أمل الكردفاني - ليس الآن.. قصة قصيرة

نظر إليها عن كثب، بدقة، ظل واقفاً، وظلت ترضع طفلها بثدي ذهبي..كان نور مصباح الشارع يسقط بزاوية على الأرض، وهي التي اختفت خلفه نسيت أن تخفي ثديها من شعاعه المستقيم...كان ثدياً ذهبياً حقاً، ذو حلمة وردية مكفهرة بالحمرة فبدت برتقالية في نتوئها الصغير الذي يلقمه الطفل مغمض العينيه ويمجُّه بفم معقود الشفاه...لم تكن تراه فقد ظل رأسها مطأطأً وهي تنظر لرضيعها بتوقير. "تريد أن تراه" قال لنفسه "لذلك تركت الضوء يسقط على وجهه الذي يشبه وجه قزم عجوز"..كان الشارع صامتاً، بين الحين والحين كانت تمر سيارة فتحرك الهواء الساكن بريح حارة خفيفة...كان الظلام يغمره، "يجب ألا تغفل عني ولو تفصيلة بسيطة"...نزع نظارته ونفخ على زجاجها ثم مسحها بكم قميصه وعاد فارتداها مرة أخرى، "هاهو الثدي يرتفع وينخفض قليلاً..لا أكاد أتبين ذلك...هل ينتفخ أم يتحرك أم أنه الضوء الباهت.."..مدت راحتها وغطت الجزء العلوي من ثديها وتركت سبابتها وإبهامها يحيطان بالحلمة "هذه هي..هذه هي..." همس بصوت مسموع...أدركت هي أن هناك من يراقبها فغطت ثديها ورفعت رأسها كغزالة شمت رائحة نمر..استنفرت حواسها، همس "لا تخافي"..ردت بصوت مبحوح "من أنت؟" تقدم خطوتين حذرتين في الظلام...قال "آسف إن كنت أقلقت رضاعتك للطفل"..قالت بغضب ولكن بخوف أيضاً "ماذا تريد؟" ..تقدم خطوات أخرى حتى وقف أمام وجهها المختفي خلف الظلام..ثنى ركبتيه وهبط حتى بلغ الأرض..مد يده لوجهها ولمسه برفق.."ماذا يعني كل هذا لك؟"..تسربت إليها قناعة بأنه مجنون "هل أنت سكران؟".."لا" .. أخذ ينظر لوجهها، بدت في أول الأربعين، "أنتِ امرأة؟!".. جاء صوتها مجروحاً "طبعاً" ..أدخل يده لجيبه وأخرج نقوداً ورقية "هذا كل ما أملكه" مدت يدها وأخذت النقود...
نهض ببطء...ودار على عقبيه، تركها خلفه ومضى في سيرٍ متأملٍ.."الوجود...الوجود.." أدخل المفتاح في باب شقته، ورأى بهوه مظلماً..لم يفتح المصباح بل ارتمى على أريكة اعتاد على مكانها ولو لم يرها...أعاد رأسه للوراء وأغمض عينيه، عاصراً ذاكرته..."هل سأستطيع؟..هل سأستطيع؟"..تعرق قميصه من الحر، فنهض وغادر إلى غرفة جانبية...خلع ملابسه وجلس على سريره بسرواله الداخلي القصير..رأى كرشه مشعرة وثدييه متدليين "لم يكن جسداً رياضياً أبداً"..أدار التكييف، ورقد على السرير، ظل ساكناً لدقيقة، مد يده إلى درج صغير وأخرج علبة سجائره "سبعة ساعات من محاولة تخفيف الإدمان..ليس سيئاً"..ثم شعر بالعطش فترك علبة السجائر والقداحة على السرير حين نهض ليرتوي...لم تكن حافظة المياه تحوي سوى بضع قطرات فقط من الماء الفاتر، لكنه اكتفى بها...عاد واستلقى على سريره ثم أشعل سجارته وأخذ يدخن وعيناه مغمضتان..."ليس الآن..سأنام بعد هذه السجارة".. وحين أغمد السجارة في المطفأة انقلب على جنبه وأغمض عينيه..أغمضهما بقوة..وحاول تذكر أحضان زوجته الدافئة، ورائحتها الغريبة، رائحة لحم أنثوي، وأنفاسها الساخنة التي تذكره برائحة اليمَام في عشه..هي الآن مع عشيقها، "هل لا زلت استحق جسدها؟"..أغمض عينيه بقوة أكبر..."ليس الآن..يجب أن أنام..يجب أن انام..."..تذكر بندقيته التي باعها..ابتسم "لم استخدمها ولو مرة واحدة"..اشتراها لحماية زوجته من مجرم سيسطو على المنزل، كانت تتوهم ذلك، "لا نملك شيئاً لنخاف عليه من السرقة" كانت تجيبه بعينين مذعورتين "ماذا لو اغتصبني أمامك؟"..كانت تفكر دائماً على ذلك النحو السوداوي...يبتسم "ماذا لو لم تبع شيئاً..سوف نموت من الجوع؟!!" كان يرد "سأبيع..لماذا تفكرين في الأسوأ" تقول بتوتر حتى وصدرها على صدره "يجب دائما أن نفكر في الأسوأ..يجب أن نكون حذرين ومستعدين لكل شيء"..عندما اشترى البندقية "ماذا لو تعاركت مع اللص وانطلقت رصاصة خاطئة فقتلتني..إنك لا تعرف حتى كيف يتم حشوها".. "ولماذا تبقين في الغرفة أثناء صراعنا؟ لماذا لا تهربين؟"..تتلجلج قليلاً، "ماذا لو أصابتك الرصاصة في خصيتك؟"..لكن اللص لم يأت، ولم تقتلها الرصاصة ولم تصيبه في خصيته، بل هي التي اختفت..."يجب أن أنام...ليس اليوم..كم أنا مرهق..مرهق جداً"..تهدأ نبضات قلبه..تهدأ وهو داخل أحضان زوجته الشبحية..لم تكن تحب التقبيل، ليس لرائحة السجائر على فمه، بل فقط لأنها لا تحب ذلك...لم تكن تتأوه أبداً، كانت جثة هامدة دائماً في حين يكون جسده غارقاً في العرق..، يبتسم "حكمة المرأة هي ألا تظهر لذتها للرجل..يجب ان تظل مسيطرة دوماً على الموقف..يجب أن تظل ثقة الرجل في نفسه مضطربة.."..إنها المرأة الوحيدة التي لمس جسدها...كانت ارملة لم ولن تنجب، الوحيدة التي تجرأت وأقدمت على منحه تلك الفرصة..هي التي تزوجته وليس هو..ابتسم "بعدها أيضاً ظللت قليل الجرأة مع الأنثى".."سميهم نساء..وليس انثيات..أنت تحترمهن أكثر مما يجب"..يصر صديقه الوحيد على ذلك..صديقه الذي هاجر وتركه مع إمرأة ترى في فراشة ترف بجناحيها جريمة مستقبلية...فراشة ترف بجناحيها...ترف بجناحيها "يجب أن انام"..فراشة ترف بجناحيها..ترف بجناحيها..يا للروعة..على الثدي الذهبي، فراشة تفرش جناحيها على ذلك النهد، تذكر سبابتها وإبهامها وهما يحيطان بحلمتها البرتقالية..أين ستقف الفراشة..."نعم..نعم..".. قفز كالملسوع، ثم غادر غرفته بسرعة إلى مرسمه..أمسك لوحة الألوان بيسراه والفرشاة على يمينه وهو يحدق في حامل الورق الخشبي بسعادة...ثم دق قلبه حينما ضرب بفرشاته على أول خطوط الرسم...واستمر لثلاثة أيام متواصلات...
(تمت)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى