محمد فتحي المقداد - قراءة نقدية لنص (حيرة) ق. ق. ج. لنزار الحاج علي

**النص - (//حيرة//
لقد نسيتُ أن أكبُر، لأني كنتُ مشغولاً بمراقبة أمّي، وهي تتلاعب بالخيوط، وأشعرُ بالدهشة كلما أدخلتها في خرمِ الإبرة .
اليوم أنا خائف؛ فقد قامت بإعطاء ثيابي لأخي الأصغر.
نزار الحاج علي /سوريا ) ٠


==========
** القراءة النقدية:
للوهلة الأولى وقفت بدهشة الحيرة أمام النص مصدومًا في قراءتي الأولى، وفي المرّة الثانية سلّمني النص مفتاحه، فدخلت في رحابه بجرأة، ولم أستطع الرد للحيرة فيما كيف سأقابل قوّته بما يتناسب، أعلنت إعجابي الشديد، وكتبتُ: (ألجمني النص.. ولا أستطيع الرد).
(نسيتُ أن أكبُر) استوقتني تأمّلًا، تعبير مدهش بإبداعه، ولماذا نسي نزار أن يكبر..!!؟. رغم أن قطار العمر يسير رغمًا عنّا ماضيًا بنا إلى محطّاته، ولا خيار لنا بالتخلف. وهذه بديهة الحياة عند كلّ البشر.
زوابع التساؤلات ثارت؛ فغطّت مساحاتُ عمرٍ بحجم السنين ما بين المهد واللّحد.
بالانتقال للتعبير الذي يلي الأوّل ( لأنّي كنتُ مشغولًا بمراقبة أمّي، وهي بالخيوط) هنا ينفتح استغلاق باب النص ويبقى مواربًا: (لأنّي كنتُ مشغولًا) الإنشغال بأمر ما مُبرّر للنسيان العادي.. أمّا (نسيتُ أن أكبُر) هنا المعضلة. وبالانتقال لتتمّة العبارة: (كبُر، لأني كنتُ مشغولاً بمراقبة أمّي وهي تتلاعب بالخيوط). هنا تتجلّى نقطة أخرى، وهو يراقب أمّه وهي تلاعب بالخيوط، وكأنّه استهوى عدّها، وقد راقت له حركات يد الأم المشغولة بهموم الحياة في تدبير شؤون أبنائها.
بعد ذلك يعلن دهشته ولا يستطيع أن يخفيها ليقول لنا: (وأشعرُ بالدهشة كلما أدخلتها في خرمِ الإبرة) فالخيوط والإبرة لزوم رَتْق ما انقتق، أو تغيير مواصفات ثوب ليكون بقياس التصغير والتكبير. ليتوافق أناقة بمظهر صاحبه. ومُقاربة ذوقه.
الجملة الأخيرة جاءت تفسيرية تنويرية فتحت آفاق النص: (اليوم أنا خائف؛ فقد قامت بإعطاء ثيابي لأخي الأصغر). ونزار يخاطب الطفل الذي لم يكبر في داخله.. طفولة المعاناة، وضيق ذات اليد، والفقر ثيمة شراء الملابس المستعملة (البالة)، وتوارث الأخوة لملابس بعضهم البعض جيلًا بعد جيل.
وتوضيح الخوف له وجه آخر، بتساؤل لماذا كنت خائفاً عندما أعطت ثيابي لأخي الأصغر؟
لأنه في هذه اللحظة، اكتشفت أنه كبُر.
بالمعنى السطحيّ للكلمة، حيث انتقلت ثيابي لأخي الأصغر بسبب كبري.
والمعنى المجازي، لأني بدأت أحسّ وأشعر بمعاناة أمي.
والمشاهد الخفيّة المُستخلصة من إعادة تدوير النص قرائيًّا وتفسيرًا، أظهرت حكاية الفقر، رغم أن كلمة الفقر لم ترد في النص.
وقد وعيتُ هذا الأمر.. وجميع أمهاتنا اجتهدن في التدبير، وإقناع الأولاد بشيء كثيرًا ما يكون مرفوضًا، بارتداء ثياب أخيه الأكبر منه. ولمحدوديّة الخيارات، فالإذعان المشحون غضبًا وألمًا يتبدّد بمرور الأيّام. ومازال هذا الأمر يحفر مساربه في نفوسنا.
***
لقد أجاد الكاتب بطرح أمر مضى، باسترجاع مُرمّز للألم والحرمان وقساوة الأيام على الآباء والأمهات، وكانت أوليّاتهم غرس القِيَم، والإصرار العنيد على التعلّم والتحصيل العلمي العالي، وهو ما ساهم في صنع الأجيال المتفوقة بمواهبها وأفكارها، وقد اتّضح ذلك حديثًا للعالم أجمع، بإبداعات السوريّين على الأصعدة في سوق المنافسة.
النصّ مشحون بالألم والشّجن المُستكنّ في داخل الكاتب؛ ليخرجه لنا لأخذنا عنوة إلى طفولتنا التي لم نعشها.
اعتمد النص بأفعاله صيغة الماضي، وهي تعبير دقيق عن ذلك: (نسيت، كنت، أشعر، أدخلتها، قامت) خمسة كلمات فعلية، أعتقدُ أنها عقود الكاتب التي لم أعرفها، ولكن كلماته فضحت المستور.
العنوان (حيرة) ولماذا الحيرة؟. تأتي الإجابة في الجملة الأخيرة (القفلة): (اليوم أنا خائف؛ فقد قامت بإعطاء ثيابي لأخي الأصغر).
والحيرة طبع إنساني متأصّل، ومصداقه قول الله سبحانه وتعالى: ( فَأَمَّا الإنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ، وأما إذا ما ابتلاه فقَدر عليه رزقه فيقول ربّي أهانن). تقلّبات النفس، ما بين تمنياتها وحسراتها. ما بين جزعها وتفاؤلها. تتفاوت معدّلات الفرح والحزن.
وختامًا فإن النص متقن السبك.. رشيق بانتقاء كلماته ذات الدّلالة على الفكرة البسيطة التي صنع منها نزار الحاج علي خريدة أدبية، ويمكن إبداعه ببساطة الفكرة وبساطة الكلمات. ببناء متين لا يمكننا الاستغناء عن أيّ منها، لأن النص سيتصدّع بناءه المتين. والحيرة عمل شاق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عمان الأردن
٤ / ٥ / ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى