وجدي الكومي - شوارع السماء.. قصة قصيرة

قسّم السماء شوارعَ، واختار منهم شارعين، وبني فيهما بيتا كبيرا واسعا، وسكب في شوارع أخرى مياه البحر الكبير الذي كان يحلم بتخطيه إلى القارة المقابلة، صنع من السحب قاربا شراعيا، اختبره فوجده متماسكا كما لو كان مصنوعا من الخشب والحبال الغليظة، انحنى وتفحص وجوه الجميلات الجالسات على المقاهي يطلقن من أفواههن الدخان، ثم انتقى واحدة منهن في خياله، وعاد إلى المنزل المطل على البحر، فوجدها تنتظره، وترحب به في عناق طالما حلم به ولم يتحقق.
في شرفة المنزل المطل على شارعين من شوارع السماء، كان بمقدوره أن يمد يده، ويربت بحنو على أعناق العصافير، كما كان بمقدور حبيبته الجميلة أن تتمدد كل يوم بين ذراعيه في شرفتهما المطلة على السماء، بعيدًا عن الأرض، وأعين المتطفلين، ومنتهكي حرية الحب، رنا بنظره إلى البحر الممتد أمامه، وشعر بخيبة أمل، كان بوسعه في السابق أن يبحث عمن يعبر به البحر، لكنه الآن في معزل عن البشر، أعلاهم، في سماء يمتلكها وحده، ويظنون أنها سماؤهم، ومع ذلك يخشونها، كلا، إنها سماؤه، تخصه وحده، أما البحر، فلن يكون بمقدوره تكرار المغامرة، تذكر آخر مرة فعلها، كان يرغب في اللحاق بقارب النجاة، قارب ينتشله من قلة الحيلة والعوز، قارب ينتشله من الفقر، ذهب إلى سمسار المهاجرين، ووعده بأن يصحبه إلى أرض أوروبية بيضاء مثل السماء، دفع له أربعين ألفا، ضاعت الأموال في عرض البحر، وتخلى عنهم السمسار، وهرب، وتركهم في مياه سوداء مرعبة.
في جلسته بشرفة بيته بالشوارع السماوية، كان بمقدوره أن يرى جيدا سمسار البحر المظلم وهو يعمل في دأب، مواصلا النصب على ضحايا آخرين لإطعامهم لقروش بحره، كان يعرف أنه سيستقبلهم عما قريب، وربما يسكنون بجانبه، في الشوارع التي اختطها في قلب السماء، لكنه لم يستطع من سمائه التدخل لإحباط خططه، أدرك لماذا يصبر صانع الكون على ما يحاك في الأرض من شرور.
أخذ يعد العدة للقادمين، الضحايا الذين سيجدون أنفسهم عما قريب وحيدين في البحر المظلم، بنى لكل منهم بيت، زودهم بأدوات العمل، وبذور لزراعة فدادين شاسعة في السماء، تحولت السحب بفضل جهوده إلى قطع خضراء متجاورة، هي الآن أفضل مما كانت من قبل، كانت صحراء بيضاء عجيبة، صار هناك بيت في كل قطعة خضراء ، وفي كل بيت أحد هؤلاء الغرقى الأحياء، الذين تمنوا العبور للقارة البيضاء، وبصحبة كل منهم فاتنته التي حلم بها، أو تمنى الوصول للقارة البيضاء من أجلها.
لم يكن بمقدور أحدهم أن يشتري حصادهم بأبخس الأثمان، أو يحاصرهم ليضارب في الأسعار، كانوا دائما يحصدون ما يزرعون، ولا يجدون أزمة في تبادل ما زرعوه بينهم، المزروع كان يجد دائما أفواهًا مستعدة لتناوله، كانوا جميعا سعداء بتقاسم نتاج جهدهم، لم يجدوا مشقة بالغة في تبادل ما زرعوا عن طيب خاطر، لم يشعروا أبدا بالغبن، لم يتسلل الحسد لقلب أحدهم، لم يفكر أحدهم مثلا في أن يستأثر عن الباقين بثروة جهده، حتى آثار تعبهم في زرع سحاب السماء، لم يشعروا به، كانوا يعملون بمنأى عن الشمس الحارقة، لم تلسعهم أشعتها يوما، لم تنبت ذرات عرق على جبينهم، لكن الخير مع ذلك كان وفيرا، ويكفي الجميع.
استكشف السماء، التي كان يخشاها مع الآخرين في فصل سابق من حياته، كان يسمع عنها أقوالا مربكة، ومحيرة، يسمع البعض يتحدث عنها في كآبة، أو يتخوفون من الصعود إليها، يظنون أن من ارتقى انتهى، والحقيقة أن من ارتقى وجد كل ما تمنى، وجد فيها أقمارًا بوسعه أن يلمسها، ونجوما يستطيع أن يحركها، فتعكس ضوءها للأرضيين كما يشاء هو، بدأ يلاعب أطفال الشوارع في قريته، يرسل لهم أضواءً لامعة، يحرك النجوم حركات مائلة، فترسل أشعتها مركزة، تتحول إلى جدائل حبال ناعمة، تعلق بها الأطفال، فجذبهم إلى سمائه، أنقذ منهم من كان شريدا، لقيطا، أو جاء ضحية حب عابر، صنع من أنوار النجوم حبالا انتشل بها الأطفال الذين يتخذون من إسفلت الشوارع مضاجع، ويتألمون من شدة البرد، أو من غزوات راغبي المتعة من أجسادهم الصغيرة.
سكنوا معه البيت الكبير المطل على شارعي السماء، ثم منحهم غيطان السحب، يعملون فيها ويزرعونها ويحصدونها، تحولت السحب البيضاء إلى كتل خضراء خصبة، لم يكن لها من قبل عبير أو روائح عطرة، من يعرف رائحة السحب كيف تكون؟ تحولت السحب إلى غيطان مزهرة، تنبعث منها عبق الياسمين والفل والريحان، وتتلون جزيئاتها بألوان الورود الحمراء والصفراء والبنفسجية.
قرر أن يستكشف باقي عناصر السماء، خطا بجرأة نحو الشمس، لم تلسعه حرارتها عكس الشائع، مد كفه نحو قرصها المتوهج، فشعر بدفئها، أيقن أن العلماء شوهوا سمعة الشمس لعقود، كذبوا لحاجة في أنفسهم قضوها، تحسس القرص بجرأة أكبر، ثم أمسكها في حذر، أضاءت الشمس قلبه، شعر بدفقة نور داخل جسده، سرى تيار من أشعتها في دمه، حانت منه نظرة إلى جلد بشرته، وجلد ساعده، وجلد صدره وبطنه، بينما يسري الضوء في هذه المواضع من جسده ليصير منيرا، متوهجا.
فوجئ أيضا أن وزنه خف، اكتشف أن حركته صارت أسرع، يجدف بيديه، فيمر في سرعة حول الشمس، ويتمكن من قطع دولا وقارات، صار بوسعه الآن أن يتفحص العالم، وجد نفسه في ظهر الشمس، مطلا على القارة الأمريكية، جبالها الممتدة، وبحيراتها التي درسها في الجغرافيا، وأهلها البيض والملونين، نظر فى سعادة للناس الذين حملقوا فيه، دون أن يشعروا بالغرابة، قتلت الأفلام التي يشاهدونها المفاجآت داخلهم، مرق في سرعة وهو لم يزل محمولا على كفوف الشمس، فوق البلاد الصفراء، يتشابه أهلها في الملامح، كأنهم توائم، كان بوسعه أن يحط فوق أسوارها ووديانها، لكنه خشي أن يترك قرص الشمس، وأن تنقطع الرحلة، همس أحدهم في أذنه.. ألا ترغب أن ترى الجليد الأيض.. وحيوانات الباندا.. لم يعرف كيف يفعلها.. هل يحرك قرص الشمس فى اتجاه معين، قال الصوت في أذنه..هي بلاد لا تشرق عليها الشمس..هي بلاد عدوة للشمس، خشي أن يكون الصوت وسواس، يخرجه من نعيم الشمس، إلى صقيع خصومها، تجاهل الصوت، وظل معلقا كفه بقرص الشمس الدافئ.
حينما انتهت الرحلة، وجد نفسه معلقا في هلال، كانت أشعة الشمس تنسحب ببطء من جسده، غادره الدفء، وقاده الهلال من كفه إلى قطعته السماوية الأولى، كانت القطع المجاورة قد عمّرها ضحايا السمسار، الباحثين عن القارة البيضاء، اقتطع كل منهم شارعين من شوارع السماء، وبدأوا يستكشفون عناصرها، أحدهم كان يسلط أنوار النجوم على أطفال الشوارع، وآخرون كانوا يمضون تجاه الشمس، ليقطعوا معها رحلة إلى البلاد التي تمنوا أن يدقوا على أراضيها بأقدامهم، تركهم يكررون رحلته، هي الرحلة الوحيدة التي لا يدفع أي منهم نقودا أو مبالغ باهظة نظير إجرائها، ولا يضطر أحدهم لشراء تذكرة سفر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى