ المَأمُولَ منهُ نحوَ حُرِّيَّةٍ وعَدَالةٍ اِجتماعيَّةٍ كانتْ شُعُوبُ هذهِ البلدانِ المقهُورةُ من كلِّ الجهاتِ، وما بَرِحَتْ، تَتُوقُ إليهِمَا أيَّمَا تَوْقٍ، كبدايةٍ لحَاضِرٍ جَديدٍ وبدايةٍ لمستقبلٍ مَجيدٍ. ومَرَدُّ ذلك، أوَّلاً وآخرًا، إلى رُجْحَانِ كَفَّةِ الميزانِ رُجْحَانًا أوَانِيًّا في الوجهِ الخَبيثِ المُقَابِلِ (للوجهِ الحَميدِ أو السَّليمِ) من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ، عندما يدافعُ السُّفَهَاءُ والمُرَاؤونَ والمتملِّقونَ والمتزلِّفونَ، على اختلافِ مَشَارِبِهِمْ وعلى ائتلافِ مَآرِبِهِمْ، عندما يدافعونَ عن شَخْصِ الطاغيةِ العَتيِّ المُصْطَنَعِ المَعْنِيِّ (كمثلِ بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، وغيرِهِمَا) تشويهًا وتشنيعًا لوجهِ الحقيقةِ، وعندما يتيحونَ من ثمَّ لتلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، منهمْ أنْ يحملوا ما يتيسَّرُ وَ/أوْ مَا يتعسَّرُ لهُمْ من «مشاعِلِ» الثَّوَرَانِ المُضَادِّ، إلى أجلٍ مَسَمًّى، حتى لو كانوا يظنُّونَ ظَنِينًا، أو كانوا يُوقِنونَ يَقِينًا، أنَّ هذا الثَّوَرَانَ المُضَادَّ ذاتَهُ، في إبَّانِ المَسَارِ التاريخيِّ «الطبيعيِّ»، ليسَ إلاَّ طورًا مذمُومًا من أطوارِ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ (الكونيِّ) ذاتِهِ، طورًا محْتُومًا زمَانيًّا ومحْسُومًا مَكَانيًّا مهما امتدَّ زَمَانُهُ ومهما اتَّسَعَ مَكَانُهُ، طورًا محْمُومًا ومسْمُومًا لا بُدَّ لهُ من أنْ يسْعَى إلى حَتْفِهِ بِأظْلافِهِ، حينما تندلعُ ألْسِنَةُ اللَّهَبَانِ الخَبيءِ من جديدٍ عَاليًا عَاليًا، وحينما تُعْلِنُ هذهِ الألْسِنَةُ بسَعِيرِها العَارمِ إرْهاصَاتِ الطورِ القَرَاريِّ الأخيرِ، طورِ الحَسْمِ الثوريِّ الذَّخِيرِ، شاءَتْ أرْجَاسُ تلك السِّفْلَةِ، أو تلك الحُثَالةِ، ومَنْ تُكِنُّ الوَلاءَ لهُمْ من لفيفِ أسْيَادِهَا الطُّغَاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، أمْ أبتْ.

(لِيْ أنْ) أقولَ هذا القولَ بكلِّ تفاؤُلٍ وافْتِآلٍ، مرَّةً أُخرى، رَغْمَ أنَّهُ، في «مَعْمَعَانِ» هذا الطورِ المَذْمُومِ والمَحْمُومِ والمَسْمُومِ، طورِ الثَّوَرَانِ المُضَادِّ المَحْتُومِ والمَحْسُومِ الذي تمرُّ بِهِ سَيْرورةُ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ ذاتِهِ، رغمَ أنَّهُ ينجلي فيهِ انجلاءً، على الأقلِّ، عاملانِ قَمْعِيَّانِ «كَمِّيَّانِ» مكمِّلانِ لبعضِهِمَا البعضِ، أولهُمَا داخليٌّ مباشرٌ وثانيهمَا خارجيٌّ لامباشرٌ، عاملانِ قَمْعِيَّانِ يعملانِ على إدَامَةِ هذا الطورِ، وعلى دَيْمُومَةِ مُنْتَهَاهُ، بأيَّتِمَا ذريعةٍ سياسيةٍ براغماتيةٍ كانتْ، حتى لو كانتْ هذهِ الذريعةُ لاأخلاقيةً في الصَّميمِ، وحتى لو كانتْ هذهِ الذريعةُ لاإنسانيةً، لا بَلْ مَا دُونَ-حَيَوانِيَّةً، في صَميمِ الصَّميمِ: ينجلي العاملُ القَمْعِيُّ الداخليُّ المباشرُ، من طرفٍ، في حقيقةِ ذلك التنفيذِ العسكريِّ و«السَّمْكريِّ» المَرْئيِّ الذي كانَ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، في «الجمهورياتِ» أو في «الاشتراكيَّاتِ»، وما انفكُّوا، يتولَّوْنَ القيامَ بِهِ على أكملِ وَجْهٍ وبكلِّ ما أُوتوا «مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ»، من أمثالِ بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، كما ذُكِرَ. ففي قرينةِ المَآلِ الوَخِيمِ الذي آلَتْ إليهِ «سوريا» ذلك الطاغيةِ العَتِيِّ المُصْطَنَعِ الأوَّلِ، وأيًّا كانَتْ راهنيَّةُ التمثيلِ المُؤَوَّلِ، فإنَّ أزلامَ النظامِ الأسديِّ الطائفيِّ المَافْيَويِّ الإجراميِّ إنَّمَا يتحمَّلُونَ المسؤوليةَ كلَّهَا عن أكبرِ نسبةٍ من نِسَبِ الاختفاءِ القَسْريِّ حتى الآنَ (90%)، حيثُ يخضعُ المختفونَ والمختفياتُ، على اختلافِ أعمارِهِمْ وأعمارِهنَّ، قَسْرًا إلى أسَاليبَ تعذيبيَّةٍ غايةٍ في الوحشيَّةِ والهمَجيَّةِ والحُوشِيَّةِ، وأشدَّ من ذلك حتى – وهذهِ النسبةُ الشُّؤْمَى تستبيءُ قمَّتَهَا اللاإنسانيةَ، لا بَلْ مَا دُونَ-الحَيَوانِيَّةَ، وحدَهَا، ووحدَهَا فقط، في مقابلِ نسبةِ الاختفاءِ القَسْريِّ الذي يتحمَّلُ المسؤوليةَ عنهُ بكليَّتِهِ أيضًا كلُّ ما تبقى من أطرافِ الاحترابِ والتحَارُبِ «المُحْتَدِمَيْنِ» في مَسْرَحِ الدِّمَاءِ السُّوريِّ (10%)، كمثلِ تنظيمِ «الدولةِ الإسلاميةِ» (أو «داعش»، اختصارًا)، وتنظيمِ «هيئةِ تحريرِ الشَّامِ» (أو «جبهةِ النُّصْرةِ»، سَابقًا)، وتنظيمِ «حزبِ الاتحادِ الديمقراطيِّ الكرديِّ»، وغيرِهَا من تنظيماتِ فصائلِ «المعارضةِ المسَلَّحَةِ» الأُخرى. وينجلي العاملُ القَمْعِيُّ الخارجيُّ اللامباشرُ، من طرفٍ آخَرَ، في حقيقةِ ذلك التنفيذِ الاقتصاديِّ و«العتاديِّ» اللَّامَرْئِيِّ الذي باتَ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ (أو، بالقَمِينِ، ممثِّليهِمْ من أولئك «الانفتاحِيِّينَ» و«الحَداثوِيِّينَ» الجُدُدِ)، في «الإماراتِ» أوْ في «المملكاتِ»، وما فَتِئُوا، يتولَّوْنَ القيامَ بِهِ على قَدَمٍ وسَاقٍ، ولكنْ من وراءِ الكواليسِ والكراريسِ، بكلِّ ما أُوتوا من «حِرَانٍ»، لا بلْ من «خِلاءٍ» بعبارةٍ إبْلِيَّةٍ بَدَويةٍ بَيْدَاويَّةٍ أقربَ إليهِمْ، من أمثالِ محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، على وجهِ التحديدِ. كلُّ هذا «القيامِ على القَدَمِ والسَّاقِ» إنْ هو، في وَاقِعِ الأمرِ، إلاَّ تخوُّفٌ دفينٌ من وُصُولِ المَدِّ الثوريِّ إلى عُقْرِ الديارِ، في «الإماراتِ» أو في «المملكاتِ»، وَاعِدًا بالحُرِّيَّةِ والعَدَالةِ الاجتماعيةِ بوَصْفِهِمَا ألَدَّ عَدُوَّتَيْنِ جَاثِمَتَيْنِ لهذَيْنِ الطاغيتَيْنِ «الانفتاحِيَّيْنِ» و«الحَداثوِيَّيْنِ»، دونَ غيرِهِمَا. ناهيكُمَا بالطبعِ، أيَّتُهَا القارئةُ الكريمةُ وأيُّهَا القارئُ الكريمُ، عن أنَّ هذا «القيامَ على القَدَمِ والسَّاقِ» لا يتمُّ أيَّ تَمَامٍ إلاَّ من خلالِ أوامِرَ مدروسَةٍ تأتيهِمَا من لفيفِ أسْيَادِهِمَا في أمريكا وإسرائيلَ، على وجهٍ أكثرَ تحديدًا، أوامِرَ مدروسَةٍ تأتيهِمَا آنًا بعدَ آنٍ، وعلى شَاكلةِ «التَّحَكُّمِ عنْ بُعدٍ» Remote Control تِبْعًا لظروفِ الزَّمَانِ والمَكَانِ. وناهيكُمَا، بطبيعِةِ الحالِ، عن ذلك التَّحَابُبِ «الفُجَائيِّ» بينَ عُرْبَانِ النَّفْطِ في «الإماراتِ» وبينَ رُوسِ العَفْطِ في «الاتحاداتِ»، على وجهٍ أكثرَ تحديدًا بكثيرٍ، ذلك التَّحَابُبِ العَجَائبيِّ والغَرَائبيِّ الذي أسْفَرَ عنهُ إتْمَامُ التَّصَافُقِ الليليِّ والنهاريِّ مَا بينَ الشركةِ الإماراتيةِ الشهيرةِ «مبادلة البترول» والشركةِ الروسيةِ الأشهرِ «غازبروم» Газпром، وذلك سَعْيًا سَعْيًا حثيثًا إلى تطويرِ عددٍ من حُقولِ النَّفْطِ والعَفْطِ في الجَانِبِ الغربيِّ من «سيبيريا» Siberia، وعلى مَقْرَبَةٍ من سُفُوحِ تلك الجِبَالِ التي تَسَمَّتْ، عَصْرَئِذٍ، بالـ«أورالِ» Ural باسْمِ ذاك البطلِ الأسطوريِّ المُتَحَزِّمِ شَامِخًا بـ«حِزَامٍ نَضَيدٍ بالحَصَيَاتِ والصُّخُورِ» – تمامًا مثلمَا يتحزَّمُ عُرْبَانِ النَّفْطِ هؤلاءِ شَامِخِينَ بـ«أحْزِمَةٍ نَضِيدَةٍ بالفَشَكَاتِ والخَرَاطِيشِ».

وبدافعٍ من غَضَبٍ ومن سُخْطٍ دفينَيْنِ مَعْجُونَيْنِ باسْتِسْخَارٍ وباسْتِصْغَارٍ لا يحتاجَانِ إلى أيِّمَا تعليلٍ، كنتُ على الدَّوامِ، كما كانَ الكثيرُ من الأخَوَاتِ الحَبِيبَاتِ القادمَاتِ، والإخوةِ الأحِبَّةِ القادمينَ، من ذاك العالمِ العربيِّ المَرْسُومِ بدَمْعِ، لا بلْ بدمِ، التَّفَجُّعِ والمَأسَاةِ مِمَّن تعرَّفتُ إليهِنَّ وإليهِمْ في بلادِ التغرُّبِ والشَّتاتِ، كنتُ على الدَّوامِ أستخدمُ في الكتابةِ والكلامِ عبارةَ «العُرْبَانِ المُؤَمْرَكِينَ»، أو «العُرْبَانِ المُتَأَمْرِكِينَ»، حَسْبَمَا يقتضيهِ الحَالُ واللامَحَالُ في اللغةِ العربيةِ الأُمِّ، أو في لغةٍ أجنبيةٍ غيرِهَا، وذلك للإشارةِ الجَلِيَّةِ إلى أمثالِ ذينك الطاغيتَيْنِ «الانفتاحِيَّيْنِ» و«الحَداثوِيَّيْنِ» المعنيَّيْنِ، في «الإماراتِ» و«المملكاتِ»، وإلى زبانِيَتِهِمْ واحدًا واحدًا، وإلى كلِّ مَنْ يُكِنُّونَ الوَلاءَ لهمْ، في الجَهَارِ وفي الخَفاءِ، من شعُوبِهِمْ ومن غيرِهَا من الشعُوبِ العربيةِ وغيرِ العربيةِ، دُونَمَا استثناءٍ. وهذانِ الاِسْتِسْخَارُ والاِسْتِصْغَارُ اللذانِ لا يحتاجَانِ إلى أيِّمَا تعليلٍ، علاوةً على ذلك، إنَّما يشيرَانِ بِجَلاءٍ أشدَّ من سَابقهِ حتى، وبالأخصِّ إلى أولئك الموظَّفاتِ العربياتِ والموظَّفينَ العربِ، وهنَّ «يَرْتَعْنَ» وهمْ «يَرْتَعُونَ» في شتَّى مَجَالاتِ توظيفهِنَّ وتوظيفهِمْ في التدريسِ والطِّبَابةِ والهندسَةِ والمُحَامَاةِ وغيرهَا، أولئك الطُّفَيْلِيَّاتِ اللواتي يَعْتَشْنَ، والطُّفَيْلِيِّينَ الذينَ يَعْتَاشُونَ، على «الفائضِ» من أموالِ «الإماراتِ» و«المملكاتِ» بالذاتِ، وأولئك المتطفِّلاتِ اللواتي يَقْتَتْنَ، والمتطفِّلينَ الذينَ يَقْتَاتُونَ، على «الفَضْلِ» من أطعمتهِا، كذلك. فكمْ هو مثيرٌ للتقزُّزِ والقَرَفِ أنْ يُشْتَفَّ من هؤلاءِ الطُّفَيْلِيَّاتِ المتطفِّلاتِ أنفسِهِنَّ، ومن هؤلاءِ الطُّفَيْلِيِّينَ المتطفِّلينَ أنفسِهِمْ، وقدِ اكتظَّتْ جيوبُهُنَّ وجيوبُهُمْ من تلك «الفوائضِ»، وقدِ امتلأتْ بطونُهُنَّ وبطونُهُمْ من تلك «الفَضَلاتِ»، كمْ هو مثيرٌ للتقزُّزِ والقَرَفِ أنْ يُشْتَفَّ منهنَّ ومنهُمْ كلَّ الاِشْتِفَافِ، من وجهٍ «حَميدٍ» أوْ «سَليمٍ»، فَخَارٌ ليسَ بعدَهُ فَخَارٌ بِمَا نَجَزَهُ وأنْجَزَهُ من «تقدُّمٍ» ومن «حَضَارةٍ» لَفيفُ أسْيَادِهِنَّ وأسْيَادِهِمْ من عُرْبَانِ النَّفْطِ مِمَّنْ وَصَفْتُهُمْ قبلَ قليلٍ بعبارةِ «العُرْبَانِ المُؤَمْرَكِينَ»، أو «العُرْبَانِ المُتَأَمْرِكِينَ»، أيَّا كانوا. وكمْ هو حتى أشدُّ إثارةً للتقزُّزِ والقَرَفِ أنْ يُشْتَفَّ منهنَّ ومنهُمْ كلَّ الاِشْتِفَافِ، في الوجهِ الخَبيثِ النقيضِ، دِفاعٌ مُسْتَمِيتٌ عن شَخْصِ الطاغيةِ العَتيِّ المُصْطَنَعِ المَعْنِيِّ، تَحَرُّزًا واحْتِرَازًا من فُقْدَانِ مَا اكتظَّتْ بهِ جيوبُهُنَّ وجيوبُهُمْ من تلك «الفوائضِ» عينِهَا على «أملٍ إبْلِيسِيٍّ» بِعودتِهِنَّ وعودتِهِم إلى أحضَانِ «الوطنِ الحبيبِ» في ظَنِّهِنَّ وظَنِّهِمْ – وهذا الدفاعُ المُسْتَمِيتُ، في حدِّ ذاتِهِ، لا يختلفُ بَتَّةً، من حيثُ لاأخلاقيَّتُهُ الذرائعيَّةُ في الوصولِ والانتهازِ الشَّائنَيْنِ، عن «دفاعِ» أولئكَ السُّفَهَاءِ والمُرائينَ والمتملِّقينَ والمتزلِّفينَ في ذاتِ الوجهِ الخَبيثِ النقيضِ من قضيةِ ما يُفْضِي إلى تعدُّديةِ الشخصيةِ الواحدةِ ذاتِهَا، شَخْصِ الطاغيةِ العَتيِّ المُصْطَنَعِ المَعْنِيِّ ذاتِهِ، كما سَبَقَ ذِكْرُهُ. والآنَ، في هذا الأوانِ، وبعدَ انقضَاءِ أكثرَ مِنْ سَنَتَيْ سَمْنٍ وعَسَلٍ مُسْتَخْفِيَيْنِ بِاللَّيْلِ وَسَارِبَيْنِ بِالنَّهَارِ، سَنَتَيْ سَمْنٍ وعَسَلٍ بينَ آلِ سعود وآلِ صهيونَ، من جهةٍ، وبينَ آلِ صهيونَ وآلِ نهيانَ، من جهةٍ أخرى، وبينَ آلِ نهيانَ وآلِ سعود، من كلٍّ من الجهتَيْنِ، صَارتِ العبارةُ ذاتُهَا قدَّامَ الكبيرِ وقدَّامَ الصَّغيرِ وقدَّامَ المُقَمَّطِ بالسَّريرِ عبارةَ «العُرْبَانِ المُؤَمْرَكِينَ المُؤَسْرَلِينَ»، أو «العُرْبَانِ المُتَأَمْرِكِينَ المُتَأسْرِلِينَ»، حَسْبَمَا يقتضيهِ الحَالُ واللامَحَالُ كذلك. وبهذا، وبذلك، فقدْ تحقَّقَ بالفعْلِ مَا تنبَّأَ بِهِ المُخَضْرَمُ الشاعرُ، مظفر النوَّاب، عندمَا قالَ بالقولِ في خِتَامِ قصيدتِهِ الشهيرةِ «تلُّ الزَّعْتَرِ» قبلَ أكثرَ من أربعينَ عامًا: «لٰكِنْ يَا سَادَةُ، يَا سَادَهْ / لَنْ يَتَعَشَّى أَحَدٌ في الشَّرْقِ العَرَبِيِّ عَلى طَبَقٍ مِنْ ذَهَبٍ / صَرَّحَ نَفْطُ ابْنِ الكَعْبَةِ / [لا بَلْ صَرَّحَ نَفْطُ ابْنِ القَحْبَةِ] / صَرَّحَ أَنْ يُعْقَدَ مُؤْتَمَرٌ بِالصُّدْفَةِ / وَاللّهِ بِمَحْضِ الصُّدْفَةِ كَانَ سُدَاسِيًّا / أَرْكَانُ النَّجْمةِ سِتٌّ بِالكَامِلِ / يَا نَجْمَةَ دَاوُدَ ابْتَهِلِي [عَرَبًا] / يَا مَحْفِلَ مَاسُونَ تَرَنَّحْ طَرَبًا / يَا إِصْبَعَ كِيسِنْجَرَ إِنَّ الإسْتَ المَلَكِيَّ سُدَاسِيٌّ»، إلى أوَّلِهِ، إلى أوَّلِهِ، من تلك القصيدةِ الشهيرةِ!

ثَمَّةَ، إذنْ، أكثرُ مِنْ سَنَتَيْ سَمْنٍ وعَسَلٍ مُسْتَخْفِيَيْنِ بِاللَّيْلِ وَسَارِبَيْنِ بِالنَّهَارِ، سَنَتَيْ سَمْنٍ وعَسَلٍ مَا انْفَكَّتَا تلتهبَانِ تَشَاغُفًا وتَعَالُقًا وتَعَاشُقًا مَا بينَ أطرافِ ذلك الثالوثِ المُدَنَّسِ، ثالوثِ «الآوَالِ» المُجَنَّسِ، أو ثالوثِ «الآيَالِ» المُنَجَّسِ (مثلمَا تُريدانِ)، آلِ الصَّهَايِينِ وآلِ النَّهَايِينِ وآلِ السَّعَادِينِ، في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ وحتى في وَسَطٍ وَسِيطٍ فيما بَيْنَ بَيْنَ. لكنَّ اشتدادَ أوَارِ هذا الالتهابِ التَّشَاغُفِيِّ والتَّعَالُقِيِّ والتَّعَاشُقِيِّ، في إبَّانِ هٰتَيْنِ السَّنتَيْنِ السَّمْنيَّتَيْنِ والعَسَليَّتَيْنِ، وفي إبَّانِ خَمْسٍ قبلَهُمَا (أو يزيدُ) من سَنَوَاتِ الاِرْتِهَازِ واللااِرْتِهَازِ ومَا بينَهُمَا كذلك، لكنَّهُ لا ينشَأُ نُشُوءًا ذَاتِيًّا لاإراديًّا هكذا، كمَا ينبثقُ الْتِحَاصُ الجُمُوحِ الرَّغَائبِيِّ أيًّا كانَ، حتى قبلَ أنْ يُصَارَ إلى إشْبَاعِ الرَّغَائبِ المعنيَّةِ، أو حتى قبلَ أنْ يُصَارَ إلى تكْبِيتِ هذهِ الرَّغَائبِ (تِبْعًا لما يُتَاحُ، أو لا يُتَاحُ، للنيابةِ الإنسانيةِ من حُرِّيَّةٍ نفسيةٍ وَ/أوِ اجتماعيةٍ)، بلْ ينشَأُ نُشُوءًا آخَرِيًّا إراديًّا، على النقيضِ، نُشُوءًا يَرْقُبُ رَسْمَهُ البَيَانيَّ Diagram مِرْقَابٌ مِقْرَابٌ رُقُوبَ الدَّيْدَبَانِ «الأمينِ»، ومنْ لَدُنْ طَرَفَيْ ثَانُوءٍ دَنَسِيٍّ أو «جَنَسِيٍّ» أو نَجَسِيٍّ كذلك، أحدُهُمَا أمريكيٌّ ذو تجسيدٍ «ترامْبيٍّ» جَليٌّ في أكثرِ الأحَايينِ، والآخَرُ روسيٌّ ذو تجسيمٍ «بوتينيٍّ» جَليٌّ حينًا وخَفِيٌّ حينًا آخَرَ حَسْبَمَا يقتضيهِ دورُهُ المَكِينُ. من هُنا، من تَسَافُدِ أطرافِ ذاك الثَّالُوثِ المُدَنَّسِ و«المُجَنَّسِ» والمُنَجَّسِ، من جَانبٍ أوَّلَ، ومن تَسَافُحِ طَرَفَيْ هذا الثَّانُوءِ الدَّنَسِيِّ و«الجَنَسِيِّ» والنَّجَسِيِّ، من جَانبٍ ثانٍ، يجيءُ الرَّسْمُ البَيَانيُّ للصُّورةِ «الليبراليةِ» و«التقدُّميةِ» التي فَبْرَكَهَا طاغيةُ آلِ النَّهَايِينِ، محمد بن زايد، لطاغيةِ آلِ السَّعَادِينِ، محمد بن سلمان، أمامَ كلٍّ من العالَمِ العربيِّ والعالَمِ الغربيِّ، على حدٍّ سواءٍ. فمَا إنْ بانتْ إرهاصَاتُ هذهِ الصُّورةِ «الليبراليةِ» و«التقدُّميةِ» المُفَبْرَكَةِ في العالَمِ العربيِّ، على وجهِ الخُصُوصِ، حتى شَرَعَ طاغيةُ آلِ السَّعَادِينِ ذاتُهُ في تعزيزِهَا تعزيزًا دوليًّا وتعزيزًا عالَمِيًّا من خلالِ إصْدارِ ذلك «المرسُومِ الملكيِّ» الشهيرِ الذي يُجيزُ للنساءِ قيادةَ السَّيَّارَاتِ، من بينِ أشياءَ أُخرى، على الرَّغْمِ من قَمْعِهِ الجَوْرِيِّ لكلِّ مَسَاعي المثقَّفينَ والصِّحافيِّينَ في السُّؤَالِ المُلحِّ عن مَآلاتِ أولئك النساءِ المُعْتَقَلاتِ في سُجُونِ آلِ السَّعَادِينِ، من مثلِ: سمر بدوي ونسيمة السادة (وهُمَا تانك الناشطتانِ اللتانِ كانتا قدْ دافعتا عنْ حقِّ المرأةِ في قيادةِ السَّيَّارَاتِ ذاتِهَا، قبلَ كلِّ شيءٍ)، وعلى الرَّغْمِ من قَمْعِهِ الجَوْرِيِّ كذلك لكلِّ مَسَاعي المثقفاتِ المُعَارِضَاتِ في المُطالبةِ بشيءٍ من الحُرِّيَّةِ والعَدَالةِ الاجتماعيةِ، من مثلِ: نهى البلوي وإسراء الغمغام (وهُمَا أيضًا تانك الناشطتانِ اللتانِ كانتا تعملانِ جَادَّتَيْنِ في مَجَالِ حُقُوقِ الإنسانِ تحديدًا، حتى أنَّ أزلامَ آلِ السَّعَادِينِ أنفسِهِمْ يناشدونَ «القَضَاءَ الملكيَّ» الآنَ بإعدامِ هذهِ الناشطةِ الأخيرةِ بعدَ اعتقالِهَا منذُ حَوَالَيْ ثلاثةِ أعوامٍ وبدونِ أيَّتِمَا مُحَاكمةٍ). ومن هُنا أيضًا، من تَسَافُدِ أطرافِ ذاك الثَّالُوثِ المُدَنَّسِ و«المُجَنَّسِ» والمُنَجَّسِ، من ذاك الجَانبِ الأوَّلِ، ومن تَسَافُحِ طَرَفَيْ ذلك الثَّانُوءِ الدَّنَسِيِّ و«الجَنَسِيِّ» والنَّجَسِيِّ، من ذلك الجَانبِ الثَّاني، يجيءُ الرَّسْمُ البَيَانيُّ الآخَرُ للصُّورةِ «الكاريزماتيةِ» و«الشَّعْبَوِيَّةِ» التي ابْتَدَعَهَا طاغيةُ آلِ السَّعَادِينِ، محمد بن سلمان، بدورِهِ هو الآخَرُ، لطاغيةِ آلِ النَّهَايِينِ، محمد بن زايد، أمامَ كلٍّ من العالَمَيْنِ العربيِّ والغربيِّ، على حدٍّ سِوًى، بالمَثَابةِ ذاتِها – ولَوْ أنَّ هذهِ الصُّورةَ «الكاريزماتيةَ» و«الشَّعْبَوِيَّةَ» المُبْتَدَعَةَ في العالَمِ الغربيِّ، على وجهِ التخصيصِ، جَاءتْ، في حقيقةِ الأمرِ، بإيعَازٍ أمريكيٍّ مباشرٍ، هذهِ المرَّةَ، وذلك لمُجَرَّدِ النظرِ إلى طاغيةِ آلِ النَّهَايِينِ عَيْنِ عَيْنِهِ بوَصْفِهِ «أفضلَ تَابِعٍ» يخدمُ المَصَالحَ الأمريكيةَ على الصَّعيدَيْنِ الاقتصَّاديِّ والعسكريِّ، على أقلِّ تقديرٍ.

فلا غَرْوَ، إذنْ، معَ ذلك التَّسَافُدِ الثَّالُوثِيِّ المُدَنَّسِ مَا بينَ آلِ الصَّهَايِينِ وآلِ النَّهَايِينِ وآلِ السَّعَادِينِ، ومعَ ما يَسْبِقُهُ من تَسَافُحٍ ثَانُوئِيٍّ دَنَسِيٍّ مَا بينَ آلِ «الطَّرَابِينِ» وآلِ «البَوَاطِينِ»، من حينٍ إلى حينٍ، لا غَرْوَ أنْ تصيرَ العبارةُ المَعْنِيَّةُ في وَصْفِ هؤلاءِ العُرْبَانِ، قدَّامَ أبْصَارِ بناتِ حوَّاءَ وقدَّامَ أنْظَارِ أبناءِ آدمَ أجمعينَ، لا غَرْوَ أنْ تصيرَ عبارةَ «العُرْبَانِ المُؤَمْرَكِينَ المُؤَسْرَلِينَ المُرَوَّسِينَ»، أو عبارةَ «العُرْبَانِ المُتَأَمْرِكِينَ المُتَأسْرِلِينَ المُتَرَوِّسِينَ»، حَسْبَمَا يقتضيهِ الحَالُ واللامَحَالُ، كمَا هي الحَالُ في سَابقتَيْهَا، كذلك. ولا غَرْوَ، لا غَرْوَى، فوقَ كلِّ ذلك، أن تكونَ الأحُبُولةُ الإستيراتيجيةُ على نَحْوٍ لا يقبلُ الجِدَالَ ولا يقبلُ السِّجَالَ هي ذاتُهَا، منذُ البدايةِ، ألا وهي: «التَّعَاضُدُ الأمْنِيُّ مِنْ أجْلِ مُحَارَبَةِ الإرْهَابِ المُتَمَثِّلِ في تنظيمِ «الإخْوَانِ المُسْلِمينَ» ومَنْ على شَاكِلَتِهِمْ»، تلك الأحُبُولةُ الإستيراتيجيةُ الوَضِيعةُ التي كانَ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أنفسِهِمْ، في «الجمهورياتِ» أو في «الاشتراكيَّاتِ»، وما انفكُّوا، يتذرَّعُونَ بِهَا بغيةَ الاسْتِوَاءِ على عُروشِ الحُكْمِ إلى يومِ يُبْعَثُونَ، من أمثالِ بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، كما تَمَّ ذِكْرُهُ آنفًا. باختصَارٍ شَديدٍ، ذلك التَّسَافُدُ الثَّالُوثِيُّ المُدَنَّسُ، تحتَ مِرْقَابِ ذلك التَّسَافُحٍ الثَّانُوئِيِّ الدَّنَسِيِّ ليلَ نَهَارٍ، إنَّمَا كانَ، ولم يزلْ، منذُ البدءِ، يعملُ دَائِبًا، وبكلِّ مَا أوتِيَ «مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الخَيْلِ» (حتى نكرِّرَ التعبيرَ القرآنيَّ ذاتَهُ، هَا هُنا)، على مُسَانَدَةِ الثَّوَرَانِ المُضَادِّ «الخَرِيفيِّ»، بأطولِ مَا يُمْكِنُ مِيعَادًا، في مَوَاطِنِهِ الأصليةِ، من طرفٍ، وعلى إخْمَادِ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ «الرَّبِيعِيِّ» بأسرعِ مَا يُمْكِنُ ميقاتًا، خوفًا من وصُولِهِ إلى عُقْرِ الدِّيَارِ في «الإماراتِ» و«المملكاتِ»، من طرفٍ آخَرَ. إنَّهُ ذلك العملُ الدَّؤوبُ من لَدُنْ آلِ النَّهَايِينِ (وبرِضْوَانٍ من آلِ السَّعَادِينِ أنفسِهِمْ) لَهُوَ الذي تمخَّضَ عنهُ شَنٌّ عنيفٌ لكلِّ أنواعِ الحملاتِ الإعلاميةِ والتسليحيةِ لكيمَا يُعَادَ الحُكْمُ الطغيانيُّ العسكريُّ في مصرَ، متمثِّلاً في الطاغيةِ العتيِّ المُصْطَنَعِ، عبد الفتاح السيسي، سفاحِ «ساحةِ رابعة» المعروفِ، وذلك بحُجَّةِ أنَّ لدى الرئيسِ المنتخَبِ انتخابًا ديمقراطيًّا، محمد مرسي، مَآربَ إلزامِ «الشَّريعةِ الإخْوَانِيَّةِ» في البلادِ. وإنَّهُ ذلك العملُ الدَّؤوبُ من لَدُنْ آلِ النَّهَايِينِ (وبرِضْوَانٍ من آلِ السَّعَادِينِ أنفسِهِمْ، كذلك) لَهُوَ الذي أسْفَرَ عنهُ سَعْيٌ حثيثٌ إلى انتقاضِ أيِّمَا شكلٍ من أشكالِ التجربةِ الديمقراطيةِ في تونسَ، متمثِّلةً على الأخصِّ في حركةِ «النهضةِ» (أو حركةِ «الاتجاهِ الإسلاميِّ»، سَابقًا)، وذلك بحُجَّةِ أنَّ لهذهِ الحركةِ المنتخَبَةِ انتخابًا ديمقراطيًّا، كذلك، مَرَاميَ إجبارِ «الشَّريعةِ الإخْوَانِيَّةِ» في البلادِ، بذاتِ المَثَابةِ – هذا إنْ لمْ نُورِدْ بشيءٍ من الإسْهَابِ عن تآمُرِ آلِ النَّهَايِينِ وآلِ السَّعَادِينِ تآمرًا مخابراتيًّا (محليَّا، وبمعيَّةِ جهازِ مخابراتِ الآلِ الأوائلِ) على مزاولةِ الاضطهادِ اللاإنسانيِّ بحقِّ كلِّ مَنْ ينتمي إلى حركةِ «الإصلاحِ» الإماراتيةِ ذاتِ «التطلُّعَاتِ الإخْوَنْجِيَّةِ» مَأْرَبًا – وهذا إنْ لمْ نذكرْ بشيءٍ من الإطْنَابِ، أيضًا، عن تواطؤِ آلِ النَّهَايِينِ وآلِ الصَّهَايِينِ تواطؤًا مخابراتيًّا (لامحليَّا، وبمعيَّةِ جهازِ مخابراتِ الآلِ الأواخرِ، «موساد»، هذهِ المرَّةَ) على ممارسةِ الاغتيالِ مادونَ-الحَيَوَانِيِّ، في فندقٍ إماراتي، بحقِّ الناشطِ القياديِّ «الحَمْسَاويِّ»، محمود المبحوح، ذي «التوجُّهَاتِ الإخْوَنْجِيَّةِ» مَأْرَبًا، كذلك، إلى آخرِهِ، إلى آخرِهِ.

وفي الأخيرِ، هَا هُنا، ولكي نوردَ ذلك المِنْوَالَ الحَزِينَ والمُحْزِنَ الذي يُعيدُ «الذكرى» إلى وَرَاءِ الوَرَاءِ في التاريخِ القديمِ الأشَدِّ حُزْنًا والأشَدِّ إحْزَانًا، كانَ العربُ يقتلونَ بعضَهُمْ بعضًا حينما كانوا يَحْيَوْنَ حَيَاةَ التهدُّمِ والبَدَاوَةِ، أوْ حينما كانوا من قبلُ «كَأُمَّةٍ وَحْشِيَّةٍ، أَهْلَ نَهْبٍ وَأَهْلَ عَبَثٍ»، على حدِّ تعبيرِ العلاَّمَةِ الفذِّ ابنِ خلدونٍ. وفي الأخيرِ، هَا هُنا أيضًا، ولكي نوردَ ذلك المِنْوَالَ الألِيمَ والمُؤْلِمَ الذي يستعيدُ «الذكرى» ذاتَهَا إلى أمَامِ الأمَامِ في التاريخِ الحديثِ الأشَدِّ ألَمًا والأشَدِّ إيلامًا، صَارَ العربُ (المتمثِّلونَ في أولئك «العُرْبَانِ» المعنيِّينَ الذين لا يختلفونَ، سُلوكًا ولا تفكيرًا، عن أَكَلَةِ اللَّحْمِ الآدميِّ Cannibals، في بَاطِنِ الأمرِ)، صَارُوا يقتلونَ بعضَهُمْ بعضًا حتى عندما صَارُوا يَحْيَوْنَ حَيَاةَ «التقدُّمِ» و«الحَضَارةِ»، لا بلْ صَارُوا معَ هذهِ الحياةِ يقتلونَ بعضَهُمْ بعضًا قتلاً عُصَابيًّا وقتلاً ذُهَانيًّا لمْ يسبقْ لأيٍّ منهمَا مثيلٌ، وذلك لأنَّهُمْ صَارُوا من بعدُ «كَأُمَّةٍ أكثرَ وَحْشِيَّةً، أَهْلَ كُلِّ النَّهْبِ وَأَهْلَ كُلِّ العَبَثِ»، استئناسًا بتعبيرِ ابنِ خلدونٍ ذاتِهِ، أو بصُورةٍ أرْقى بَيَانًا وبَلاغةً وفَصَاحةً، حتى، لأنَّهُمْ صَارُوا من بعدُ «كَأُمَّةٍ أكثرَ وَحْشِيَّةً بِكَثِيرٍ، أَهْلَ كلِّ الهَرْجِ وَأَهْلَ كُلِّ الكَذِبِ وأَهْلَ كُلِّ القَتْلِ»، استئناسًا بتعبير الرَّسُولِ محمدٍ ذاتِهِ، التعبيرِ الذي تمَّ اختيارُهُ، عن عَمْدٍ وعن قَصْدٍ، كعبارةٍ تصديريَّةٍ لهذا المقالِ.

(3)

إنَّ مَا حَثَّني على كتابةِ هذا القسمِ الثالثِ (والإضافيِّ)، في المَقامِ الأوَّلِ، هو مَا جَاءَ من الأخواتِ والإخوةِ القرَّاءِ من تعليقاتٍ لهَا مدلولاتُهَا الوَزِينَةُ في سيَاقِ ما يحصُلُ الآنَ، في كلِّ يومٍ. كما قلتُ في القسمِ الثاني من هذا المقالِ، في «مَعْمَعَانِ» الطورِ المَذْمُومِ والمَسْمُومِ، طورِ الثَّوَرَانِ المُضَادِّ المَحْتُومِ والمَحْسُومِ الذي تمرُّ بِهِ سَيْرورةُ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ في أنحاءٍ مختلفةٍ من هذا العالمِ العربيِّ الشَّجِيِّ، ثَمَّةَ، على الأقلِّ، عاملانِ قَمْعِيَّانِ «كَمِّيَّانِ» مكمِّلانِ لبعضِهِمَا البعضِ، أولهُمَا داخليٌّ مباشرٌ وثانيهمَا خارجيٌّ لامباشرٌ، ذانك العاملانِ القَمْعِيَّانِ اللذانِ يعملانِ على إدَامَةِ هذا الطورِ، وعلى دَيْمُومَةِ مُنْتَهَاهُ، بأيَّتِمَا ذريعةٍ سياسيةٍ براغماتيةٍ كانتْ، حتى لو كانتْ ذريعةً لاأخلاقيةً في الصَّميمِ، وحتى لو كانتْ ذريعةً لاإنسانيةً، لا بَلْ مَا دُونَ-حَيَوانِيَّةً، في صَميمِ الصَّميمِ: يتمثَّلُ العاملُ القَمْعِيُّ الأوَّلُ، من طرفٍ، في حقيقةِ ذلك التنفيذِ العسكريِّ و«السَّمْكريِّ» المَرْئيِّ الذي كانَ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، في «الجمهوريَّاتِ» أو في «الاشتراكيَّاتِ»، وما انفكُّوا، يتولَّوْنَ القيامَ بِهِ على أكملِ وَجْهٍ، في الجَهَارِ، من أمثالِ بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي، كما ذُكِرَ. ويتمثَّلُ العاملُ القَمْعِيُّ الثاني، من طرفٍ آخَرَ، في حقيقةِ ذلك التنفيذِ الاقتصاديِّ و«العتاديِّ» اللَّامَرْئِيِّ الذي باتَ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ (أو، بالقمينِ، ممثِّليهِمْ من أولئك «الانفتاحِيِّينَ» و«الحَداثوِيِّينَ» الجُدُدِ)، في «الإماراتِ» أوْ في «المملكاتِ»، وما فَتِئُوا، يتولَّوْنَ القيامَ بِهِ على قَدَمٍ وسَاقٍ، ولكنْ في الخفاءِ، من أمثالِ محمد بن زايد ومحمد بن سلمان، كما ذُكِرَ أيضًا. كلُّ هذا «القيامِ على القَدَمِ والسَّاقِ» إنْ هو، في جوهرِ الأمرِ، إلاَّ تخوُّفٌ دفينٌ من وُصُولِ المَدِّ الثوريِّ إلى عُقر الديارِ، في «الإماراتِ» أو في «المملكاتِ»، وَاعِدًا بالحُرِّيَّةِ والعدالةِ الاجتماعيةِ، بوصفِهِمَا ألَدَّ عدوَّتَيْنِ جاثمتَيْنِ لهذَيْنِ الطاغيتَيْنِ «الانفتاحِيَّيْنِ» و«الحَداثوِيَّيْنِ»، دونَ غيرِهِمَا. ناهيكُمَا، بالطبعِ، عن أنَّ هذا «القيامَ على القَدَمِ والسَّاقِ» لا يتمُّ أيَّ تمامٍ إلاَّ من خلالِ أوامِرَ مدروسَةٍ تأتيهمَا من لفيفِ أسيَادِهِمَا في أمريكا وإسرائيلَ، على وجهٍ التحديدِ، أوامِرَ مدروسَةٍ تأتيهِمَا إتْيَانًا آنًا بعدَ آنٍ، وعلى شَاكلةِ «التَّحَكُّمِ عنْ بُعدٍ» Remote Control تِبْعًا لظروفِ الزَّمَانِ والمَكَانِ. وناهيكُمَا، كذلك، عن ذلك التَّحَابُبِ «الفُجَائيِّ» بينَ عُرْبَانِ النَّفْطِ في «الإماراتِ» وبينَ رُوسِ العَفْطِ في «الاتحاداتِ»، على وجهٍ أكثرَ تحديدًا، ذلك التَّحَابُبِ العَجَائبيِّ والغَرَائبيِّ الذي أسْفَرَ عنهُ إتْمَامُ التَّصَافُقِ الليليِّ والنهاريِّ مَا بينَ الشركةِ الإماراتيةِ الشهيرةِ «مبادلة البترول» والشركةِ الروسيةِ الأشهرِ «غازبروم» Газпром، وذلك سَعْيًا سَعْيًا حثيثًا إلى تطويرِ عددٍ من حُقولِ النَّفْطِ والعَفْطِ في الجانبِ الغربيِّ من «سيبيريا» Siberia، وعلى مَقْرَبَةٍ من سُفُوحِ تلك الجِبَالِ التي تَسَمَّتْ، عَصْرَئِذٍ، بالـ«أورالِ» Ural باسْمِ ذلك البطلِ الأسطوريِّ المُتَحَزِّمِ شَامِخًا بـ«حِزَامٍ نَضَيدٍ بالحَصَيَاتِ والصُّخُورِ» – تمامًا مثلمَا يتحزَّمُ عُرْبَانِ النَّفْطِ هؤلاءِ شَامِخِينَ بـ«أحْزِمَةٍ نَضِيدَةٍ بالفَشَكَاتِ والخَرَاطِيشِ»!

ثَمَّةَ، إذنْ، أكثرُ مِنْ سَنَتَيْ «عَسَلٍ» مَا انْفَكَّتَا تلتهبَانِ تَشَاغُفًا وتَعَاشُقًا بينَ أطرافِ ذلك الثالوثِ المُدَنَّسِ، آلِ الصَّهَايِينِ وآلِ النَّهَايِينِ وآلِ السَّعَادِينِ، في السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ. لكنَّ اشتدادَ أوَارِ هذا الالتهابِ، في إبَّانِ هٰتَيْنِ السَّنتَيْنِ ومَا خَلَتْ قبلَهُمَا من سَنَوَاتِ الاِرْتِهَازِ واللااِرْتِهَازِ، لا ينشَأُ نُشُوءًا ذَاتِيًّا لاإراديًّا هكذا كيفما اتَّفقَ، بلْ ينشَأُ نُشُوءًا آخَرِيًّا إراديًّا يَرْقُبُ رَسْمَهُ البَيَانيَّ Diagram مِرْقَابٌ مِقْرَابٌ رُقُوبَ الدَّيْدَبَانِ «الأمينِ»، ومنْ لَدُنْ طَرَفَيْ ثَانُوءٍ دَنَسِيٍّ آخَرَ، أوَّلُهُمَا أمريكيٌّ «ترامْبيٌّ» جَليٌّ في أكثرِ الأحَايينِ، وثانيهُمَا روسيٌّ «بوتينيٌّ» جَليٌّ أوْ خَفِيٌّ حَسْبَمَا يقتضيهِ دورُهُ المَكِينُ. من هُنا، يجيءُ الرَّسْمُ البَيَانيُّ للصُّورةِ «الليبراليةِ» و«التقدُّميةِ» التي افتراها طاغيةُ آلِ النَّهَايِينِ، محمد بن زايد، لطاغيةِ آلِ السَّعَادِينِ، محمد بن سلمان، أمامَ العالَمِ العربيِّ. فمَا إنْ بانتْ إرهاصَاتُ هذهِ الصُّورةِ المُفْتَرَاةِ حتى شَرَعَ الطاغيةُ الأخيرُ في تعزيزِهَا أمامَ العالَمِ الغربيِّ، من خلالِ إصْدارِ بَعْضٍ من المَرَاسيمِ «التحرُّريةِ» للنساءِ خاصَّةً، رغمَ قَمْعِهِ الجَوْرِيِّ لأغلبيَّةِ الناشطاتِ والمثقفاتِ قَمْعًا آلَ بِهِنَّ في سُجُونِ آلِ السَّعَادِينِ مَا بينَ أحكامِ التأبيدِ والتنكيلِ وحتى الإعدامِ. ومن هُنا أيضًا، يجيءُ الرَّسْمُ البَيَانيُّ الآخَرُ للصُّورةِ «الكاريزماتيةِ» و«الشَّعْبَوِيَّةِ» التي اكْتَرَاهَا طاغيةُ آلِ السَّعَادِينِ، محمد بن سلمان، بدورِهِ هو الآخَرُ، لطاغيةِ آلِ النَّهَايِينِ، محمد بن زايد، أمامَ العالَمَيْنِ العربيِّ والغربيِّ، تباعًا – ولَوْ أنَّ هذهِ الصُّورةَ المُكْتَرَاةَ جاءتْ، في الأساسِ، بإيعَازٍ أمريكيٍّ مباشرٍ لمُجَرَّدِ النظرِ إلى طاغيةِ آلِ النَّهَايِينِ عَيْنِهِ كـ«أفضلِ خادمٍ وفيٍّ» للمَصَالحِ الأمريكيةِ اقتصَّاديًّا وعسكريًّا، على الأقلِّ. فلا غَرْوَ، إذنْ، أن تكونَ الأحُبُولةُ الإستيراتيجيةُ هي ذاتُهَا، منذُ البدءِ: «التَّعَاضُدُ الأمْنِيُّ مِنْ أجْلِ مُحَارَبَةِ الإرْهَابِ المُتَمَثِّلِ في تنظيمِ «الإخْوَانِ المُسْلِمينَ» وأمثالهِ»، تلك الأحُبُولةُ الوَضِيعةُ التي لمْ يَبْرحْ فَلُّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ، في «الجمهورياتِ» أو في «الاشتراكيَّاتِ»، يتذرَّعُونَ بِهَا بغيةَ الاسْتِوَاءِ الأبديِّ على عُروشِ الحُكْمِ، من أمثالِ بشار الأسد وعبد الفتاح السيسي. وهكذا، فإنَّ ذلك التَّسَافُدَ الثَّالُوثِيَّ المُدَنَّسَ، تحتَ مِرْقَابٍ دائمٍ من ذلك التَّسَافُحٍ الثَّانُوئِيِّ الدَّنَسِيِّ، إنَّمَا كانَ، ولمْ يزلْ، يعملُ دَائِبًا على مُسَانَدَةِ الثَّوَرَانِ المُضَادِّ «الخَرِيفيِّ» أطولَ مَا يُمْكِنُ زمانًا في مَوَاطِنِهِ الأصليةِ، من جانبٍ، وعلى إخْمَادِ الثَّوَرَانِ الشعبيِّ «الرَّبِيعِيِّ» أقصرَ مَا يُمْكِنُ أوانًا لكيلا يمتدَّ إلى عُقْرِ الدِّيَارِ في «الإماراتِ» و«المملكاتِ»، من جانبٍ آخَرَ. إنَّهُ ذلك العملُ الدَّؤوبُ من لَدُنْ آلِ النَّهَايِينِ (ومن ورائهِمْ آلُ السَّعَادِينِ أنفسُهُمْ) لَهُوَ الذي تمخَّضَ عنهُ شَنٌّ عنيفٌ لكلِّ أنواعِ الحملاتِ الإعلاميةِ والتسليحيةِ كيْ يُعَادَ الحُكْمُ الطغيانيُّ العسكريُّ في مصرَ، متمثِّلاً في الطاغيةِ العتيِّ المُصْطَنَعِ، عبد الفتاح السيسي، وذلك بحُجَّةِ أنَّ لدى الرئيسِ المنتخَبِ انتخابًا ديمقراطيًّا، محمد مرسي، «مَآربَ إخْوَانِيَّةً» في البلادِ. وإنَّهُ ذلك العملُ الدَّؤوبُ من لَدُنْ آلِ النَّهَايِينِ (ومن ورائهِمْ آلُ السَّعَادِينِ أنفسُهُمْ) لَهُوَ الذي أسْفَرَ عنهُ سَعْيٌ حثيثٌ إلى انتقاضِ أيِّمَا شكلٍ من أشكالِ التجربةِ الديمقراطيةِ في تونسَ، متمثِّلةً على الأخصِّ في حركةِ «النهضةِ»، وذلك بحُجَّةِ أنَّ لهذهِ الحركةِ المنتخَبَةِ انتخابًا ديمقراطيًّا، كذلك، «مَرَاميَ إخْوَانِيَّةً» في البلادِ، بذاتِ المَثَابةِ – هذا إنْ لمْ نُورِدْ شيئًا عن تآمُرِ آلِ النَّهَايِينِ وآلِ السَّعَادِينِ تآمرًا مخابراتيًّا (سِرِّيًّا) على مزاولةِ الاضطهادِ اللاإنسانيِّ بحقِّ كلِّ ناشطٍ قياديٍّ «إصلاحِيٍّ» (نسبةً إلى حركةِ «الإصلاحِ» الإماراتيةِ) ذي «تطلُّعَاتٍ إخْوَنْجِيَّةٍ» مَأْرَبًا – وهذا إنْ لمْ نذكرْ شيئًا آخَرَ عن تواطؤِ آلِ النَّهَايِينِ وآلِ الصَّهَايِينِ تواطؤًا مخابراتيًّا (أشدَّ سِرِّيَّةً) على ممارسةِ الاغتيالِ مادونَ-الحَيَوَانِيِّ بحقِّ كلِّ ناشطٍ قياديٍّ «حَمْسَاويٍّ» (نسبةً إلى حركةِ «حماس» الفلسطينيةِ) ذي «توجُّهَاتٍ إخْوَنْجِيَّةٍ» مَأْرَبًا، كذلك، إلى آخرِهِ، إلى آخرِهِ.

وقدِ انحطَّتْ مُمَارَسَةُ الاغتيالِ مادونَ-الحَيَوَانِيِّ هذهِ إلى أحَطِّ دَرَكَةٍ من دَرَكَاتِ التوحُّشِ والتغوُّلِ في حَدَثِ الاغتيالِ «القَنْبَليِّ» Cannibalistic المُريعِ للكاتبِ الصِّحَافيِّ السُّعُوديِّ (شبهِ المُعَارضِ)، جمال خاشقجي، الحَدَثِ الواقعِ في اليوم الثاني من شهرِ تشرين الأول الفائتِ، وعلى أيدي فريقٍ مؤلَّفٍ من خمسةَ عشرَ رجلَ أمْنٍ سُعُوديًّا من أخَسِّ وأخْسَأِ ما يُمْكِنُ أنْ يتصوَّرَهُ العقلُ البشريُّ من جنسِ «البَشَرِ» في الوُلُوغِ والتَّوَلُّغِ الاحترافيَّيْنِ في دِمَاءِ الجَريمةِ. رِجَالُ أمْنٍ سُعُوديُّونَ نَصَبُوا للكاتبِ الصِّحَافيِّ السُّعُوديِّ، قُبَيْلَ يومِ ميلادِهِ الستِّينَ، كَمِينًا في مبنى قنصليَّةِ بلادِهِمْ في مدينةِ إسطنبولَ التي استدرجُوهُ واستجلبُوهُ بحيلةٍ زَنِيمَةٍ ذَمِيمَةٍ إليها من حيثُ يقيمُ في أمريكا، وذلك لأنَّهُمْ، بِجَبَانَتِهِمْ وخَرَاعَتِهِم، مَا كانوا قدِ استطاعوا أن يغتالُوهُ ذلك الاغتيالَ «القَنْبَليَّ» المُريعَ في مبنى سِفَارَةِ بلادِهِمْ في مدينةِ واشنطن، ولا حتى أن يستدرجُوهُ وأن يستجلبُوهُ بأيَّةِ حيلةٍ زَنِيمَةٍ ذَمِيمَةٍ أخرى إلى أنيابِ عصابةِ آلِ السَّعَادِينِ أنفسِهِمْ في البلاد. رِجَالُ أمْنٍ سُعُوديُّونَ نَصَبُوا للكاتبِ الصِّحَافيِّ السُّعُوديِّ كَمِينًا لكَيْمَا يُصَفُّوهُ تصفيَةً لمْ تَعُدْ خافيةً على أحَدٍ من أيَّةٍ من جهاتِ الأرضِ الأربعِ، في هذا الآنِ وهذا الأوانِ، من حيثُ همجيَّتُها وحُوشِيَّتُها، لا بلْ من حيثُ «قَنْبَليَّتُها» ومادونَ-حَيَوَانِيَّتُها، في شتى أنواعِ التذليلِ والتعذيبِ والتزهيقِ والتقطيعِ والتذويبِ، إلى آخرِهِ، إلى آخرِهِ. وأيَّةً كانتْ تداعياتُ هذهِ الجريمةِ الشنعاءِ، في المشهدَيْنِ العربيِّ والغربيِّ الرَّاهنَيْنِ، فإنَّهُ لَمِنَ العسيرِ جدًّا، إنْ لمْ يَكُنْ مِنَ المستحيلِ، أنْ يُصَارَ إلى الفَصْلِ المُتَعَمَّدِ بينَ الصَّعيدَيْنِ السياسيِّ والاقتصاديِّ المترتِّبَيْنِ على تلك التداعياتِ. حتى أنَّ طاغيةَ آلِ السَّعَادِينِ، محمد بن سلمان، حينما لمَّحَ إلى قوَّةِ قطر الاقتصاديةِ في مَعْرِضِ الإجابةِ عن السُّؤَالِ عن هُوِيَّةِ الآمرِ الفعليِّ بتنفيذِ تلك الجريمةِ النكراءِ (في أثناءِ مؤتمرِ «الصحراءِ» الذي جُرِّدَ من صفتِهِ «الدافوسية» السويسريةِ عنوةً)، كانَ يُلَمِّحُ تلميحًا إلى إمكانيةِ استردادِ قطر من أحضانِ تركيا عَلَنًا، ويُلَمِّحُ من ثمَّ تلميحًا إلى إمكانيةِ استردادِهَا (أي قطر) من أحضانِ إيرانَ سِرًّا، وذلك من أجلِ التمهيدِ لتأسيسِ ما باتَ يُدْعى أخيرًا بـ«التحالف الإستيراتيجي الشرق-أوسطي»Middle East Strategic Alliance ، التحالفِ الذي يدعُوهُ عربانُ النفطِ المُتَأَمْرِكُونَ باختصارِهِ المعرَّبِ «ميسا» MESA، والذي أعلنَ عنهُ معتوهُ أمريكا، دونالد ترامب، بينَ دولِ الخليجِ والسُّعُوديةِ (وكذلك مصر والأردن) بمثابةِ، أو بالأحرى بذريعةِ، «إجراءٍ وقائيٍّ يحمي أبناءَ السُّنَّةِ من المَدِّ الشِّيعيِّ الفارسيِّ». وكانتْ لتطلُّعاتِ تركيا، على اعتبارِ القنصليةِ السُّعُوديةِ الكائنةِ في مدينتها إسطنبولَ مسرحَ ارتكابِ الجريمةِ المعنيةِ، وكانتْ لهَا مآربُهَا السياسيةُ والاقتصاديةُ هي الأخرى، وسواءً كانَتْ هناك مَسَاعٍ دبلوماسيةٌ أردنيةٌ، أو غيرُ أردنيةٍ، نحوَ تنسيقٍ ثنائيٍّ سُعُوديٍّ-تركيٍّ مَرَامُهُ الأساسيُّ تحويلُ ملفِّ الجريمةِ المعنيةِ من ملفٍّ سياسيٍّ محضٍ إلى ملفٍّ قضائيٍّ (جنائيٍّ)، أمْ لمْ تكنْ. وهكذا، فإن الخلافَ السياسيَّ الجوهريَّ في أعقابِ اغتيالِ الكاتبِ الصِّحافيِّ، جمال خاشقجي، لا يدورُ استثناءً حولَ ماهيَّاتِ أفرادٍ معيَّنينَ كهذا الكاتبِ الصِّحافيِّ في حدِّ ذاتِهِ، بلْ يدورُ كعادتِهِ «التاريخيةِ»، أو بالخَليقِ «اللاتاريخيةِ»، حولَ ماهيَّةِ التمثيلِ العِصَابَاتيِّ «المَافْيَوِيِّ» للمذهبِ السُّنيِّ (الأرثوذكسي) في منطقةِ الشرقِ الأوسطِ، تحديدًا: السُّعُوديةُ من طرفِ عصابةِ آلِ سعود (الأبديةِ) تدَّعي هذا التمثيلَ بوصفِهَا «ماهدةَ» الرسالةِ الإسلاميةِ الأولى، وتركيا من كَنَفِ عصابةِ آلِ أردوغان (اللاأبديةِ) تزعمُ هذا التمثيلَ عينَهُ بكونِهَا «كانفةَ» الخلافةِ العثمانيةِ الكبرى، ومصرُ من جانبِ عصابةِ آلِ السيسي (الأبديةِ-اللاأبديةِ) تعتزي هذا التمثيلَ عينَ عينِهِ باعتبارِهَا «ضَامَّةَ» الكثافةِ السُّكَّانيةِ الأكبرِ، من هذا الخُصُوصِ، وهلمَّ جرًّا. وبالتالي، فإن كلَّ تلك الحركاتِ الإسلاميةِ، أو شبهِ الإسلاميةِ، التي انضوتْ، بنحْوٍ أو بآخَرَ، تحتَ لواءِ تنظيمِ «الإخْوَانِ المُسْلِمينَ»، بما فيها هذا التنظيمُ نفسُهُ، إنَّما هي أجزاءٌ متجزِّئةٌ مِمَّا يُسَمَّى إجماعًا بـ«الإسلام السياسيِّ»، لا بالمثابةِ العكسيةِ مثلما يظنُّ عددٌ غيرُ قليلٍ من المحلِّلينَ، وإنَّ جُلَّ وسائلِ الإعلامِ العربيِّ الإسلاميِّ، وبالأخصِّ تلك الوسائلَ المملوكةَ من لدنْ أنظمةِ الطغيانِ المصطنَعةِ ذاتِهَا، إنَّما تحاولُ التركيزَ على شَيْطَنَةِ هذا التنظيمِ، تنظيمِ «الإخْوَانِ المُسْلِمينَ»، وأبْلَسَتِهِ، ليسَ إلاَّ – وها هو طاغيةُ آلِ السَّعَادِينِ، محمد بن سلمان، متمتِّعًا بكاملِ «قواهُ العقليةِ»، حينمَا صرَّحَ بتصريحٍ مبثوثٍ مؤخَّرًا، قالَ فيهِ: «إنَّ جمال خاشقجي هو إسلاميٌّ سياسيٌّ (إخوانيٌّ) خطيرٌ جدًّا»!

تلك، إذنْ، هي حَالُ الخلافِ السياسيِّ حولَ ماهيَّةِ التمثيلِ العِصَابَاتيِّ «المَافْيَوِيِّ» للمذهبِ السُّنيِّ (الأرثوذكسي)، تلك هي حالُهُ أينما حَلَّ وأينما نزلَ في التاريخِ العربيِّ الإسلاميِّ في الأغلبِ والأعمِّ، وعلى الأخصِّ إثْرَ نشوءِ الإسلامِ وإثْرَ نشوبِهِ كثورةٍ اجتماعيةٍ في مدينتَيْنِ صغيرتَيْنِ، مكةَ ويثربَ (قبلَ الهجرةِ)، أو المدينةِ (بعدَ الهجرةِ)، مدينتَيْنِ كانتا متَّكِئَتَيْنِ، بالحرفِ أو بالمَجَازِ، على حافَّةِ الإمبراطوريةِ الرُّومانيةِ، عَصْرَئِذٍ. فَمَا إنْ حقَّقتْ هذهِ الثورةُ الاجتماعيةُ غاياتِها الأوَّليَّةَ المَأمُولةَ والمَحْمُولةَ، في حقيقةِ الأمرِ، حتى تحوَّلَ هذا الإسلامُ من ثمَّ تحوُّلاً من دِينٍ كانَ لهُ أن يُحَاكيَ التبسيطَ والتواضُعَ في كلِّ تجلِّياتِهِما بـ«جِنْحٍ مَهِيضٍ» إلى دِينٍ صَارَ لهُ أن يُحَاكَ وأن يُمَاحَكَ بالتعقيدِ وبالتعاظُمِ في كلِّ أشكالِهِمَا بـ«مُلْكٍ عَضُوضٍ». حتى أنَّ هناك حديثًا نبويًّا جاءَ ذكرُهُ أكثرَ من مرَّةٍ في مواضعَ عدَّةٍ من كتبِ الحديثِ والتأريخِ في العصرِ الوسيطِ، فجاءتْ إعادةُ ذكرِهِ بعدَئذٍ في كتابِ «النهايةُ في غريبِ الأثر» للمؤرِّخِ الإسلاميِّ الشهيرِ ابن الأثير (1160-1233)، وذلك على شاكلةِ ما معناهُ حَسْبَ صيغتَيْهِ المُثْبَتَتَيْنِ، هَا هُنا: في روايةٍ أولى، «اَلْخِلاَفَةُ [مِنْ] بَعْدِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكٌ عَضُوضٌ»؛ وفي روايةٍ ثانيةٍ، «اَلْخِلاَفَةُ فِي أُمَّتِي ثَلاَثُونَ سَنَةً، وسَتَرَوْنَ [مِنْ] بَعْدِي مُلْكًا عَضُوضًا» (أي: مُلْكٌ/مُلْكًا يُصِيبُ الرَّعِيَّةَ فِيهِ عَسْفٌ واعْتِسَافٌ وظُلْمٌ، وكَأنَّهُمْ يُعَضُّونَ فيهِ على النَّوَاجِذِ عَضًّا، وبنيةُ الـ«عَضُوضُ» هي مِنْ أبْنِيَةِ المُبَالَغَةِ في علمِ الصَّرْفِ). وهكذا، وبعدَ هذهِ الثلاثينَ سنةً، أو يزيدُ، مرَّتْ حالاتُ التاريخِ العربيِّ الإسلاميِّ بحالاتٍ من هذا العَسْفِ وهذا الاعْتِسَافِ وهذا الظُلْمِ على مدى أكثرَ من أربعةَ عشرَ قرنًا من الزمَانِ، إلى أن بزغَتْ فجأةً من عالَمِ الظلامِ، على سبيلِ التمثيلِ لا التحصيرِ، «إشراقةٌ» من «إشراقاتِ» الخطابِ الأخيرِ لطاغيةِ آلِ السَّعَادِينِ الأبِ، سلمان بن العزيز (هذهِ المرَّةَ). وبغضِّ الطَّرْفِ عن تلكِ الحَالةِ المِسْقَامِ التي يُرْثَى لهَا أيَّمَا رِثَاءٍ في قراءَةِ هذا الخطابِ الأخيرِ، من لدُنْ طاغيةِ آلِ السَّعَادِينِ الأبِ ذاتِهِ، فقد جَاءَ فيهِ، من جملةِ مَا جَاءَ فيهِ، بعدَ كلِّ تلك الأكاذيبِ التي تَخرَّصَتْ بها عصابةُ آلِ سعود (الأبديةُ) حولَ الآمرِ الحقيقيِّ بمقتلِ الكاتبِ الصِّحافيِّ، جمال خاشقجي، والتي لم تَكُنْ لِتنطليَ حتى على السُّذَّجِ من الأنَامِ الأشدِّ غباءً من ذٰلِكَ ٱلْغَبَاءِ ٱلْقَهْرِيِّ ٱلْتَّكْرَارِيِّ المَوْسُومِ بهِ أيٌّ من فَلِّ الطُّغاةِ العُتَاةِ المُصْطَنَعِينَ أنفسِهِمْ، جَاءَ في هذا الخطابِ الأخيرِ بحرفيَّتِهِ ما يلي: «إنَّ المملكةَ [العربيةَ السُّعُوديةَ] قدْ تأسَّسَتْ على نَهْجٍ إسلاميٍّ يرتكزُ على إرساءِ العَدْلِ»!

ومَنْ منَّا الآنَ، في هذا الزمانِ العصيبِ، تخفى عليهِ هذهِ الخَافيةُ الحَافيةُ؟ – مَنْ منَّا تخفى عليهِ خَافيةُ أنَّ هذهِ المملكةَ [العربيةَ السُّعُوديةَ]، في حدِّ ذاتِهَا، قدْ تأسَّسَتْ على نَهْجٍ وَهَّابيٍّ أبويٍّ ذُكوريٍّ وراثيٍّ مُتَوَارَثٍ لا يخدمُ إلاَّ في تأبيدِ وفي تأزيلِ عصابةِ آلِ سعود الإجراميةِ في الحُكْمِ إلى يومِ يُبْعَثُونَ؟ والأنكى من ذلك كلِّهِ، أنَّ أزلامَ هذهِ العصابةِ الإجراميةِ، أيًّا كانوا منذُ عهدِ مؤسِّسِهَا الأولِ، محمد بن سعود (1744-1818)، إنَّما يعلمونَ علمَ اليقينِ بأنَّ الرسولَ الكريمَ نفسَهُ كانَ قد رفضَ هذا الحكمَ الوراثيَّ المُتَوَارَثَ رفضًا قاطعًا منذُ بداياتِ مَا بَثَّ من الرسَالةِ الإسلاميةِ بَثًّ الهُنْوِ والهَنِيَّةِ إلى أن وافتهُ عَيْنُ المَنِيَّةِ – فلا السُّنَّةُ (الأرثوذكسُ) في قائمِ حالِهَا من شيءٍ من هذهِ الرسَالةِ، ولا الشِّيعَةُ (اللاأرثوذكسُ) في قائمِ حالِهَا من شيءٍ من هذهِ الرسَالةِ، أيضًا. وهنا تكمنُ إنسانيةُ الرسولِ الكريمِ اللافتةُ للانتباهِ وللنظرِ، وهنا يكمنُ تمهيدُهُ الاستثنائيُّ الفريدُ لأولِ نظامٍ إنسانيٍّ اشتراكيٍّ حقيقيٍّ في التاريخِ البشريِّ برمَّتهِ، حتى قبلَ مَا جَاءَ بهِ كارل ماركس، ومَا أدراك مَا جاءَ بهِ كارل ماركس، بقرونٍ وقرونٍ. غيرَ أنَّ الطَّامَّةَ الكبرى ومهزلةَ المهازلِ، هَا هُنا، إنَّما تكمنانِ، أولاً، في ذينك الجَشَعِ اللاإنسانيِّ والطَّمَعِ اللاأخلاقيِّ اللذينِ يستحوذانِ أيَّمَا استحواذٍ على ذهنيَّاتِ أزلامِ هذهِ العصابةِ الإجراميةِ في تَسَلُّمِ مَقاليدِ الحُكْمِ إلى حدِّ الذُّهانِ السَّريريِّ المُزْمِنِ؛ وتكمنانِ، ثانيًا، في لُهَاثِ أزلامِ هذهِ العصابةِ الإجراميةِ المستديمِ وراءَ ديمومةِ هذا الحُكْمِ لُهَاثًا أكثرَ ديمومةً حتى من لُهَاثِ الكلابِ؛ وتكمنانِ، ثالثًا، والأهمُّ من ذلك كلِّهِ، في تدميرِ أزلامِ هذهِ العصابةِ الإجراميةِ بالتالي لتلك الفكرةِ الإنسانيةِ الاشتراكيةِ العظيمةِ التي كانَ الرسولُ الكريمُ قد أشرقَ بإشراقاتِها الأولى منذ بزوغِ الإشراقاتِ الأوليَاتِ من فجرِ الإسلامِ. ولا يتفوَّقُ على أزلامِ هذهِ العصابةِ الإجراميةِ في هذا التدميرِ «التاريخيِّ»، أو بالحَرِيِّ هذا التدميرِ «اللاتاريخيِّ»، المتعمَّدِ لتلك الفكرةِ الإنسانيةِ سوى أزلامِ عصابةِ آلِ الأسد الأشدِّ إجرامًا، في واقع الأمرِ. كلُّ هذا التدميرِ «التاريخيِّ»، أو التدميرِ «اللاتاريخيِّ»، بعينِ عينهِ إنَّمَا يدلُّ دونَمَا أيِّ شكٍّ على أنَّ أزلامَ هذهِ العصاباتِ الإجراميةِ كلِّها ليسَ لهمْ سوى أن يخدموا، بكلِّ ذلٍّ وبكلِّ هَوَانٍ، في تحقيقِ مَآربِ الصهيونيةِ العالميةِ وآرَابِهَا حتى قبلَ أنْ يكونَ لهُمْ، في الأسَاسِ، أن يخدموا في تحقيقِ مَآمِلِ الإمبرياليةِ الغربيةِ وآمَالِهَا، كذلك!

*** *** ***

لندن، دبلن، بلفاست،
29 آب (أغسطس) 2018 – 19 شباط (فبراير) 2019

/ عن الحوار المتمدن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى