فوزية ضيف الله - قصة مجنون وباري، الجزء 7

صعدت أحلام إلى المركب. كانت تجدف رفقة عم حسونة، ضد التيار القوي، كان البحر جميلا رغم هيجانه. ولما أعياها التعب، تمددت في طرف المركب، ونامت مستمتعة بزرقة السماء ودفء الموج، ووهج الشمس. وظلّ عم حسونة يجدف بها، وكان قد فتح في الركن راديو قديما، انبعت منه أهازيج جميلة، ارتاحت لها أحلام. لم تكن أحلام تنوي العودة لجدتها ذلك اليوم، وربما لن تعود أبدا. قررت أن تعود للحياة، للطبيعة، للبحر، وأن تبدأ من جديد رحلة نحت الكيان.
لم يكن عم حسونة يدرك ما يجول في خاطرها، ولكن كان يحس أن أحلام تغيرت جدا، لم تعد تلك الطفلة التي كانت تلعب بالرمل على الشاطىء، وتقذفه بكرات الرمل الطرية. لم تعد تلك الشابة التي عاشت حذو جدتها، لسنوات حياة السكينة والراحة.
كان عم حسونة يعرف قصتها جيدا، ولكنه، لم يكن مرتاحا لعلاقتها بسعد منذ البداية، ونصحها عدة مرات ولكنها لم تتراجع.
نهضت أحلام من نعاسها الخفيف، وراحت تغني، ثم التفتت إلى عم حسونة قائلة:
"عم حسونة، فلتكن أبي"
فرد عليها عم حسونة: "يا ابنتي، انت ابنتي من زمان، اعتبريني أباك، فأنا ليس لي أولاد، ومن سنوات أعيش في كوخي عيشة الغرباء، بعد وفاة المرحومة. فأنت مؤنسي في وحدتي"
أجابته أحلام: "لن أعود يا أبتي، لجدتي، فهل تقبلني عندك، اساعدك في الصيد، وفي ترقيع الشباك، وفي كل شيء، أحتاج إلى أن اشتغل، لأعيش، وأحتاج أن أحيا حرة، سئمت من وصايا جدتي، ومن تفريعها لي، ومن عرسانها المتهافتين، اريد حياة جديدة".
صمت عم حسونة ولم يرد.

فأضافت: " ساعدني كي أتصالح مع الحياة"
فأجابها: "تصالحي أولا مع نفسك، ومع ماضيك"
فردت: "كيف، كيف، كيف أنسى أنني قذفت للحياة كالكرة، ركلتني الأقدار، يتم، تشرّد، حب، ضياع، ايقاف، ظلم، يأس، بطالة"
لم ينبس عم حسونة بكلمة، ولكنه، سحب من صندوقه لفة من الأوراق القديمة، وناولها لأحلام، قائلا: "هذه الأوراق ستساعدك أكثر مني، دوني ما شئت، تحرري من ماضيك ومن شقائك، وارم كل ما تكتبين للبحر، هكذا علمني البحر. كان البحر يقرأ ما أكتب، يحفظ أساراري، يكتم وجعي، يتنفس معي، يمسح دموعي بصموده أمام الريح. لقد علمني البحر أن الانسان لن يحتاج إلا لنفسه لينهض، وأنت ستنهضين اليوم، وعندما نعودالى الكوخ، لا أريد عودة للماضي، لا أريد سماع أوجاعك. تماسكي واقذفي ما يوجعك بعيدا عنك، تمردي على هونك، وعلى ضعفك....."

أمسكت أحلام لفائف الورق، وقلما لتكتب، بينما واصل عم حسونة تجديفه غاضبا. كانت الطيور تعبر البحر في رقصة لا مثيل لها، وتغني غناء رقيقا. استسلمت أحلام للكتابة، تباطأت، ثمّ فكرت، وأطرقت، وبعد ذلك انهمرت حروفها ودموعها في آن. حاول عم حسونة أن يبتعد عنها قليلا، فلا يرهقها بفضوله، ولكنها لم تعد تشعر بالمكان ولا بالأشياء. تاهت مع حروفها وراحت كلماتها تتهاطل كالسيل.
قالت في نفسها: منذ زمن لم أمسك قلما لأكتب، أقلامي تراجعت أمام فرشاتي، ثمّ ارتحلت عن الحروف وعن الألوان. كم أنا تعيسة. تركت مركبي يجدّف بلا قرار. كان قلمي يكتب مطالب التشغيل المرفوضة، ويمضي على عرائض الإيقاف ويرسل رسائل لم تقرأ، كنت أكتب للمجهول. كنت أكتب لسعدي النائم.
ثم كتبت:
من عمق البحر، ستنهض الحياة في، من نقطة الصفر انطلق في التجديف نحو بداية جديدة. تمسكت بك واقعا وحلما، ولكنك كنت غائبا. خاطبتك شعرا ورسما ولكنك كنت نائما أو ميتا أو ضائعا. اليوم اقتلع هواك من نبضي. اليوم أقص جذورك من أرضي. اليوم اترك موطنك وأرضك وجدبك. ماتت ورودي بعد أن أهملتها، أنت لم تكن تريد لي الحياة، كنت تريد لي أن أموت في أرضك وأدفن في أرضك. كنت أخاطب ميتا بلا روح، كنت الون حائطا بلا أساس. طال انتظاري، وماتت أشعاري. بح صوتي وحان أن تتلاشى في، للأبد. على هذا المركب سأرحل عنك، بل أنت الذي رحلت والآن لن أعود للبحث عنك. أنت الذي جعل حياتي مسرحا للأخطار، أنت الذي قلبت علي الليل والنهار، أنت الذي شردت مضجعي، هجرت أهلي وورشتي، هجرت لوني ومحنتي، لأكون نصيرتك في القضية، ولكنك يساري فاشل، يساري لا يعرف كيف يحمي حياة من يحب.
تم ايقافي مرات بسببك أنت، وطردت من الجامعة، ورفضت مطالب التشغيل التي أرسلتها. أنت لم تقتنع أنّك كنت يساريا مثاليا، تحاول تطبيق فلسفة لا تجدي نفعا. اليوم أنا أحتاج أن أعيش. لن أبحث عنك مجددا. لقد صار طريقي مختلفا عن طريقا، مسالك الروح تعطل طريقا إليك."
واصلت أحلام الكتابة.، تنفست قليلا، ثم رمت بالأوراق للبحر، واستمرت تراقبها وهي تسبح الى أن اختفت عن نظرها، وابتلعا البحر الهائج. اطمئنت أحلام عندما أفرغت ما في جعبتها من غضب وحزن، استدارت قبالة الشمس، مسحت ما تبقى في وجهها من دموع ثم توجهت نجحو عم حسونة قائلة: "تمت المهمة"
كان عم حسونة يراقبها خلسة، ولم يرد عليها، بل انهمك في تحضير طبق من الحوت المشوي.
شارف المركب على الوصول إلى جزيرة صغيرة في عرض البحر. وكانت العاصفة تشتدّ. ولم يعد عم حسونة قادرا على التحكم في المركب، فربما سيختار أن يرسي بالمركب في تلك الجزيرة، إذا استحالت العودة عليه.

د.فوزية ضيف الله ،تونس
  • Like
التفاعلات: نبيلة غنيم

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى