محمد بشكار - رسائل الكُفْران! ( الجزء الثامن )

1
خُلق الإنسان مُهَيْكَلاً، لذلك لا خوْف على قِطاعاته التي تؤدِّي وظيفتها البيولوجية بأمان، فالقلْب يحْميه القفص الصدري، والدماغ يفكِّر بحرية تحت الجمجمة وهلُمَّ هياكل عظامية تستند في تمفْصُلاتها إلى عمود فقري يشُدُّ الجسم من الأعلى إلى سُلاميات أصابع القدمين، فما أحْوج القِطاعات الاقتصادية غير المُهَيْكَلَة في بلادنا لمنْ يُهيْكِلها في إطار قانوني واضح يحمي أرزاق الناس ويضمن حقهم في العيش الكريم، دون ذلك فهم عُراة محرومون من التغطية الإجتماعية في وضعية هشَّة، ولا عجَب إذا لم يلتزم بعض الناس بالحجْر المنزلي وتسلَّلوا في هجرة سرية للشارع يبتغون إعالة أسرهم بممارسة مهنٍ عشوائية، البيت الحقيقي هو أن تستفيد الدولة من الأخطاء المُخِلَّة بالبطون، وما أكثر الأضلع التي برزت عجفاء بسبب الاختلالات الاقتصادية في زمن كورونا، والبيت الحقيقي أيضا أن تنظِّم الدولة كل مصادر القوت في قطاعات مُهيكَلة تكفل للمواطنين عاملات وعمالا أجرا شهريا ثابتا مع الحقوق الاجتماعية والصحية المُجاورة، أنا نفسي حين أجدني غير مُهَيْكلٍ أصبح بغريزة حُبِّ البقاء رخْواً من الزَّواحفْ!
2
الإشهار التلفزيوني الذي غَرَّرَ بالكثيرين وزيَّن للأجساد المعطُوبة نوماً مُريحاً دون انكساراتٍ، غرَّر أيضا بذكائي فاشتريتُ سريرا مغشوشاً، ولم تمْض سنةٌ حتى انقلب موضع نومي إلى أسفل أوسع من حفرة، ولكن حزني لم يُعمِّر طويلا حين أيقنتُ أنِّي لم أعد بحاجة لمن يذكِّرني بعذاب القبر!
3
يَكْبُرُ الرجل في بلدنا متأخِّراً، وما دام عاطلاً بدون شغل ودون زوجة وأبناء ومنزل، سيبقى في نظر أفراد المجتمع صغيراً، ولا حرج أنْ يتمتَّع بشبابه وأحياناً بطفولته ولو كان في أرْذل العُمُر!
4
ألمْ أقلْ إن السياسة تُفْسد الحب، وقد تَنْتُجُ عن تدهور العلاقات الدبلوماسية بين البلدان حروبٌ إذا لم تكن ساخنة بالمدفعية فهي متوترة باردة تُغلق الحدود، ذلك حال الجارتين المغرب والجزائر اليوم للأسف، فما أشبه ما بين الحكومتين وليس بين الشعبين الشقيقين بقوة التاريخ والجغرافيا، ببعض الزيجات تبدأ وجها لوجه منذ أول سرير، وتنتهي بعد تقادم العلاقة و تنقُّلها على أكثر من سرير، بجدار عازل ظهرا لظهر فهل تحملني أم أحملك، عسى يعود التوافق السياسي بين البلدين كما اتفق شَنٌّ مع طَبَقة ؟
5
كلما ابتعدنا عن الوطن نزداد اقتراباً منه ليصبح أعمق في قلوبنا، وإذا استدعى الشِّعر قد نُهرِّبه إلى بيوتنا لكي لا نشعر في غربته بغربتنا، هذا ما أقول للصحافة كلما بادرني الميكروفون يريد أن أدلي بكذْبةٍ في استطلاع للرأي، ولكنني لا أدْلي إلا بقلبي الأخرس في استطلاع للنأي ولا أحد يسمعني في البلد!
6
غَداً لَيْسَ
كَالأَمْسْ
لَقَدْ دَرَّبَتْهُ الرِّيَاحُ
طَوِيلاً عَلَى
الكَنْسْ
فَكُونِي
كَمَا وَرْدةٌ حِينَ
تَنْفَتِحِينَ عَلَيَّ وَلَا
تَاْبَهِي لِانْغِلَاقِي فَمَا
هُوَ إِلَّا عَلَيْكِ!
7
رغم ما في تمديد الحجْر المنزلي من تهديد لحُرِّيتي ولأرزاق طالبي المعاش المُياوِمين، أوافق على الإكراه البدني خوفا على الآخرين من أن يصيبهم ما قد يصيبني لا قدَّر الله وتعُمَّ المُصيبة البلاد والعباد، لكن ما أرفضه أن تسود حياتنا في كل قُصاصة خبرية تلفظها وكالات الأنباء عبر العالم، تقارير سياسية واقتصادية وطبية حول كورونا، وكأنها بهذه التقارير قد قرَّرت في مصير البشرية ولم يبق إلا أن ننتظر قاعدين في منازلنا نهاية العالم الوشيكة، إن هذا التَّهْويل في عملية التَّحْسيس بمخاطر الوباء وتفشِّي عدْواه، أرعبتْ الأنفس أكثر مما يفعله الإرهاب، وسيخلِّف عاهاتٍ نفسية تصبح أمراضُها مزمنة أطول مما سيقيم بين ظهرانينا الوباء.
أوافق على الحجْر ولكن رجاءً لا تحْشروا بعض الأنفُس الهشَّة والضعيفة في جُحْر وهمي، ولا تدفعوها وهي تمْتثل خوفا على حياتها للانتحار!
8
أُفضِّلُ عبارة وجهات النظر على زوايا النظر، وما ذلك إلا لأنَّ الوِجْهة أشسع من كل الزوايا، فما من زاوية بقُبَّةٍ في بلدي إلا ضيَّقتِ التفكير في بعض العقول حتى زارتها بالشموع!
9
الأصبع الذي تبصْم به لايْكاً بِإحْدى الدُّمى اليدوية في فيسبوك، قد نعتبره أحد أسماء الإشارة لنَخْلُص أنَّه لا تتسبَّبُ في الكوارث إلا السَّبَّابة، فويلٌ لِمنْ أشارتْ له الأصابع والمطامع أيضا ولو بالخير، وهو نفسه الذي نستعمله للتَّشهُّد في الصلاة أو عند خروج الروح، لذلك لا تنسَ وأنت تُوزِّع اللايْكات أن تؤدِّي الشهادة بصدق!
10
المُتطرِّف البيئوي لا يخلو من نوازع إرهابية، فهو يُفضِّلُ أن يُوقف بالإبادة مَدَّ الإنسان لِتَمْتدَّ عِوضه الغابة بالكثافة التي تُشْعره أنَّه الوحش الوحيد الذي يستحق العيش في الكون!
11
يوماً عن يوم تفْقد الصَّحافة بعض كلاسيكياتها الأصيلة، العمود واستطلاع الرأي والحوار والتَّحقيق، بل فقدتْ حتى الكلمات المُتقاطعة التي كانت تفك عقدة لسان البعض في المقاهي بمجرد انتهائه من حل شبكاتها، صار التهافت أجشع التهافت، على الخبر الذي تجعله حتمية النشر الإلكتروني السريع في الدِّقة والحِين، مكتوبا على أي نحو ركيكا، ورغم أنك لا تصدقه يصبح واقعا تتداوله جميع الألسن وما عليك إلا أن تُصدقه ولو كنت متشككاً، وعوض أن يحقق هذا الخبر الزائف السبق الإعلامي بمعلومة صحيحة تفيد المجتمع، يحقق بضحايا حوادث الإشاعة وفضائحها الشنق الإعدامي!


...........................................
حُرِّر يوم الثلاثاء 19 ماي 2020 بالحجْر المنزلي بمدينة الصخيرات
...........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 21 ماي 2020
...........................................
رابط الملحق على موقع جريدة العلم:
http://alalam.ma/العلم-21-من-ماي-2020/


L’image contient peut-être : une personne ou plus

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى