د. سامي عبد العال - إدارةُ الرَّعَاع

ظهرت صناعة الرعاع ( السوقة والغوغاء) في جسد الثقافة لدى العرب مبكراً ومن ثمَّ عبر تراث المجتمعات العربية. إذ شكلوا ظاهرةً عصيةً على التفسير لأول وهلةٍ، لأنَّهم بمثابة الوجه الضروري لغلبة نمط السلطة واستبدادها. و لن تُدرك أية سلطة أحوالَّهم ولن تضعهم بين قوسين ما لم تُدرك أولاً ماذا تفعل هي، بل كانت السلطة ستحتاج إلى تعريف ماهيتها وماذا هي بالضبط. ونحن ندرك أنَّ كل تعريف هو نوعٌ من التحديد، وأي تحديد سلب على طريقة هيجل، وهذا قد يخدش صورة السلطة ورموزها في مرآة الحياة العامة.

ونظراً لكون السلطةَ في الذهنية العربية(لا تريد) إدراك ماذا تفعل، فلن تستطيع بالتبعية معرفة ماذا تترك من آثار. هذا مسارها- القديم والحديث- لدينا كعربة طائشة crazy car(بدون كوابح ) لا تلتفت إلى الوراء، ولا تعي ماذا قطعت، ولا ماذا فعلت من حيث المبدأ. السلطة حجابُ يصعب الرؤية من خلاله ولا من ورائه، كأنَّها كتلة صماء بلا معالم إلا من تخويف، فقط تتحدث إلينا دون أنْ تسمع أي رد فعل. كلُّ سلطةٍ من هذا القبيل هي التاريخ المسكُوت عنه، والذي يتم فيه فرزُ الناس تبعاً لتصنيفات اجتماعية يُعاد استعمالها في العلن. وتبلغ درجة التكتم على أسباب ذلك الوضع حتى يُصدق الناسُ أنَّهم هم السبب ليسوا إلاَّ.

الرَّعاع قد صُنعوا ثقافياً واجتماعياً وتحولوا إلى ما هم عليه( المهمشون- الفقراء – العامة- بسطاء الحال)، فلنحاول إذن معرفة طريقةِ إدارتهم، وهي المرحلة اللاحقة على المرحلة الأولى منطقياً. وربما تعد أهم منها... لأنَّ هذا الكم المُهمل من البشر يحتاج إدارة سياسية لكيانهم( حيث لا يملكون غيره) في خريطة الحياة اليومية. من تلك الجهة يمثل الرعاع اكتشافاً بنيوياً structural discovery بمعنى الكلمة، وعلامةً بوجود خلل تاريخي في المجتمعات العربية القائمة على تباين أحوال العيش. وضعهم مثل الصديد الذي يوجد تحت الجلد وبين الأنسجة والعضلات ويحذّر الأطباء منه مخافة أن ينتشر ويلامس العظام!!

بكلمات أوضح: يُعتبرون- أي الرعاع- ترْساً عضوياً في عجلة المجتمع وأدواته التي تتجاوز جميع المجالات. فقد يعدهم الساسة وسيلةً لتحقيق المآرب( بعض الشعوب)، وربما يعتبرهم سواهم بيئة خصبة لنشر الفوضي، بينما يُشعل آخرون -بخلاف هؤلاء وأولئك- الغرائز والمتطلبات البسيطة لهم تحت بند الفنون الهابطة(الجماهير عاوزه كده). وبالتأكيد يبدو ذلك مُهما إذا تساءلنا عن أنظمة المجتمعات العربية من زاوية الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة وتداول السلطة والتنمية الحضارية.

القضية إذن: كيف جرى التحكم في الرعاع سياسياً في تاريخ العرب المعاصر؟ هل أفسحت لهم الأنظمة الحاكمة مجالاً؟ ماذا عن هندسة حركتهم في الشارع؟ بالطبع الافتراض الرئيس هنا: أنَّه لم تترك السلطة هؤلاء وشأنهم كما لو كانوا بطريقة(لا مفر، الله غالب)، كأنَّ الموضوعَ قضاء وقدرٌ. لكنهم شكَّلُوا مورداً سياسياً ضخماً بالنسبة للأنظمة المتعاقبة(وسأشرح ذلك بالنسبة لنظام حسني مبارك). فنظراً لاستبداد الأنظمة المتواصل من عصرٍ إلى عصرٍ اعتبرتهم السلطة مخزوناً استراتيجياً لحكم المجتمع. ثم كانوا مثالاً لمجتمع مقلوب رأساً على عقب، يتلقى ضربات قوية باعلاه(تشتيت النخب واهدار الوعي) ثم يخضع هذا المجتمع للتكوينات المهمشة بأعماقه. فهؤلاء البسطاء كانوا عينة (شريحة slide) حقيقية لنتائج من سنوات القهر والتلاعب بمصائر الناس. وإذا لم يبق إلاَّ هؤلاء بأوضاعهم المُزرية لكانوا دليلاً على تاريخ التخلف بأصنافه الاجتماعية والسياسية.

وكلمة الإدارةُ المشار إليها بالعنوان هي نوع من الخطط التي تورطهم في عنف السلطة وجهلها (بالمعنى السابق). تُبقيهم مرحلياً في أرصدتها الحية لوقت اللزوم، حين تحتاج إليهم أثناء التحولات السياسية( العصا والجزرة والاستعمال). لأنَّهم يؤيدون أصحابَ الصولجان بحكم قلة الوعي الذي ترسب عن قصدٍ(التجهيل). كما أنَّ الرعاع ساذجو المعرفة بما يجري نتيجة انعدام التنوير وثقافة الشفافية وضعف فرص العيش الكريم. ولهذا كانوا يقفون لدى المناطق الزلقة والناعمة من أي نظام قائم، يقايضون قوتهم السياسية وتأييد الحاكم مقابل فُتاتٍ بسيطٍ من الحياة.

من جانبٍ آخر كان الرَّعَاعُ أرضية للقُطعان والطوائف والجماعات السياسية والدينية حيث يُضافون تلقائياً لقوتهم الحسابية طالما لا يدركون الخلفيات جيداً. أي من السهولة بمكان أن يقعوا في براثن الاستخدام الضيق للمصالح. وبشتى العناوين السابقة لم تخلُو منهم دولةٌ عربية واحدة. فالطائفية – مثلاً- قد تلتهم دولةً وتتلاعب بوجودها العام كما هو حادث بلبنان وتحول الحياة اليومية إلى ساحة حرب( الحرب الأهلية). كذلك العائلات التي تعتبر نفسها أصلاً للمجتمع والدولة في بعض البيئات العربية. هذا بخلاف القبائل المالكة والأسر الحاكمة شرقاً وغرباً على خريطة العرب ذاتها حيث توجد ظاهرة الرعاع.

والأرضية السالفة ما لم تكُن آخذة بتنوع عناصرها وافساح المجال للحياة المشتركة(التسامح والاعتراف المتبادل)، فإنَّها تمثل مشكلةً اجتماعيةً وسياسيةً غائرة الأبعاد. إذ تتأسس على تهميشها المقصود للفئات الدنيا أنظمةٌ حاكمةٌ من ناحيةٍ، ولا تتوانى الأنظمة– من ناحية أخرى- عن استعمالها النفعي( بطريقة المثل الشائع: لا بحبك ولا بقدر على بعدك). فزيادة رقعة الرعاعية أو تضييقها أمر مهم، وهي بذلك تخضع لسياسات نوعية طويلة الأمد.

لقد بات معروفاً أنَّ السلطة أمست "آلة خشنة" تستعمل هؤلاء في تعطيل القوانين وتضييق الحريات واعاقة التنمية وتسويف تداول السلطة وخفض مستوى التوقعات منها. إذ ذاك فقد شكلَ الرَّعَاع- بنية وتجمعاً وسلوكاً - آثاراً جانبية side effects لهذه السلطة، لدرجة أنهم لا يظهرون في فراغ سياسي. كانوا دوماً بمصطلح حديث تحت السيطرة under control، المهم أنهم بعين تحرس هذا الكتلة من علٍ( دوماً ضبابية التفاصيل)، لأنَّ الحُكم لن يخطو خطوة بدون تسويق قراراته وسط هذه الأحراش البشرية.

فعلى صعيد التعليم والمعرفة، حرصت السلطات الحاكمة على تجهيل تلك الفئات المهمشة. بل وضعتهم في قوالب عشوائية لكيلَّا تتطلع إلى أكثر من شظف الحياة. ووسط حجب الحرية كانوا هم الحامل الشعبي لقمع الدولة سواء أكان ظاهراً أم خفياً. حتى ارتهن وجودها المتلون وحركتها المتقلبة بوجود الرعاع، بل حملوا سلفاً تصنيفاتها الاقتصادية والطبقية إلى قاع المجتمع. هذا رغم الادعاءات المتواصلة بتطويرهم واتاحة فرص التعليم أمام أفرادها( كما يقال التعليم كالماء والهواء). لكن الشعار البراق شيءٌ، ودفع المهمشين- بتكريس الظروف السيئة- إلى الاختيار الأسوأ شيء آخر. إنَّ العمليات الجارية عليهم سياسياً مقننةٌ، لضمان ولائهم في نهاية المطاف(إضعاف قواهم وإخماد تطلعاتهم المشروعة).

هكذا كان الرعاع - بخلاف أي شيء آخر- نتاجاً للنظام السياسي لا الفوضى كما يُقال. فالمفترض أنْ يدخلوا ضمن هندسة اجتماعية سياسية لتطالهم التنمية والحقوق القانونية والإنسانية. لكن مكر الأنظمة أبقاهم على الحواف الشائكة التي ليست داخل ولا خارج اهتماماته. لكنه فرز ورتب قواهم العددية والاقتصادية وصولاً إلى قواهم العضلية. فليسوا في حالتهم المزرية ثقافياً إلا لكون النظام نظاماً أعمى بهذا الطابع الدكتاتوري. وبالإمكان حين نعد السلطة بالمجتمعات العربية معطى سياسياً فهي عصا لجمع الرعاع وتفريقهم(العبد يضرب بالعصى والحر تكفيه الإشارة). إن التصورات الجمعية تتمم فاعليتها في ضوء وجهي الترهيب والترغيب في الذهنية العربية. ليست الحالة حالة سياسة على شاكلة معناها المعروف في الدول المتقدمة، لكنها تشتغل على حيوانية الإنسان بالمقام الأول.

اعتبر الحاكم العربي الرَّعاع من لوازم سلطته وحواشيها الضرورية. بالمقابل هم يتشبثون به كما تتهافت الفراشات حول الضوء القوي. وقد يُخرج لهم كلامه الزلِّق إذا أراد ذلك، حينما يعطي وعوداً وراء وعود بتحسين أحوالهم المعيشة دون جدوى. ومع ذلك يضعهم كرصيد غوغائي إذا تململت الأرض تحت أقدامه. فيدفعهم لمحاربة خصومه السياسيين في الأوقات الحرجة أو يجعلهم رصيداً استراتيجياً. ونتيجة الأدوار التي اسندت إليهم يذهبون سياسياً إلى نهاية أشواط الاستعمال. لقد التصقت ببعضهم عبارات كثيرة تصف وجود الجماعات البديلة ضمن الدولة. مثل "الفُلول" في الحراك المصري ... و"الأزلام" في ليبيا... والشبيحة في سوريا... والحزام القبائلي في اليمن... ومن قبل أشبال البعث وفتواته في العراق. كانوا بدورهم يتلونون ارتباطاً بالزعيم والقائد كحال الموالي وأهل العصبية بلغة ابن خلدون.

العبارات الوظيفية مجرد سطح لخطاب سياسي تغرق تحته فئات كثيرة، فهم يعرفون مكانتهم بالتحديد. ولئن كانت السلطة تمارس عليهم تهميشاً، فإنهم يقفون تحت ظلالها الوارفة بالتبعية، على الأقل- نتيجة العوز الاقتصادي المدروس- يحتمون بأي كائن خرافي أسمه الحاكم ولو كانت الشيطان نفسه. وقد يلقون بكيانهم الهش جانباً مقابل بعض المكاسب التي ربما تنتشلهم من الوحْل الاجتماعي.

أولاً: لا تمتلك هذه الفئة إلاَّ أجسامها التي مثلت نصاً سياسياً اجتماعياً ممكن قراء تاريخ المجتمعات من خلاله. فظهرت عليها آثار الفقر والتهميش بلا حدودٍ. حتى أنَّه بالإمكان رؤية القهر محفوراً بين العروق وعلى جلود محروقة. ناهيك عن الحياة الرثة التي طالت أغلبهم.

ثانياً: يقفون تحت زناد الصمت القابل للانفجار بأي وقت. كأنهم سلاح بارود كاتم للصوت. لا يتحدثون عن المشكلات إلاَّ فيما بينهم وقد لفهم الخوف من العصى وطمعاً في الجزرة. مثلت عباراتهم المتداولة قاموساً سياسياً غاصّاً بالنكات والأغاني الشعبية والعبارات الدارجة المعبرة عن الفوارق الطبقية.

ثالثاً: لهم رموزهم السياسية والغنائية والشعرية( مطربو الاغاني الشعبية والدارجة). ويعتبرون هؤلاء بمثابة المعبرين عن حالهم ومشكلاتهم الاجتماعية( التنفيس واللهو). حتى ليمكن القول بأن رؤيتهم للعالم والتاريخ تختلف كثيراً عن باقي فئات المجتمع. ولئن انتقلنا إلى مناطق تواجدهم، لكأننا انتقلنا إلى دولة داخل دولة، وإلى قرن غابر عبر القرن الحالي.

رابعاً: تسمح أوضاعهم بتفريخ الخرافة والأوهام المزيفة. وأبلغ أوهامهم أنهم يعيشون تحت سقف الرضى بالأحوال أفضل من لا شيء. فرغم أنَّ ظروفاً صعبة قد عركتهم، إلاَّ أنهم يعتبرونها شيئاً عادياً( العبودية المختارة بعبارة كتاب إتين دي لابواسيه). كما أنهم- في حال السخط- يمثلون حاضنة لنمو الاتجاهات المتطرفة والجرائم الاجتماعية والاخلاقية.

خامساً: بوضعهم العشوائي كانوا مسرحاً لجماعات الاسلام السياسي. فنظراً لغياب الدولة( أي استعمالهم فقط)، كانت تلك الجماعات تقدم خدمات بديلة ومعها بث الأفكار المتشددة وزيادة رصيدها العددي. وعليه فقد أخذت الدولة العربية -ككيان مخابراتي- الرعاع بعين التوجس والريبة والتوظيف في آن واحد. إذن بأية طرائق أمكن التحكم في هؤلاء؟ هل لهم أدوار في مفهوم الدولة وسياجها الصلب؟ وما علاقتهم بالقوى الفاعلة اجتماعياً؟ ماذا كان يمثلون زمنياً بالنسبة لسلطة تُمدِّد بقاءها باستمرار؟

على سبيل المثال: كان حسني مبارك يستيقظ باكراً رافعاً بصره – كما أشار ذات مرةٍ في خطابة الرسمي- إلى عدد سكان مصر الذي ناهز التسعين مليوناً آنذاك قائلاً: كيف سأُطعم جميع هؤلاء الناس بوقت واحد. كيف سأوفر لهم خدمات ومرافق وتعليماً، من أين سأدفع رواتبهم!! لنتخيل ولو برهةً: رئيس مصر يرى في شعبه لحماً بشرياً ليس إلاَّ. كما كان يعتبرهم عبئاً لا طاقات قادرة على العمل والانتاج وبناء المجتمع. وذلك دلالته أبعد من مجرد الهم اليومي: أنَّ التعليم والعمل كانا يزيدان تلك الفئات المهمشة اقصاءً. فالفرص ضئيلة( مع زيادة الثراء لغيرهم)، لكون مدخلاتهم(المعرفية والاقتصادية) التي تسمح بتحسين أوضاعهم كانت شبع معدومة أيضاً.

أشير إلى نظام مبارك تحديداً، لأنه كان نظاماً رعاعياً بامتياز. إذ يتعامل مع مواطنية بهذه الطريقة الموروثة: كرعاع همج( دعهم يتسلوا ويلعبوا كما قال أيضاً بآخر سنوات نظامه ) حتى بات مثالاً بارزاً على فقدان وزن المجتمع وثرواته البشرية. وكان نظامه قائماً على احتضان ثقافة الرعاع في المناصب العليا من جهة أخرى( أي تحويل المُميزين وأصحاب القدرات الخاصة كأنهم رعاع لا قيمة لهم). ويصح هذا التأكيد حصراً: إذ جعل من الدولة ماكينةً لتخريج الرعاع في كافة المناحي. أصبحت حالة المجتمع المصري في عهد مبارك حالة همجية قابلة للزيادة طوال الوقت. وكأن مصر قد انقشعت عنها سنوات التحضر والمدنية التي شهدتها في العصر الحديث عائدة إلى عصر الفوضى والتخبط. والغريب أنَّ الفوضى كانت تغلي على مهلٍّ وببطء شديد حتى انكسر القدر في الخامس والعشرين من يناير ألفين وأحد عشر.

وبهذا كانت هناك أدوات للنظام السياسي من أجل تعميم الرعاعية واعادة انتاجها.

1- التجويع: الجوع الرمزي أشد خطراً من الجوع الحسي نتيجة فراغ المعدة. فالأخير قد ينتهي بتناول الطعام والاحساس بالشبع. لكن فقدان المستقبل والخوف من المجهول أسسا جوعاً نهماً هو الرغبة في الإشباع النفسي وإنْ كان لا يأتي ولو مرة. والجانب الاقتصادي للمسألة هو المظهر البادي بصدد عدم توافر الاحتياجات الأولية بينما الجانب الرمزي هو المستفحل.

ولهذا التجويع أهمية في هرس المواطن وتعريته من الداخل أمام نفسه وأمام عائلته. وقد حدث بالفعل فأضحى المواطن مرهوناً بدخله الشهري المعدوم وبشخصيته المفقودة!! لأنَّه لا يساوي شيئاً بينما السوق الحر الموازي يلتهم أيَّة نقود. وبالتالي ظهر ولاء المواطن فقط لمن يدفع أكثر. فانتشرت الرشى وتحولت مصر إلى معدة كبيرة كلٌّ يهضم ما يجده في موقعه. كانت النتيجة على المدى البعيد: (جَوَّع كلبّك يتبعك). هذا "القانون الكلبي" في السياسة قد طبقه نظام مبارك بحرفية خاصة. حلَّت المماثلة الشهيرة لدى المصريين: كلمة الحكومة كلفظ حين يُطلق على الزوجة والهيئات الحاكمة بمعناها السياسي. كأنَّ الدولة تحولت إلى عائلة بدائية تقتات بشكل أبوي وتُحكم كذلك.

والجوع بهذا غدا شبكةً دلاليةً تمرر معانيها من مجالٍ إلى غيره. لأنَّ التبادل الرمزي بين المجالات كان متاحاً بشكل ضمني. ومن ثمَّ أُطلق على مبارك تعبير "أب المصريين". والمعنى ليس خافياً بانزياح المضمون من الأب البيولوجي إلى الأب السياسي والعكس. لكن أساس الانتقال كانت أبنية الجوع بفحواها العام الذي كان يتساءل حوله مبارك: كيف سيُطعم هذه الأفواه.

2- كثافة الاجسام: تعامل نظام مبارك مع الشعب ليس كأُناس لهم عقول وطاقات، القاعدة لديه تعرية الأفراد من ماهياتهم الإنسانية. فقط الابقاء على أجسام مادية ككتل متحركة بفعل الجاذبية السياسية والقصور الإنساني الذاتي وسيولة الأهواء. وأبرز مظهر للرعاع كان هذا الطغيان للغرائز وطبائع الأجسام حتى بات الفرد كتلةً لحمية فارغةً من أيِّ مضمون.

هذا في الحقيقة نوع جديد من فيزياء الرعاع لم يكن معهوداً سابقاً، نظراً لوجود التكافل والعطف على المحتاجين والمعوزين. لأنَّ السياسية فن الممكن، وعندما تطرح الممكن كقوة في المجال العام، فإنَّها تُوقِّع الأفراد تحت تأثيرها القهري فقط. ولذلك كان الخوف( لأنه من جنس الجسد) هو المحرك الجوهري للأفعال السياسية في نظامٍ كهذا.

وتحولت الاجسام البشرية من أوزان نسبية في فضاء المجتمع إلى هواش مادي في طوابير الخبز والخدمات اليومية. حتى قيل–سخريةً- إنَّ المصريين يقفون طوابير بالسليقة حتى كانوا كذلك وهم في بطون امهاتهم!! ولكن الموضوع له بعد آخر: أنَّ البيروقراطية كانت ممزوجة باحتقار المواطنين وتمجيد السلطة. فليكن هذا المواطن أو ذاك ما يكون، المهم أنَّه سيُذل( أمام المكاتب الرسمية) في نهاية الأمر ليحصل على أقل الخدمات. الطوابير lines كانت اصطفافاً رعاعياً أمام المؤسسات لاستخراج الأوراق والظفر بأقل المواد الغذائية جودةً. ليس ذلك لشيء إلاَّ لأن نظام الدولة لا يعترف بأية قيم سياسية تبقي على بقايا الإنسان. وتري في رعاياها وإمائها مجرد علب لحمية صدئة تمتلئ كعلب المياه الغازية بالأهواء والرغبات!!

تلك الوسيلة في إدارة الرعاع كانت في الحقيقة فرصة جليلة للجماعات الاسلامية، لأنهم قدّموا خدمات بديلة لما تفعله الدولة. قدموا ذلك لشراء القوى السياسية أثناء الانتخابات والحشود الوهمية. فاكتسبوا كجماعة الإخوان رواجاً زائفاً في الشارع. كانت نتيجته التالية صعود نجم الاخوان واعتلائهم صهوة السلطة. وهذا الصنيع إذا أردنا تفسيره، فهو لا يخرج عن فيزياء الرعاع التي كانت موجوده من قبل. فإذا كانت الدولة تضع مواطنيها داخل هذا الإطار بوضوح، فالجماعات الاسلامية تقود إلى الرَّعاعية ذاتها عن طريق الدين، ولكن تحت مظلة التقديس للجماعة ولسلسلة الأوثان الأخرى من المرشدين والقيادات وأمراء الجماعة والنصوص التكفيرية وطقوس التنظيمات الجهادية.

3- الركود الفكري: مجتمع بدون مناخ فكري مفتوح لهو مجتمع سيخاطب الغرائز مباشرة. لأن البدائل لحركة الأفكار كانت انكشاف الاجسام العاطلة من الابداع تكريساً للعُري الفاضح. وذلك ما حدث في الفنون البصرية والغنائية والتمثيلية بشكل عام في عهد مبارك. لم تكن أسواق الافكار لها أية قيمة بل الشعار السائد: نحن نفكر لك، لا تجهد نفسك، نحن سنشبع شهوات بصرك. وذلك ممن خلال تزوير الانتخابات وسيادة الحزب الواحد وتسييد الشخصيات الرعاعية بنمطها النخبوي هذه المرة.

حتى قيل آنذاك إنه لو ظهر شخص (مسؤول) قادر على التفكير سرعان ما يوضع في قفص بيروقراطي اسمه المنصب. فلكي يرضى عنه المسؤول الأكبر، كان عليه خلع عقله مع حذائه خارج المنصب الذي يشغله. ذلك أن نظام مبارك نفسه لم يكن ليعبأ بأي فكرٍ مبدع ولا نقدي ولا غيرهما. حتى تحول هذا الرئيس لدى المصريين إلى مجرد تمثال فرعوني حديث يُضاف إلى المتحف المصري.

4- غريزة التكالُّب(الجري وراء الظهور): لو لم يفعل نظام مبارك إلاَّ دفْع كلِّ سياسي وغير سياسي إلى عبادة المناصب، لكان نجاحه باهراً في بث الرَّعاعية إلى غايتها. فنتيجة انسداد الآفاق السياسية وضياع فرض التغيير كان المنصب - ولو جاء صغيراً -هو الأمل الوحيد لكل شاب. حتى غدا البحثُ عن المناصب هو الطريق الفعلي للنجاة من الغرق تحت الأقدام(المصنوعة).

والتكالب يعني في دلالته سقوط أيِّ هدف آخر بجوار التزييف السياسي. لأنَّ مجتمعاً راكداً ليس إلاَّ حلبة مصارعة لدهس المساواة والعدالة وانعدام الفرص أمام الجميع. ليتحول المجال العام إلى "كروت واسطة" من مسؤولٍ إلى آخر، ومن منصب إلى غيره. ذلك بدون أية قيمة لطاقات المواطنين وقدراتهم العلمية. وفي هذا أصبحت هناك ظواهر في شخصيات رعاعية تولت مسؤوليات كبيرة في الدولة دونما قدراتٍ خاصة. فقط كانوا من بين القطعان المرضي عنها، كما أنهم لا يتوانون يومياً عن تأدية شعائر الولاء والطاعة للنظام.

5- مسخ العقول: الأنظمة السياسية العربية لا تعترف بالحرية الفردية. هي تصنع قوالب مشوهة سياسياً لنحت طرائق السلوك والرؤى كما يريد النظام القائم. والسياسة دون غيرها تغذي كافة مجالات المجتمع بالروح العامة. وبإمكانها تكريس الثقافة السائدة كما لو لم تُوجد من قبل. لقد كان جميع السياسيين بعهد مبارك يفكرون بطريقة واحدةٍ لا غير. كأنهم يتسقّطون الكلمات والعبارات من خطب الزعيم ومن فمه مباشراً. وبالتالي أصبحوا قروداً بأعالي المؤسسات يتلقفون الأفكار كما يتلقف قرود الغابة الثمار والفاكهة.

كان نظام مبارك يدمر أي تميز في سياقه لو اشتم من رائحة الاختلاف والتميز. لقد أشيع وقتذاك: أنَّه لو برز شخص متفرد فسيكون مصيره الاستبعاد. لأنَّ رعاعية النخبة لا تقبل بينها أي قرد من فصيل مغاير للقطيع، أو أن تكون حتى طريقة تصرفه مغايرةً. وهذا كان سبباً قوياً لاختفاء بعض المسؤولين من المشهد العام دونما معرفة الأسباب وراء ذلك.

اختصاراً فالوضع الأكثر نكايةً أنْ تظل هذه الآليات الرعاعية التي تدير الفئات المهمشة في أحشاء الدول العربية إلى الآن، رغم الأحداث السياسية العاصفة التي مرت بها المنطقة، والمؤكد أنها لم ولن تنتهي في وقت قريبٍ!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى