محمـد بنـيس - فلسطين أمام " صفقة القرن"

1.
أشكر أولاً "مجلة الدراسات الفلسطينية" على مبادرتها بدعوة نخبة من المثقفين العرب للمساهمة في تأمل جماعي، يخص فلسطين اليوم. فكل من يرتبط بفلسطين والفلسطينيين يدرك مدى الضرورة المستعجلة لهذا التأمل وما يستتبعه من حوار. بل إن غيابه يبرز، بحد ذاته، التراجع المخيف للقضية الفلسطينية على صعيد الاهتمامات العربية.
هذا يعني أن صورة فلسطين اليوم تبدو لي ملبدة بسحب شديدة القتامة. وهي، إلى ذلك، صورة تفتقد الصوت، وسط ضجيج يتراكم يوماً بعد يوم، في وقت لا حديث فيه سوى عن ما يسميه الأمريكيون "صفقة القرن". هي صورة تتأكد لي من خلال ما ألاحظ من مواقف سياسية، ومن خلال وقائع تتوالى، سواء على أرض فلسطين أو على الصعيدين العربي والدولي. لم تعد التضحيات اليومية للشعب الفلسطيني في مركز المشهدين الإعلامي والسياسي. فمسيرات العودة، التي يُحْييها الشبان الفلسطينيون على مدى جمعات متتالية، طيلة ما يقرب من سنة، لرفع الحصار عن غزة والتذكير بالحق في أرضهم المحتلة، رغماً على القرارات الدولية، ومطالبتهم باستعادتها من المحتل، لم تفعل حتى الآن أكثر من مضاعفة أعداد الشهداء، بنفَس ملحمي أصبح شبه منسي. والانتصارات الرمزية، التي حققتها القيادة الفلسطينية في محافل دولية، لا تخفي محدودية جدواها. ما يستبدُّ بالمشهد العام هو سطوة إسرائيل التي تفرض سياستها بالتهديد والعنف المتواصلين، مثلما تفرضه بابتعاد العرب عن الوقوف الفعلي مع الفلسطينيين، وبالاستفادة المطردة من الأوضاع الدولية، في ضوء هيمنة العولمة وجبروت الرئيس الأمريكي ترامب.
من هنا، أرى أن صورة فلسطين، اليوم، هي نتيجة ما مرت به قضيتها. إذ يتضح لي، على نحو جلي، أن فلسطين عرفت، بعد النكبة وقيام دولة إسرائيل، لحظتين من الانكسارات المتتالية : هزيمة 67، التي شكلت النكسة وعلى إثرها تفاقم وضع الاحتلال، الذي كان تجسيده الأقوى يتمثل في احتلال القدس الشرقية؛ اتفاقية أوسلو سنة 1993، التي وضعت الفلسطينيين في سجن كبير؛ وها نحن، مع "صفقة القرن"، في اللحظة الثالثة، هي الفصل المؤدي إلى المتاه في برد عزلة عربية ودولية.
"صفقة القرن"، صيغة أمريكية، وقحة ودنيئة، للتعامل المتغطرس مع شعب أهدرت الصهيونية حقه التاريخي في أرضه باسم حقها الطبيعي المتعالي على التاريخ. أصبحت هذه الصفقة الآن سارية المفعول، حتى قبل اكتمال فصلها الأخير. لن نتستّر على الحقيقة. فقد دشنها نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، وثبتها كل من إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في نيويورك وإلغاء أمريكا دعمها المالي للأونروا. هي إجراءات تفيد بنهاية فكرة حل الدولتين وحق العودة للاجئين الفلسطينيين، دونما حاجة إلى تنصيص القرار الأممي على حدود 67 في الحل النهائي. ما سيلي من المشهد هو إضافة الإهانة للإهانة والرعب للرعب والتشريد للتشريد، بترحيب أكثر من طرف عربي، سيشهر بلا مواربة تطبيع علاقته مع إسرائيل. هللويا!
لا مفر من الإقرار بأن أوضاعاً مركبة، من جهات متعددة، أدت إلى هذه الحالة. لكن غياب ثقافة الحوار بين الفلسطينيين، وعدم بلورة رؤية فلسطينية مبدعة للمقاومة، مقابل ما تحققه إسرائيل من ترسيم الاستيطان وتهويد معالم فلسطين وإعلان يهودية الدولة العبرية، بدعم أمريكي ونفاق دولي، وتبعية عربية مضاعفة للغرب، وسيادة منطق المصالح على العلاقات الدولية بدلا عن المبادئ، في مقدمة العوامل التي أراها فاعلة في عزلة فلسطين.
2.
عاشت أغلب الدول العربية ارتجاجاً قوياً ومفاجئاً تمثل في "الربيع العربي"، إلا أن نتائجه كانت بالإجمال ذات مفعول عكسي لما حملته عاصفة الربيع من بشائر في أفق تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية نحو ما يمثل الحلم الجماعي. نحن اليوم في ظرف عربي كسيح، يتفاقم فيه انعدام الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. وهي الوضعية ذاتها في فلسطين.
لم يخطئ اليسار العربي الذي رأى، على إثر النكسة، أن تحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي يمر عبر تحرير العالم العربي من أنظمة الاستعباد والتبعية للغرب. لكن اندحار اليسار وظهور الإسلاميين بدَّل المسار بأكمله لما كان اليساريون يعتقدون أنه الطريق الصحيح لتحرير فلسطين من الاحتلال.
عندما وقّع الفلسطينيون على اتفاقية أوسلو ساد نوع من الأمل في أن فلسطين ستتجاوز معوقات الحرية في العالم العربي، وهي بالتالي ستصبح نموذجاً للتعدد وتدبير الاختلافات بالوسائل الديمقراطية، مع إنصاف الشعب الفلسطيني بتحقيق العدالة الاجتماعية. ما حصل لاحقاً كان صادماً، لأن بنية السلطة الفلسطينية لم تختلف عن بنية السلطة العربية من حيث النظر، باستخفاف، إلى الممارسة الديمقراطية أو ممارسة الحريات. وأعتبر كتابات إدوارد سعيد، بهذا الخصوص، إضاءة بعيدة الأثر في فهم أسباب المعوقات التي أخفقت السلطة الفلسطينية في التخلص منها.
وعليه، فإن الحديث عن المجتمع الفلسطيني ومؤسساته يتطابق مع الحديث عن عموم العالم العربي، من حيث الاختيارات الكبرى في العلاقات بين السلطة والمجتمع، وما يتطلبه الانتقال من فضاء مغلق إلى فضاء مفتوح، يسمح لأي فرد بأن يتخيل حياة أساسها الحرية الفردية والجماعية. نعم، هي تحديات لا يمكن للتقنية أو المقاربة الأمنية أن تتولى إيجاد الحلول الملائمة لها، في مجتمع يعاني من الاحتلال بقدر ما يعاني من التخلف. ومن ثم فإني أتصور فلسطين تختار علاقة نقدية بمجمل الأسئلة المتعلقة ببناء مجتمع حديث، يقوم على الحرية والعدل والمساواة.
لا تتوقف إسرائيل عن الترويج لنفسها بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وهي، بممارساتها ضد الفلسطينيين، نقيض ادعائها وأكاذيبها. ما يهم أكثر هو أن تبنّي العلاقة النقدية تجاه أسئلة الواقع يمكن أن تخلق أملاً في مستقبل يتحرر فيه الفلسطينيون من الاحتلال الإسرائيلي ويؤسسون دولتهم المستقلة. وأول ما يجب فعله، برأيي، لتحقيق ذلك هو الوحدة الوطنية ومناهضة الفساد. علامتان بارزتان للعلاقة النقدية بواقع الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما بواقع الحريات. وكلما تأجل البت فيهما كان ذلك مدعاة للريبة في القدرة على صيانة الأمل المطلوب.
3.
ظلت فلسطين حاضرة، منذ يقظة وعيي السياسي أثناء فترة الشباب حتى اليوم، في كتاباتي ومواقفي وأنشطتي الثقافية. وإذا كانت متغيرات الفترة الحالية غير مساعدة على تطوير بعض الأفعال الجماعية، فإن الكتابة الشخصية مستمرة في تحفيز الوعي بما تجتازه فلسطين وما يعيشه الفلسطينيون ويعانون منه. هو موقع الحضور المنتبه، الذي يقدم بصيغ مختلفة ما يمكن أن أسميه الوفاء لفلسطين ولأصدقائي من الفلسطينيين، وفي مقدمتهم فقيدنا الكبير محمود درويش.
بهذه الشرارة أكتب نصوصاً بين فترة وأخرى. وقبل مدة قصيرة، انتهيت من كتابة قصيدة تندرج ضمن مشروع شعري ـ فني مشترك مع فنان مغربي صديق. وأنا الآن بصدد الاشتغال على كتاب أتمنى أن أتوفق في إنجازه. وأفكر أيضاً في التعاون مع أصدقاء في عمل لا أستطيع الحديث عنه الآن، لأنه لم ينضج بعد.
وباسم الوفاء ذاته أترجم نصوصاً لصديقي برنار نويل، الذي لا يتخلى عن فلسطين كلما اقتضى الأمر كتابة أو فعْلاً، وقد نشرتها في كتاب يحمل عنوان "الموجز في الإهانة". ثم إنني على حوار مستمر مع طلبة فلسطينيين، يشتغلون في حقل الشعر الفلسطيني. وبنفس الإرادة تعاونت مع أصدقاء مغاربة مناضلين على تأسيس جمعية المقاطعة الأكاديمية والثقافية والفنية والرياضية لإسرائيل.
ما الذي يعني كل هذا (وسواه)؟ لست أدري. أنظر إلى ما أحاول القيام به من حيث هو وفاء، أتقاسمه مع نفسي ومع من يقبلون التقاسم. بدون بطولة أو مساحة ورود. أعرف مؤكداً أن صدى القصيدة يتضاءل شيئاً فشيئاً، وأنا لا أكترث لخفوت صداها في هذا الزمن، إلا في حدود ما يطرحه تهميش الثقافة في مجتمع العولمة. أما موقع الوفاء فهو الذي أحافظ عليه. إنه هنا، علني. منشور. لكنه يطمئن إلى الصمت ويسهر عليه. أن أكتب أو أقوم بعمل ما ممارسةٌ تلقائية تتجنب البحث عن مبرر. وهي، في الوقت نفسه، تدرك حدودها التي تقبل بها، قبول الحرية لا قبول الإرغام. وعندما أنشر كتابة أو أقرأ قصيدة (في هذا المكان أو ذاك) أتحاشى المناسبة، غير أنني أتحرك نحو ما ينعشني. لا أكثر. ذلك هو موقع فلسطين اليوم في حياتي الثقافية.
4.
ما حاولت الإشارة إليه بإيجاز عن كتاباتي ومواقفي وأنشطتي الثقافية يقودني باستمرار لأتساءل عن فاعلية ما أقوم به وما أسعى إليه. مصدر التساؤل هو طبيعة الوضعية الحالية لغياب فلسطين عن الحقل الثقافي العربي. لا شيء يفاجئني في هذه الوضعية. لقد كان المثقفون النقديون هم المبادرون إلى مناصرة الفلسطينيين وإبراز القضية الفلسطينية، من خلال أعمالهم المتعددة ومواقفهم وأنشطتهم في الحياة الثقافية العربية أو على الصعيد الدولي. علينا ألا ننسى ذلك، بل على الشبان أن ينتبهوا إلى هذه المكتسبات وإلى الكيفية التي نجحت بها نخبة من المثقفين النقديين في كتابة زمن كان عنوانه المقاومة المتعددة. ذلك العهد ولّى. فعهدنا اليوم هو عهد سيادة الإسلاميين الذين يناوئون الثقافة الحديثة، والأغلب من بينهم يحرمونها ويكفرون أهلها من كبار الأدباء والكتاب والمبدعين، فيما هم لا يملكون أي منظور ثقافي للوقوف إلى جانب فلسطين. رؤيتهم الدينية تحول دون الوعي بمعنى الثقافة. أما المؤسسات الثقافية، ومنها الجمعيات بشتى أسمائها، فلم يعد لها وجود في الشأن الثقافي. هي إما أنها كشفت عن وظيفتها الإدارية أو أنها افتقدت الرؤية والإرادة. تلك أعطابها التي تجعل التفكير لديها غير ممكن في إبداع أنشطة تضيف إلى الفعل الثقافي بعداً له من الضوء بقدر ما له من الشمول. وما يبقى على مستوى الجامعات فهو عمل بدون اجتهاد. هذه ملاحظة كافية، لا تتطلب المزيد.
لكل هذا أخشى القول بأن علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية ستضيق مساحتها أكثر فأكثر. ما يدفعني إلى الخشية هو إما سيادة القوى الدينية أو هيمنة الاهتمامات المحلية وأسبقية المصالح الشخصية، في زمن تراجُع الفكرة العربية والتحلل من فكرة التحرر.
مع ذلك، نحن بحاجة إلى إعادة بناء علاقة الثقافة العربية بالقضية الفلسطينية. أرى أن ذلك ممكن على أساس ترسيخ الثقة في الفلسطينيين، والوفاء لتضحيات الشعب الفلسطيني والنقد المستمر لكل ما يشكل انحرافاً عن التشبث بالحقوق. إعادة البناء تفيد بالدرجة الأولى حماية المطالب المشروعة، والتخلص من اللغة المريضة بالكسل الفكري أو وهن الخيال أو المبالغة في التمجيد. هي دعوة مفتوحة لإحياء القضية الفلسطينية في مجالات الثقافة العربية وفي محيطها الاجتماعي. بل يمكن أن أتخيل الأصعب، وأقترح التفكير في إقامة مناظرة عربية من أجل فلسطين، برؤية ثقافية مبدعة ومنفتحة على العالم. فحماية روح المقاومة هو المسعى، حتى لا نترك إسرائيل وأمريكا وحدهما تفرضان القبول بصفقة القرن، ولا نسمح لأي طرف عربي بالهجوم الأخير على الشعب الفلسطيني.




L’image contient peut-être : 1 personne, texte


93
أعلى