شوقي بزيع - الطريق إلى جبل الأولمب

لا أعتقد أن بوسع المرء أن يهمّش قضية تحرير الجنوب أو يغفل تلك اللحظة التي فصلت بين مرحلتين من حياتنا جميعاً. في الفترة التي سبقت عام ٢٠٠٠ أتيح لي على امتداد عقود من الزمن أن أعايش كل المكابدات التي تعرّض لها أهلنا هناك والتي كنا جزءاً منها، حيث بعد تخرجي من الجامعة كنت أعمل أستاذاً للّغة العربية في ثانوية صور الرسمية. لا أذكر على وجه التحديد عدد المرات التي تعرّضَت فيها مدينة صور للقصف، والتي نزلنا فيها إلى مداخل البنايات، التي تشبه الملاجئ إلى حدّ ما، أو المرات التي كنت أذهب فيها إلى قريتَي زبقين في الجنوب ولا أصِل، أعود القهقرى من حيث جئت. وإذا حدث أن وصلت، فلا أعرف متى يبدأ القصف ومتى ينتهي، فلا سقوف هناك تظلّل الناس، ولا ملاجئ. وإذا كان لنا أن نرسم خريطة لعدد المرّات التي قطعها الجنوبيون باتجاه بيروت أو مناطق أخرى وهم يتعرّضون للتهجير بفعل الاجتياحات المتعاقبة، والقصف المتواصل، أو عدد المرّات التي عادوا فيها من جديد إلى قراهم، لحصلنا على ما يشبه المتاهة التي لا أوّل لها ولا آخر، وعلى كمّ لا يُحصى من القهر والعذابات، من الخوف والإذلال والوجع، الناس الذين فقدناهم، كل هذه الأشياء أتذكرها الآن وأنا أستعيد لحظة التحرير، هذه اللحظة التي تبدو قادمة من المتخيَّل الجمعي، من الأساطير والملاحم.
سيكون من باب الجحود والنكران وقلّة الوفاء أن يخرج علينا من يتنكّر لهذه اللحظة الناصعة في تاريخنا، وهي لحظة لم تحصل صدفة ولكن دفعَت المقاومة، وطنيةً كانت أو إسلامية في ما بعد، أثماناً باهظة من أجل تحقيقها: لقد بدا الشهداء يقطعون الطريق نفسها التي قطعها العداؤون اليونانيون القدماء إلى جبل الأولمب، حيث كان على كلّ منهم أن يسلّم الشعلة إلى رفيقه، وحيث سقط العشرات قبل أن تصل الشعلة إلى قمة الجبل. يكفي أن نقارن ما صار إليه الجنوب قبل عام ألفين وما كانه من قبل لكي نتبيّن حجم الانتصار الذي تحقّق: هذه البيوت التي نزورها الآن، هذه البيوت العامرة والأبنية العظيمة التي تنتشر في قرى الحدود على مرمى حجر من جنود الاحتلال، هذه الحدائق الوارفة... كلّها لم تكن لتتحقق وتنجز وتشيّد لولا التضحيات التي بُذلت في سبيلها. لم يُرفع حجر فوق حجر إلّا على العمود الفقري المكسور لشهيدٍ هناك. لم تتفتّح زهرة إلّا من ذلك النزف، الذي سال من غير جرحٍ من الجراح، وحتى الرياح تبدو كأنها صدى لنشيج أولئك الذين كانوا يتألمون بانتظار أحبائهم الذين وعدوهم بالعودة ثم لم يعودوا. الرياح مصنوعة من تنهّدات هؤلاء الناس والمياه مصنوعة من دموعهم: لذلك شعرنا أن الأقدام ليست وحدها التي تطأ الأرض المحرّرة، بل إن الروح تتحرر من عقالها، والنفس تتحرر من خوفها، والنظرات تتحرر من عمائها. وهنا لا بدّ لي من أن أقول بأنه حين تكون الأرض محتلّة، يصبح هناك فقدان لكل عناصر الوجود، وعدم القدرة على رؤية الأشياء على ما هي عليه. نتخيل مثلاً حين نقف على تلة مارون الراس وننظر نحو فلسطين المحتلة، ثمة شيء ما ناقص في المشهد، ثمة شيء تشعر العين بالعجز عن رؤيته لأن هذه الموجودات التي هناك مصادرة منا، لأننا نحمل إثماً كبيراً ووزراً في كونها مصادرة، لذلك النظرات تختلط بالشعور بالخوف والمهانة. الناس الذين كانوا يموتون في الجنوب المحتل، كانوا يشعرون أنهم يذهبون قبل الجنّات الموعودة إلى مطهر لا نهاية له، شعوراً منهم بالتقصير في الدفاع عن الأرض، وأتحدث هنا عن الموتى العاديين. تحضرني في هذه اللحظة القصيدة الأولى التي كتبتُها إثر التحرير عام ٢٠٠٠، إذ لم أشأ أن أكتب قصيدة ذات نبرة انتصارية، دعائية، أو شعاراتية، أو مثقلة بالخطابة الجوفاء، لأن الشهداء الذين قدّموا أثمن ما لديهم وأعطوا للغة الجسد أفضل تجلياتها، كان علينا أن نلاقيهم في تجليات لغوية مماثلة. ولذلك استيقظت فيّ فجأة شخصية عبد الأمير عبد الله، الكاتب والصحافي الساخر والضاحك والطريف والمأساوي الذي كان يعيش في بيروت وأصيب بمرض السرطان ثم دُفن في روضة الشهيدين. كنت أعرف عبد الأمير ومدى تعلّقه بأرضه الأم في بنت جبيل، فحين سمع أن الجنوب تحرّر، حين سمع بالطبول التي تدق، والأناشيد وأهازيج العائدين، استيقظ من موته ومشى مع العائدين لكي يُدفن حيث يجب أن يُدفَن، في أرض بنت جبيل، والقصيدة كلّها تدور في مكان ما بين لحظة الانطلاق من روضة الشهيدين ولحظة الوصول إلى بنت جبيل. الفن يجد في مثل هذه اللحظات، مكاناً وموطئاً له ولا يملك إلّا أن يحابي تلك اللغة العالية التي قدّمها الشهداء على طريقتهم كأفصح ما تكون الفصاحة.

بعد عشرين عاماً من التحرير، ونحن نعايش الآن هذا التقهقر المرعب في حياة الوطن، ونحن نرى بلدنا ينهار على من فيه، واقتصادنا متداعياً والجوع والفقر في كل مكان، نرى سلطة سياسية لا تكّف عن نشر أوبئتها وفسادها في ربوع الوطن وأصقاعه، فلا بدّ لنا من أن نسأل: أمن أجل هذا دفعنا ثمن تحرير الوطن؟ هل ينفع أو يستقيم تحرير الأرض مع استعباد الإنسان؟ ولذلك أشعر بأنّ هذا التحرير الآن مثلوم ومهدّد بأن يُسلب منه معناه. يبدو الوضع من هذه الناحية أكثر إيلاماً مما كان عليه قبل التحرير، والسبب أن طعنة العدو تجرح الصدر ولكن طعنة الصديق تجرح القلب، أن نجرحَ من بيت أبينا، من هؤلاء الذين كان عليهم أن يحموا شعبهم ويقدّروا نضالاتهم، وأن يقفوا إلى جانبه ويوفّروا له حياةً هانئة وكريمة، هؤلاء هم من سلبوه كلّ حقوقه وصادروا ممتلكاته ونهبوا ثرواته والآن يريدون أن يتنصلوا من كلّ شيء، وأتذكر قول الشاعر الفلسطيني أحمد دحبور في سياق انتقاده لبعض ممارسات السلطة في الداخل ورصاص الاحتلال والأنظمة العميلة: «ما الفرق بين رصاصة ورصاصةٍ ما دامتا تصلان رأسي؟». ختاماً، أحيي كل الذين ضحوا في سبيل تحرير الأرض، من الرصاصة الأولى التي أطلقها الفلسطينيون في الستينات، إلى شهداء المقاومة الوطنية وانتهاء بشهداء المقاومة الإسلامية، أقول بأن المعركة الأهم الآن هي الدفاع عن المكتسبات والوقوف إلى جانب شعبنا الذي لم يبخل بثروته ودمه وحياته ودموعه، ولذلك فالمقاومة معنيّة بالوقوف مع كلّ من يقول بأن تحرير الأرض لا يلغي دورنا في مقاومة الداخل ومحاربة الفساد، فالمقاومة ليست مجبرة على الاختيار بين محاربة عدو الداخل وعدو الخارج، وهي تعرف أن ظهيرها الشعبي سيكون معرّضاً للكسر إذا استمرّ الأمر على ما هو عليه. إن معرض الدفاع عن الشعب اللبناني وقيمه وكرامته هو معركة أساسية ولا تتم إلّا بتغيير جذري للطبقة السياسية المتحالفة مع رأس المال والمصارف والمترفين المتربعين على عرش السُلطة.
أعلى