محمد فتحي المقداد - سامحوني.. أنا في الحمّام.. قصة قصيرة

(أدب العزلة في زمن الكورونا)

لقاء العيون في المدينة عابر سريع. مئات الوجوه صافحتني كشريط سينمائيّ قديم من أيّام (شارلي شابلن)، خلال مشوار صغير لم يستغرق أكثر من خمس دقائق للوصول إلى ذلك المكان، أستحثُّ خُطاي إسراعًا للوصول إلى جسر فكتوريا؛ لتخفيف ما يضغط في بطني يريد الخروج، سندويشة فلافل تناولتها وقوفًا أمام مطعم الصغير قريبًا من مقهى الحجاز في دمشق.
ومن باب المجاز كلّما آتي هذا المكان أو شبيهه، أعتقدُ أنّني داخل إلى سجن، أبواب غُرَفه العديدة على الجانبين، والتي لا تتعدّى بمساحتها المتر طولًا وعرضَا، أبوابها مُتقابلة وهي أفضل من أبواب الزنازين لأنّها تُفسح لمساحة فارغة منفتحة إلى الخارج من تحت الباب ومن أعلاه.
في وسط المدينة قضاء الحاجة (التبوّل والتغوّط) مُشكلة عظيمة، أماكن الحمّامات العامّة مُتباعدة، والوصول إليها يحتاج لحساب الوقت. اصطفاف الأبنية، والمحلّات التجاريّة المُتراصّة؛ لم يترك فسحة، ولو كخُرم إبرة من الممكن اللّجوء إليها في حالة الاضطرار لمثل هذا الأمر.
من إن وطئت يُسراي الباب الرّئيس المُعاكس لاتّجاه الشّارع العامّ، حتّى استقبلتني رائحة.. لا بل روائح لا يُمكن تصنفها، ولا أعتقدُ أنّ أعتى مُختبرات التحاليل الطبيّة المُتقدّمة تقنيًّا تستطيع تفكيك رموزها إلى عناصر معروفة لديهم. ولو أنّ فيروس الكورونا مرّ من هنا.. لقُضي عليه نهائيًّا ونقطع خطره عن البشريّة.
قطعة منديل ورقيّ ما زلتُ قابضّا عليها؛ بعدما مسحتُ بها حول فمي آثار الطعام، ولم أفطن لرميها في واحدة من سلّات المهملات المعلقة على بعض الأعمدة بجانب الرّصيف. من فوري وضعتها على أنفي اتّقاء الرّوائح المُقرفة.
الخطوة الأخرى نقلتُ جسمي بكامله داخل ممرّ بعرض متر تقريبًا، في نهاتيه شكل شيء يشبه طاولة مُتهالكة، خلفها يقبع رجلٌ أشعث الشّعر الأشيب، عُثنونه طويلُ لم يَمَسّه مقصّ حلّاق منذ زمن طويل، بُقع الأوساخ المُتراكمة على جاكيته وسرواله؛ شكّلت خارطة فقر بائس أثارت اشمئزازي.
حيّيْتُه بصوت مسموع، شفتاه لم تتحرّكا.. ردّ عليّ بهزّة واحدة من رأسه فقط. يجلس على بقايا كُرسيّ من أيّام المماليك. هكذا يبدو..!!. في هذا الرّجل كلّ شيء قديم، دُخان سجائره لوّن شعر شاربيْه بالأصفر مع أجزاء من شعر الدقن وحاجبيْه. لا يختلف كثيرًا بشكله عن عمارات هذه المنطقة الدّاكنة من سُخام السيّارات.
في نهاية الممرّ فُسحة أوسع مرّتين منه. ثلاثة أشخاص ورابعهم أنا؛ نصطفّ بانتظار دَوْر الدّخول.. أحدهم عابس. تغضنات وجهه تنبئ عن ازدحامه الشديد.. كلّ قليل يطرق الباب الذي أمامه ُمباشرة .. نحنحة.. يتلوها.. انفجار هائل يطير له صوابي.. أنفاس مقهورة تتأوّه صادرة من زنزانة على الطرف، طشطشة ماء تنذر عن اقتراب انتهاء محنة أحدهم... روائح حوّلت مزاجي من متفائل إلى اكتئابي.. لا فائدة من وضع يدي ومعها قطعة المنديل على أنفي لصدّها.
دخل المزنوق بحركة سريعة مُرتبكة؛ ارتطام الباب الحديديُ كما صوت باب السّجن المركزيّ، وكأنّه سجّان غاضب، أغلق الباب بقوّة خوف انفتاحه، ويخرج أحد مسجونيه.
الواقف أمامي وجهه يتلوّن احمرارًا مع قتامة واضحة، فخذاه يصطّكان بتناغم مع تأوّهات صادرة من أعماقه، لكن لا حيلة له، إلّا المُصابرة لانفتاح باب الفرج يأتي من خارج آخر. نوبة مغصٍٍ جعلتني أنطوي للأمام، وأشدّ على بطني بكلتا يديّ. مازال تأتي أصوات الانفجارات من داخل ساحات المعارك، متناغمة بقوّة صوتها، وأخرى بشذوذ بعضها عن المعتاد، كبرميل ترميه طائرة على حيّ سكنيّ انتقامًا من أهله.
دقائق حسبتُها دهرًا من العذاب. تُغالبُني الغازات انفلاتًا، الحياء من ضحك وسخرية الآخرين منعني. وذلك العجوز خلف طاولته يتناول النّقود، لا يكترثُ لشيء مما يحدثُ حوله، يسحب دُخان سيجارته الدّائمة الاشتعال، شغلتني ظنوني الكثيرة به، رغم أنّ أكثرها ليس بإثم. والدقائق تمرّ بسرعة النملة.
عمّان – الأردن
2 \ 5 \ 2020

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى