عبدالله البقالي - اترتتن 2

حين انتهى من الاستحمام، وجد مرافقه بانتظاره في بهو الحمام، وهو يحمل أغراضا كان الحاج عمور قد اشتراها له. و قد ادهشه أنها كانت على مقاسه بشكل دقيق. وقف أمام المرآة. ظل مأخوذا وهو يتأمل شكله. كانت المرة الأولى التي يلبس فيها سروالا طويلا، و معطفا عصريا مع رباط عنق. و لم تتحسس قدماه من قبل دفئا كذاك الذي تشعر به قدماه جراء الحذاء الجديد.
نظر الى الحذاء مسترجعا احدى حكايات جدته التي اوردت فيها تحولا كبيرا لكائن انتقل من مطلق التعاسة الى نعيم السعادة جراء خف كان قد ضاع صدفة من أمير. وهو ما يدفعه للاعتقاد أن في الحياة خيط دقيق غير مرئي. يرتفع قليلا عن قامات البشر، و أن الذي كتب له لمسه، تتغير حياته بشكل ثوري. و ينتقل بموجبه الى الوجهة الأخرى من مساحات الحياة الفيحاء.
الحاج عمور الذي يلعب دور راعيه كان قد نبهه الى وجوب التركيز في جولته بالمدينة على ضرورة حفظ معالم الطرقات، لأنه سيعتمد كليا على نفسه في الزيارات القادمة.
الأجواء التي تحفل بها الفضاءات كانت مبهرة، لحد كادت ان تعطل الغاية من الجولة. إذ لم يكن لا الزمان و لا المكان و لا الأشخاص هم أنفسهم كما عرفهم من قبل. عالم يغري بالإحتفاء، مع إدراكه أن الإنسان حين يصبح مثيرا و جذابا، فهو لا يحتاج إلى مرآة. عيون النسوة و نظراتهن تكون اعمق و افصح مما تستطيع
لكن الصحو عاوده في النهاية وهو يتساءل: لأي أمر يتم تحضيره
لم يستطع الغموض الذي خلفه السؤال من دفعه الى الخوف من القادم. فأجواء كتلك التي يعيشها تجعله مستعدا لا ليقوم برحلة بين الحين و الآخر، بل تجعله متأهبا للقيام برحلات عدة في اليوم الواحد.
توقف المرافق عند باب كبير في عمق زقاق ضيق. طرق الباب و بعدها قال له: هذا رياض الحاج عمور. و انصرف.
فتح رجل أسود ضخم الباب. و على شدته و بأسه البادي عليه، فقد قرأ في ملامحه كل أشكال المسالمة التي تصل حد الخنوع. و الأكثر إثارة كان حين انحنى راسما زاوية قائمة كتحية له.
تسمر في مكانه. لم يشعر من قبل بأنه بالأهمية التي تستوجب تحية كهذه. بل إن التحيات منه و إليه كانت دائما مجرد كلمات مختصرة و عابرة. او مجرد إماءات. لكنه الآن يدرك أن هناك صنف من البشر خلق ليقدم التحية فقط.
حين تجاوز الباب، استقبله شخص آخر أكثر شبابا، و بدا له أنه يعد نفسه كي يخلف البواب عندما يموت أو يرحل بشكل ما.
الرجل قاده عبر ممر طويل تحفه حديقة تنم على أن البستاني الذي يشرف عليها في منتهى البراعة و التخطيط. لكن صوت الحاج عمور الذي علا ، لم يترك له مجالا لاستعراض ذلك الجمال المنثور بعناية. قال الحاج: عيناك زائغتان. أتمنى ألا تكون النسوة قد شغلتك عن حفظ معالم الطرقات.
هل هو مفضوح لهذا الحد؟ و كيف يقرأه الرجل بهذا اليسر؟
في الداخل، كان هناك عدة أشخاص لا يبدو عليهم أنهم يختلفون في شئ عن الحاج عمور. و يبدو ان الحاج قد حدثهم عنه.ولذلك بعد أن التفتوا إليه، تبادلوا النظرا و انفجروا ضاحكين. أحس بالإرتياح لأنهم بذلك قد حرروه من أن يمثل دور رجل محترم. و هذا اعفاه من طقوس تجعله تحت مختلف أشكال المراقبة. لكن فخامة المكان، أفقده الإحساس بالألفة. و من ثم راح يستعرض صفا من الصور مثبتة على الجدران. و التي تفيد أنها لأشخاص من أزمنة متباعدة. سأله الحاج: أوجدت فيها شيئا مثيرا؟
أجاب: هذا الأبيض و الأسود لا يتجاوب مع الألوان المبهجة التي تملأ المكان.
عقب الحاج: الحياة هي في الحقيقة هكذا. خلف كل مشهد تغمره الألوان، هناك مساحة خلفية صامتة. و هي مفتاح كل ما قد نعيشه.
عدل الحاج عمور من جلسته و اضاف بعد ان ادرك ان محدثه لم يستوعب الفكرة و قال: هذه صور أجدادي الذين كانوا نجوما ساطعة في الأزمنة التي عاشوها. و أنا وضعتها هنا لألتقط على الدوام نظراتهم التي تسألني: ماذا عنك أنت؟
لم يفكر يوما في هذا العقد المترابط بين السلالات، و الذي بموجبه يتم حمل الألوية. وهو اعتقد أن كل واحد يعيش طوره و ينتهي الأمر هناك. دون الوية و لا مشاعل. وهو الأمر الذي دفع به لمقارنة حاله مع حال الحاج عمور. و استنتج في النهاية أنه مطالب حين سيهم بمغادرة الرياض، بالتوقف أمام البواب، و أن يرد له تحيته. و يبلغه انه اخطأ في تقديره حين انحنى له. و يبلعه اسفه لأنه و إياه من نفس الفصيلة البشرية الموعودة بالانقراض.
الحاج عمور أعاده لأجواء المجلس، موضحا له انه يجب أن يكون قوي الذاكرة، و أنه حين سيلتقي مجددا بالضيوف الذين يجمعهم المجلس، عليه أن يتصرف و كأنهم معارفه....



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى