د. سامي عبد العال - السياسة وقُرون الفَحْل

بعد أيّةِ تحولاتٍ سياسيةٍ كبرى تمُر بها مجتمعاتُنا الإنسانية ( مثل الثورات، تغيير الأنظمة الحاكمة، الاصلاحات الجذرية في أبنية الدول...)، ثمة حاجةٌ إلى التذكير بأهمية كلِ فعلٍ عامٍ. أقصد ضرورة الكشف عن معناه ورواسبه الضمنية والعوالق التي تعلق به، لأنه كشأن يخص المجتمع ربما يتعرضُ للانحراف طالما يتوقف على الرؤى والاتجاهات المتنوعة. أهو فعل سيستمر حقاً بهذا التوصيف العمومي أم لا؟ إنَّ الفعل السياسي الحقيقي يتركُ أثراً تاريخياً بعيداً، كما لو لم يحدث في حياتنا من قبل. بحيث يلامس رُوحاً إنسانياً (كلياً) لا يُخْطّئ الواقع، إذ ذاك يَمسُ أثرهُ التاريخيُ الأعصاب الاجتماعية والسياسية لحياة الناس.

الأقرب للاحتمال أنَّ المجتمعات التي تتقبل ذلك هي مجتمعات حيّة، قادرة على الانفتاح إزاء أي حدث ولو كان بحجم كيانها الخاص. إنَّها تستطيع إعادة العيش وفق تاريخٍ مفتوحٍ، وتغطي الأعصاب التي تهتكت- نتيجة التغيرات والتوترات- بمزيد من الأنسجة والأربطة البديلة. لأنَّ مجتمعاً نابضاً بالتاريخ يكسُو ما يتعرى بأشياءٍ تحل محله وتؤدي المهام المفترضةَ وفقاً للتطورات الزمنية التي قد تحدث.

ضمن هذا الوضع، تختلف المجتمعات بالتأكيد عن الأفراد، فالتجارب التاريخية لديها لا تذهب إلى ذاكرة خاصةٍ، بل إلى ثقافة نوعيةٍ تجعل المرور بمنعطفات خطرة أمراً ممكناً وقابلاً للاستيعاب. إنَّ ذاكرة التاريخ تستحضر ما سيحدث، كأنَّه قد حدث بالفعل رغم المشكلات والمفارقات التي تظهر تباعاً. وهذا قد يُسمى بالوعي أو قراءة الواقع أو رسم خريطة المستقبل، لكنه في كل الأحوال هو الإمكانية التي تتوافر في أرصدة المجتمعات الحية والتي تثري وجود أفرادها طوال الوقت.

لكن يبقى الأهمُ أنَّ أية أسئلةَ تطرحُها المجتمعات مثل: أسئلة الحرية والعدالة والآخر والقانون، سيكُون لها جانب من الطابع العام بالمثل، طابع حركة التاريخ الكلي لوجودها الذي يأخذ دورات أخرى. وإلاَّ... فإنَّ تفاهة الأسئلة ستُنبئ عن تفاهة المصير الذي يترصدها. وهذا ما جرى للأسف بالأمس القريب مع تحولات الربيع العربي وما زال يجري. حين اهتمت دولنا العربية بالأشخاص فقط وبتبديل الأشكال، ولم تهتم بالقضايا ولا بالمبادئ والقيم ولا بالمصير العام. المصير الذي يجب رسمه بأمانة ودقة هو النتيجة التي تشتق من لحم التوقعات الكبرى المنتظرة والمفترض أنْ تقويها أنشطة التعليم والفكر والثقافة بحكم أن المجتمع هو بيئتها الخصبة. يقول أبو القاسم الشابي: ومن لم يعتَّد صعودَ الجبالِ ... عاشَ أبد الدهر بين الحفر.

الأزمة في المجتمعات العربية أنَّها سياسياً تطرح أسئلةً فرديةًindividual questions. فتكون الإجاباتُ مشتِتّةً وإقصائيّةً وتنقلب من مرحلةٍ إلى سواها، ثمَّ تفكر أنظمتُّها طوال الخط بمنطقٍ أحادي في انتظار دولة البطل الفذ. فما كان إلاَّ أنْ يتضخم الأنا ليحل من بعده الطُوفان، سواء أكان هو سبب الطوفان(أي يترك أثراً كبيراً) أم نحن السبب(الفاعل الجمعي) له، وقد حدثَ هذا الطوفان بليبيا واليمن ومازال يجري بسوريا.

على هذا النحو، فإننا نفكر بقرون الفحل الذي يَعْلّم أنَّ أمامه صخرةً فيصرُ على مناطحتها دون جدوى، أو كهذا حال الفحل الذي أدخَل رأسه في الصومعة (الدولة) لالتهام كل الحبوب. واجتمع أهل الحل والعقد لإخراج رأس الفحل لكنهم عجزوا، باتت المفارقة لا حل لها: الحفاظ على الصومعة دون بالرأس أم الرأس بلا صومعة. لكن النظر كان دوماً على الحبوب، فتكون النهاية- كي نأخذ باقي الحبوب- أنْ يتم قطع رأس الفحل ثم هدم الصومعة بأكملها( الاثنان معا). ذلك أدق توصيف لما جرى من هدمِ بعض الدول العربية أثناء وبعد الأحداث السياسية الربيعية التي مرّت بعد قطع دابر الحاكم الذي كان فرداً. ومع ذلك لم تنل شعوبُها الحبوب التي تمتلئ بها الصومعة( النفط والثروات وحتى الأرض). وبالتأكيد لا يخلو الأمرُ: أننا قد نزن الأمور بمنطق الكتلة الفارغة التي تُرجّح أيّ امتلاءٍ أو تبحث عنه بمسميات دينية أو أيديولوجية أو سياسية!!

هل أقولُ.. ليس مصادفةً أنْ يخترع العربُ الصفرَ في مجال الرياضيات؟! حتى شاع عنه في تاريخ العلم مصطلح (الصفر العربي) Arabic zero. وفعلياً هو صفر لا قيمة له، غير أنه يُسببْ امتلاءً وفارقاً داخل أية منظومةٍ عدديةٍ. وبذات القدر يلعبُ دوراً أثناء وقوعه الحسابي يميناً أو يساراً من الأعداد. لكن الشيء المدهش أنه بالتوازي مع ذلك, ونظراً لأن الجوانب التاريخية من الثقافةِ واحدة، فقد يُفهم الواجب السياسي في معناه الكلي لدينا كمعطى صفري دون قيود ولا أعداد.

بمعنى أنَّ المسؤولية السياسية في عرف الرجل العربي ليست مصحوبةً غالباً بالالتزام بقدر ما هي طائرة مع أهواء وغرائز الأفراد. وعليه فإنَّ نتائج جمع المسؤوليات بجوار بعضها البعض تساوي صفراً. وقد يتفلّتْ المسئولُ عنها خارجاً مثل الشعرة من العجين. وحتى إذا أتى الالتزام بالتغيير أو بتهيئة الجديد، فلابد أنْ يأتي قهراً ومغالبةً. أي سيتحقق الالتزام-وهذا شيء فريد بمعايير السياسة المعاصرة- بصيغة الإلزام الذي يتمُّ فرضه من قِبلّ قوةٍ قاهرة(سواء أكانت الشعوب أم غيرها...).

تأكيداً لذلك، فقد وضع ابن خلدون تفسيراته لحركة (نشوء أو زوال) التاريخ السياسي للعمران ارتفاعاً وانخفاضاً في ضوء الغلبة والتوحُش (كنوع من الاستثمار لقدرات الفحولة السياسية) ولا ننسى أنَّ قبلهما كانت هيمنة (المُلْك العضوض) على الدولة. فالدورات تبدأ بالمُلك القوي الشكيمة إلى حين، ثم تجابهه الغلبة والتوحش من قوةٍ أخرى تأخذ مكانه، لتحدث نقطة توازن مؤقتاً إيذاناً بدورة جديدة ... وهكذا.

وإذا كان ذلك هو الحال الموروث، فلن يعادل الغلبةَ خلال الحياة المعاصرة إلاَّ منطقٌ جديدٌ قائم على الفعل السياسي العام. الفعل المستند بدوره إلى منطق فلسفي متسامح يُبطل نزوع التوحُش الفحولي ويبني أواصر الدولة التي تسع الجميع. ومن حينهِ يمكن للفرد أنْ يقول للآخر أمامه: ماذا أفعل لو كنت مكانك كي أقف في صالح الآخرين: وماذا تفعل لو كنت مكاني لنعمل من أجل الآخرين جنباً إلى جنب. ثم علّنا أنْ نلتفت سوياً: أنَّ هذا الموقف موقف يُحقق مصلحتك ومصلحتي بالوقت نفسه!!

ذلك الأمر جعل موضوع التغيير فكرةً واقفةً بقوةٍ ضمن مسار الوعي بمقدمات ونتائج الأفعال السياسية العامة. هذه الأفعال التي لا تسقُط من أعلى ولا تصعد من تلقاء نفسها عبر الثقافة السياسية الجارية. إنَّها بلا ريب قدرة الإنسان على التأثير في مجتمعه بمنطق الجمع دون استثناء وبلا طرح، ودون إشعار الآخرين بأنَّ هناك قبضةً تستأثرُ بزمام الأمر بمنأى عنهم. السياسةَ في تاريخ البشر( أو هكذا يجب) هي فعل كلي يتأتّى من هنالك حيث مشاركة الأفراد معاً، أي من تأسيس لمنطقي العمل العام وإمكانية الحقوق عمقاً في بنية المجتمعات. والفعل السياسي بتلك التبعية هو الوضع المراوح، المتبادل على الدوام في تحويل "المصير" إلى قوةٍ لا تبرح أهدافها الكلية دمجاً لآمال الناس معاً.

إنَّ الفعل السياسي العام هو المفارقة المتمثلة في تحقيق آمالي عندما تحقق أنت آمالَّك، فعل يكمُن في التعبير عن ذاتي متى أخذت أنت كامل حقوقك في التعبير عن ذاتك. ولئن كان الفعل يفترض شيئاً مستحيلاً، فإنه يفترض قدرتنا على رسم مجال التأثير مع إعطاء الحرية المنعزلة لكل منّا. كل هذا التشارك يجب أن يتم دون الانجرار نحو طُرق عنيفة أخرى تقتضي ألاَّ نغض الطرف عن مساربها الجانبية، وتنتهي بفرز الأشياء بثنائية الصراع( مع أو ضد).

المسألة المُغذِية لأزماتنا السياسية كما تكشف اللغة أن: سَاسَ، يَسُوسُ في الثقافة العربية اشتقاقان يعودان بنا في المقابل إلى حُكم الفرد وهيمنته، حتى وإنْ كان الفردُ موجوداً في نظامٍ سياسي له أطره وآلياته الموضوعية. وهما بالمثل اشتقاقان يُدْخِلانِنا إلى حظيرة السياسة ورقابنا مربوطة بسياج فحولي أسطوري. أليس الفحل مسئولاً عن القطيع الذي يرعى حوله؟

فعل السياسة في الثقافة العربية عالقٌ تماماً لدرجة التشبُع بمحددات سلطوية، جهوية، توحشية- طبيعية. وفوق ذلك هي محددات تجعله عاجزاً عن التحرر من الامتلاك الفردي، الفئوي، الطبقي، القبائلي، وهذه أبنية واردة من وقت لآخر. ولكي نفهم خطورة ذلك، فقد كان مدلول النظام السياسي ولازال مرهوناً بتاريخ الذهنية العنيفة. وهو مدلول ينكشف في أفق الاستثناء العربي الراهن(بعد الأحداث السياسية الربيعية)، مطبوعاً بآثار الاستبداد واسع الانتشار في قطاعات المجتمع العربي من الفرد إلى الكتل والأحزاب. لقد كانت الجموع تبحث دوماً عن مُنقذ، عن فحلٍّ بإمكان قرونه القوية مشاكسة الأغيار ودحرهم ليس أكثر( صراع الفتوات بلغة نجيب محفوظ).

إنه يصعب فهم الفعل( سَاسَ) في التاريخ السياسي العربي دون طرفين متراتبين: حاكم ومحكوم وبينهما هوة سحيقة لا قرار لها. الوضع كالتالي: حاكم له سدنتّهُ، حواريُوه، أتباعه، خدّامه، كُتّابه، مدبجُو صحائفه، وله بالمثل مشذبو شعيراته يميناً ويساراً، وله بالتتابع محققو أحلامه وإن كانت فقاعات هُلامية. وله مرتبو خواطره المتناثرة ولو كانت خربشات أو تسلخات من طفح الخيال. وله حملة مباخره في أي اتجاه شاء، وله راسمو خرائطه المتخيلة بدءاً من أنفه إلى منتهى بصره وقرون استشعاره.

هكذا كان يخطب أبو جعفر المنصور يوم بالناس: إنما أنا ظلّ الله في أرضه، أسُوسُكم بسلطانه وأعطيكم بفضله، إنما أنا قفل، فادعوا الله أن يفتحني لكم!! ولنا إنْ أردنا أنْ نتعقب حشداً من" الجعافرة" على غرار المنصور في دهاليز التاريخ العربي والإسلامي. فكم كان المنصور ولاّداً خلال خلات دورات من العود الأبدي بعبارة نيتشه. كان فيه العرق السياسي دسّاسّاً إلى نسل الحكام العرب ملوكاً ورؤساء وأمراءً ومسؤولين(تخيروا لنطفكُم فإن العرق دسّاسٌ).

فالجذر المعجمي سَاسَ، يَسُوسُ، سَائِس، قريب جداً من دسَّاس في اللغة العربية. الفكرة أنَّ الرجل يتخير كذكر موضع فحولته الاجتماعية( مكانته البارزة) عندما يوظف فحولته الطبيعية بالمصاهرة. وكما أن له المغالبة الذكورية في الوطء، فله بالمثل حرية اختيار المغالبة بالقوة التي لا تتوقف أو هكذا ينبغي أنْ تكون على صعيد الواقع. فالأب في الجانبين هو حامل رمزية القوة الاجتماعية. من ثم يجب ألاَّ تصاهر القوةُ غير القوةَ (الحسب والنسب). وجاء لفظ النطفة كتكوين ذكوري بعلامات ثقافية واضحة ارتهاناً بسوابق المصاهرة. وهو ما يعني أنَّ الجينات الوراثية تحمل شفرات أخلاقية-اجتماعية على المستوى نفسه، حيث تمتد إلى ذات الجذور المشتركة بين عناصر السياسة والمجتمع.

وكما أن النطفة كائن مستقبلي ممتزج بمورِثّات ثقافية، فيمكن القول (تخيروا لحُكمِكُم، فإنَّ عرقَ التسلط والاستبداد دسّاس). أي أن نمط الحاكم قد يكون نطفةً سياسية يأتي معها تراث الاستبداد بالمثل، إنه كائن مستقبلي على الشاكلة نفسها وأولى بنا أن نختاره مع الاعتناء بذلك الاختيار عنايةً أكثر من الرحم الزواجي. فالأخير كموضوع للفعل الجنسي يكون مسؤولاً عن حملٍ فردي، بيد أنَّ الحاكم (أي الفعل السياسي بمنطق الثقافة العربية) مسؤول مسؤوليةً مباشرةً وغير مباشرةِ عن حَمْلٍ تاريخي ثقيل، يُولِّد أجيالاً وراء أجيالٍ لها ذات السمات.

والفعل سَاسَ مرتبطٌ على صعيد المضمون أيضاً بوسْوسَّ وسْوسّةً. الشيطان والحاكم عند العرب تفردا الاثنان في الوسوسة والدسيسة والوقيعة إلى مالا نهاية كما في الملاحم والفتن وحروب الإغارة والغزو وحكايات القصور والكواليس السياسية. ومن تلك الأمور جاءت حياكة الدسائس والمكائد والمؤامرات وقت السلم والحرب. ولن نستطيع أنْ نكون لدى أعتاب مرحلة الاستثناء العربي الراهن دون ممارسة سياسية لغوية تعي الانحراف والتخليط لهذه المعاني إزاء الواقع. الخطابة والسياسة هما وكرا التفريخ التاريخي لهذا التضخم اللغوي- الوجودي حول "أنا أحكم فأنا المُطلق"..."أنا ربُكُم الأعلى"..."لا أُريكم إلاَّ ما أرى"، وهذا طرف أول.

أما الطرف الثاني، طرف الشعوب، فهم المحكومون، موضوع التسيس، أي المسُوْسُون. وكذلك هم الموّسْوِسُون والكلمة آتيةً من الوسْوسَّةِ. فالحاكم العربي هو "الوسوّاس القهري" لشعبه ليلاً ونهاراً، شعب لا يملك إلاَّ أن ينفث بتكتم شديدٍ في روع بعضه البعض، لا يستطيع أنْ يتكلم إلاَّ همساً. وهم المنقادون له من غير إرادةٍ ولا مساءلةٍ. ألاَ يقود الفحل السياسي اتباعه طوال هذا التاريخ الضارب بذهنيات القطيع؟! هؤلاء المنقادون خلف ناعق أو المتحلقون حول ذمار، إذ لا مفر من ترديد أغنياته. إنهم المتلقون أيضاً لكل صنوف الهوس السياسي. خليط من الجعْفريّة(ابو جعفر المنصور) والحَجاجيّة(الحجاج بن يوسف الثقفي)، الفاشستية والديكتاتورية!!

والأدهى من ذلك كلِّه أنَّ تلك الأحوال السياسية ظلت معقودةً في المجتمعات العربية مع مثلث ثلاثي الأضلاع: الصمت- الطاعة- الإجِماع. وهي ظواهر اجتماعية وسياسية ودينية علينا دراستها جيداً ومعرفة كيف نشأت واستُعملت. لأنها كانت وستكون حاضنة لكل مستبد قادمٍ. كيف يتغلغل هذا المثلث وينبت في الجسد العام المسمى بالمجتمعات العربية؟ وطبعاً يمكن الاعتراف بأن لكل دولة تجربتّها التاريخية على حدة. وهي التجربة التي تنعقد مع علاقات بنيوية تاريخية جاعلةً إياها متفردةً في ظاهرة التسلط. ظاهرة: سَاسَ، يَسُوسُ، يُوسْوّسُ على الترتيب مع تاريخ وتطور أنظمة الحكم: من الطفولة السياسية إلى الفحولة ثم الشيطنة. وقد أفرزت تلك الظاهرة شعوباً هم في نظر حكامهم مجرد دهماء، بهاليل!!

لذلك وبدعوة من أهمية القضية كان يجب ربط أي فعل سياسي عام بالغايات المأمولة للأحداث الاستثنائية، بالضبط مثلما كان يُنتظَّر منه أن يشكِل المستقبلَ واقفاً على أعتاب مرحلةٍ جديدةٍ. ذلك بعد أنْ بقي مستقبلاً بعيداً، طريداً، مجهولاً. لا مفرّ عندئذ من أنْ يخضع الفعل العام لعمليات "التنقية والفرز" كي يأخذ مكانتَّه المؤثرة من حياتنا المشتركة بتوسيع قاعدة الرؤىة والنظر والتنوع.

ويبدو أنَّه لا تتمّ عمليات تصفية نقدية كهذه إلاَّ بعمل استثنائي بالمثل. أي تجب المراجعة من واقع القدرات العامة للفعل السياسي المُؤثِر إذا ما أضحى قيد الممارسة. إنَّ تبعات الفعل السياسي العام لا يحتملها أيُّ فرد وإنْ كان حاكماً. فهي كانت قابلة للإنجاز ابتداءً بحركة التاريخ جذرياً (كالانتفاضات العامة أو التغيير الأساسي)، ألم نتفق مبدئياً أن الفعل العام يفترض معنى لإرادة عامةٍ، ثم ها هي تتطلب عملاً واعياً كذلك من قِبلّ المجتمع ككل لحظة كشفه لحقيقة مكوناته ووضعها على المحك.

الظاهر أنَّ لحظة الكشف هي إحدى لحظات الوعي والحقيقة النادرة التي تبرق داخل نسيج المجتمعات. فيعرفُ كل فردٍ عندئذ خطورةَ ما يفعل، وما هي ثقل المسؤولية الملقاة في طريقهِ، ومع أي مجهول سيتعامل، حيث تصبح الذاكرة الجمعية قويةً لأنها قد تكشف المشكلات. الذاكرة من هذا الصنف لا تصاب بالثقوب، تعرف تماماً ماذا صنع الأفراد أو الجماعات مع تلك المسؤوليات!! بل يدخل الأفرادُ في اختبارٍ شاقٍ أشبه بعملية الخلق، بمخاض للفرز. فالأفراد( أو الشعوب) أرادوا أن يتذوقوا لذة اللعب مع "المصير" في زمنه( الثورات)، فدُهِسوا تحت أقدام "المصير" في حَدِيتّه( النتائج الضحلة والأقل من المتوقع). فالمصير الحَدِي للمجتمعات لا يأتي في مضمار السياسة عارياً بنفسه، إنه يتشكل بأنماط من الوعي والقوة، هو غير خاضع للتحكم فيه، وهو النهاية التي لا تأتي كما نريد إلا توطئة لبدايةٍ مختلفة. ذلك لكون "المصير"، يحضر دوماً بكثافة المجتمع في أفعاله. ويترك، بل يسحق إلى درجة السخرية من لا يقف على ذات المستوى من الأهمية.

أجدني أمام تفسير لقضية "سقوط الأقنعة" التي أبرزها الربيع العربي آنذاك: حيث أنَّ المراحل التي تشهد أحداثاً استثنائية ربما تشهد بالمثل حرقاً لبعض الشخصيات، لأنَّ المصيرَ أكبر من احتوائه. كما أنَّ الانكشاف العام لا يترك شاردةً ولا واردةً إلاَّ ويضعها تحت رقابة الآخرين. ويكمن الخطر بالمعنى السياسي في وُجُود أفعال المنفعة الخاصة المتعارضة مع الفعل العام. لأنها ستنفرز بموجب مبدأ المصلحة العامة التي تقع بين كل الناس.

وهو مبدأ (مصيري) سيبتلع من يقع في فخه من أصحاب المآرب. وترد أهمية الأفعال الخاصة هنا بمعنى أنها سمة من سمات تكوين المصالح في المجتمعات أثناء الأزمات الكبرى. فكلمة الناس لا تفرق ضمنياً بين مؤمن وغير مؤمن في مقابلةٍ مع التفرقة الصريحة إزاء هؤلاء الناس بين مصلحةٍ ومفسدةٍ بأداتي الفصل المنطقي(إمّا هذا... أو ذاك)، فبعضُ الناس إجمالاً يتأرجحون كقوى فاعلة لصالح الجميع أو ضدهم!!

المهم كما يُذكِّرنا الاستثناءُ السياسي الذي تعيشه مجتمعات العرب أنه من الضروري ألاَّ ينشغل الشخص بمصالحهِ الضيقة. فلم ينصرف "المصير" الحدّي بعد. مازال يراقب الوضعَ عن كثب، وسيواصِل عمله باعتباره جزءاً من حياتِنا، فالحياة في خطر لهي الحياة الممتلئة بنصيحة نيتشه: "عشْ دائماً في خطر". ولقد فعلنا ذلك في تجربتي تونس ومصر... لكننا فيما يبدو أدْمنَّا الخطر كالمخدرات ولم يذهب عنا حتى الآن. وأيضاً لم تغب لحظة الانكشاف السياسي من وقت لآخر، حيث تختبر الأفكار والتوجهات والشخصيات. في المقابل لم يمِل الساسةُ العرب من الحيل والمناورات والضرب مع المجهول قُرباً أو بُعداً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى