أمل الكردفاني - طرطوف الثاني.. قصة قصيرة

- أنهض ايها العجوز من تحت حائط الكنيسة...هيا انهض...
وخادم الكنيسة انهال بالضرب على طرطوف، الذي فر جزعاً..
- وحسك عينك أراك تبول على هذه الجدران المقدسة يا ملعون..
تذكر طرطوف ما انتهى به الأمر حينما انكشف رياءه وأصبح اليوم مشرداً لا يصدقه المؤمنون...فلعن موليير في سره، ولعن اليوم الذي جعله إحدى شخصيات مسرحياته التافهة...وهو في ثورة حنقه، رأى رجلاً أعرجاً في مثل سنه يقود حفيدته أو حفيدته هي التي كانت تقوده، كانت في الحادية عشر من العمر. دار حولهما وطلب بعض المال تقرباً إلى الله فنهره العجوز وصاح:
- ابتعد يا أحمق أنني لا اؤمن بهذه الخزعبلات..
فاتسعت عينا طرطوف جزعاً:
- ولكن..ولكن سيدي ماذا تقول...سوف تلقى في الجحيم...
قال العجوز: أي جحيم يا احمق...الجحيم هم الآخرون كما قال سارتر...
أدرك طرطوف ان الرجل يتذاكى عليه، فقال:
- والله؟ والمسيح؟
- كل هذا وهم يا رجل...لا تكن عجوزاً وساذجاً في نفس الوقت..فهذا يشي بأنك لم تخض تجارباً في الحياة كما يفعل الرجال المسؤولون..
صاح طرطوف: أي شيطان ينسل من بين هاتين الشفتين المشققتين من الشيخوخة؟
تحرك العجوز بنفاد صبر ومضى، فتبعه طرطوف وهو يراقبه بعيني صقر خبير...
- صيد جديد..
همس وأضاف:
- ولكن في اتجاه آخر...
التفت العجوز خلفه فرآه:
-لماذا تتبعني؟
رسم طرطوف اضطراباً زائفاً على ملامحه وقال:
-كما تبع التلاميذ السيد المسيح..ليتعلموا منه...
ضحك العجوز طرباً وقال:
- حسنٌ حسنٌ..إنك رجل تملك فطنة التقاط الرؤى الجديدة وتتقبلها دون رفض مسبق وهذا يسعدني...سوف أعلمك..هيا اتبعني..
ومضى العجوز وحفيدته وهو يصفر جزلاً وطرطوف يتبعه...
...
وعلى الضفة الأخرى من المدينة التي يفصلها شارع واسع، استقر منزل العجوز بين شجيرات صغيرة، ورأى طرطوف البيت فأعجبه وزاد من اعجابه تمثال لجسد المسيح مصلوبٌ ولكن بلا رأس. وكان التمثال فضياً بقاعدة ذهبية، اما زوجة ابن العجوز فقد كانت دميمة أشد الدمامة، فحمد طرطوف الله على ذلك حتى لا يقع فيما وقع فيه في الماضي المولييري.
حصل طرطوف على حمام وملابس جافة، وطعام شهي، ثم جلس ليتسامر مع هذه الأسرة التي لا تعتنق أي دين. وكان ابن العجوز يحدثه عن وهم الإله وغير ذلك مما لم يثر عقل طرطوف بقدر ما كان مشغولاً بكيفية الاستفادة من هذا الوضع.
قال الابن ذو الوجنتين المنتفحتين والرقبة النحيلة:
- ولا تحسب أن نيتشه كان خيالياً عندما زعم موت الإله..لا بالعكس فهذا الأمر يتحقق يوماً بعد يوم..هل تعرف أن اللا دينيين في المرتبة الثالثة عالمياً من حيث التعداد..وهل تعرف أن نظرية التطور أصبحت مسألة محسومة علمياً... يا سيد...؟؟؟
- طرطوف سيدي طرطوف..
- يا سيد طرطوف..
قال طرطوف بتأمل عميق:
- الثالثة عالمياً هذا عدد ضخم..
- بالتأكيد سيد طرطوف...
رفع طرطوف فمه لأعلى وغمغم:
- ولكن يا سيدي .. ماذا لو... أقول ماذا لو...بعد أن مت اكتشفت ان هناك إلها وجنة وجحيما؟
ضحك الشاب وقال:
- وهذا بالضبط الذي يجعل الدين مجرد وهم.. أذ أنه لا يستطيع أن يدافع عن نفسه إيمانياً..بل يخاطبنا بمفهوم رأسمالي..هل تعرف يا سيد طرطوف أنه لولا الرأسمالية العالمية لاختفت الأديان تماماً.. نعم..صدق أو لا تصدق..بل أن الرأسمالية تعزز بقاء الدين لأنه الشيء الوحيد الذي يجعل البشر صابرين على عبودية الأغنياء..إنه هيروين الشعوب...
غمغم طرطوف بصوت عميق وبطيئ:
- ولكن ماذا لو ... لو...هل فهمت سؤالي؟
اجترع الشاب كأسا وقال:
-أووووه يا سيد طرطوف لو حدث ذلك فستكون ورطتنا كبيرة حقاُ...لكنه لن يحدث..
قال طرطوف:
- سأخبرك بشيء يا سيدي...
قال الشاب:
- تفضل سيد طرطوف..
قال طرطوف:
- هل تعلم أنني كنت كاهناً من قبل..
صاحت زوجة الشاب بجزل:
- هاااا..كنت أشعر أنك رجل مثقف ولست مجرد متسول يبحث عن المعرفة...
حنى طرطوف رأسه إلى كتفه وأغمض عينيه مصطنعاً التواضع:
- أه سيدتي لم أبلغ مرتبة الثقافة بعد..إنني كنت مجرد كاهن بسيط..ولا أكذب عليكم فأنا لا زلت عبداً للمسيح...
قال الشاب:
- للأسف لم استطع إقناعك يا سيد طرطوف..صحيح..فأنا لست مفوهاً لدرجة اقناع رجل مثقف مثلك..
قال طرطوف:
- لا لم تقنعني.. وليس بإمكانك أن تقنعني..ولكن دعني أخبرك بسر صغير...
انتبه العجوز وأبنه وزوجة ابنه لحديث طرطوف الذي قال بعينين واسعتين يغطيهما شعر الحاجب الكثيف:
- آه فليغفر الرب لي..فما كان عليَّ أن أخبركم بهذا السر أبداً إذ أنه ممنوع علينا نحن أصحاب الكرامات أن نتحدث عنها..ولكن سأخبركم على أية حال...إذ يجب أن أؤدي رسالتي..
تجمعت رؤوسهم لسماع همس طرطوف:
- ربما لا يعرف والدك أنني تبعته لأن هناك رسالة إليه من السماء...
قال الجميع بصوت واحد:
- من السماء..
قال طرطوف:
- نعم يا أحبتي...فقبل أربعة أيام على وجه التحديد رأيت يسوع في المنام..لقد وصفكم لي وصفاً دقيقا..أنتم ثلاثتكم..ولكنه حمَّلني رسالة خاصة للأب..لقد أخبرني أن على والدك أن يشتري الجنة...
قال الثلاثة بصوت واحد:
- يشتري الجنة؟!!!
- نعم يا أحباء يسوع...فليشتري الجنة..حتى لو كان لا يؤمن بالله...
قال العجوز:
- ماذا تقول...؟!!!
قال طرطوف:
- ولذلك سألتك أيها الشاب ذلك السؤال..ماذا لو اكتشفت بعد الموت أن هناك إله..فردوس وجحيم؟...أنتم حقاً لا تؤمنون بذلك..لكن ماذا لو كان بإمكانكم أن تمارسوا التجارة مع الله الذي لا تؤمنون به...ماذا لو كفل الله لكم أنتم تأمينا من المحاسبة والعقاب في الآخرة...خذ يا سيدي..
أخرج طرطوف باقي تفاحة من جيبه وقال:
- هذه هي رسالة المسيح لوالدك...خذ..إن المسيح يؤمِّنك من العذاب حتى لو كنت لا تؤمن به...خذ هذه التفاحة واحتفظ بها وليدفنوها معك في قبرك..
نهض طرطوف بحزن وأسى وقال:
- هل تعرفون ما تعتبرونه أنتم اسطورة..هل تعرفون قصة حواء وآدم والشجرة والتفاحة التي قضم منها حواء وآدم فهبطا إلى الأرض..هذه هي التفاحة نفسها..مرسلة من ابن الرب...والآن وداعاً يا أحبتي...وداعاً..سوف أسكن تحت الشجرة القريبة منكم هناك...فقد انتهت مهمتي...
ثم غادر بخطوات بطيئة متثاقلة..
ظلت الأسرة واجمة حتى قال الإبن:
- هل تصدق هذه الخزعبلات حقاً يا والدي..
نظر العجوز للتفاحة بتأمل عميق وقال:
- الرجل قال كلاماً منطقياً...لن نخسر شيئاً على أي حال...سأحتفظ بالتفاحة...
-احتفاظك بالتفاحة دليل على بقايا إيمان في قلبك..هذامخجل..
قال الإبن بغضب فرد عليه العجوز:
- ليس كذلك..لكن دعونا نتساءل..ألم يتلقّ المؤمنون رهان باسكال بشيء من الغبطة.. رغم أنه ينفي إيمانهم..
قالت زوجة الابن:
- نعم لأنهم لا يفكرون بعقولهم بل بقلوبهم..لكننا عقلانيون..
- آه يا بنيتي..المسألة ليست كذلك..إننا كلا دينيين لا نختلف كثيراً عن المؤمنين...إذ أننا أيضاً ننطلق من زاوية إيمانية..حيث لا يمكن النفي أو الإثبات...إن رهان باسكال ينحو إلى بث اليقين العقلي فيما لا يمكن أن يخضع للعقل..وهذه التفاحة تعطي ذات النتيجة..سأحتفظ بها...
احتفظ العجوز ..وانتقل الخبر إلى عشرات اللا دينيين، ثم إلى الآلاف..وانقسموا بين مؤيد للإحتفاظ بالتفاحة وهم الأغلبية وأقلية ترفض ذلك محتفظة بحدود اللياقة مع القناعات. وهنا أضطروا لتكوين مجمع تفاكري أسموه المجمع المسكوني العقلاني الأول لحسم هذه المسألة..ثم خرجوا بنتيجة بائسة جداً، إذ على كل فرد أن يتخذ موقفه الخاص من المسألة...
اما طرطوف فقد جلس تحت الشجرة، وهو ينتظر نتائج عمله، والتي جاءت سريعاً، إذ تقدمت له -في البدء- امرأة عجوز، وطلبت منه أن يعطيها تفاحة الأمان...فباعها التفاحة بمبلغ كبير، ثم تقاطر جميع اللا دينيين على شجرته، فباعهم الكثير من تفاحات الأمان...ثم استيقظوا يوماً ولم يجدوه...بل وجدوا ورقة معلقة على الشجرة مكتوب عليها..
(تجدون تفاحات أمان مدفونة تحت الشجرة)
اخذوا يحفرون بجهد بالغ دون أن يجدوا شيئاً...وكان هو يراقبهم من بعيد مقهقهاً بجزل..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى