أ. د. عادل الأسطة - أنا والجامعة وآفة التدريس الإضافي - ٣٥ -

يرتبط بما كتبته عن تعبئة الفراغات في تدريس المساقات وإجازة التفرغ العلمي عناوين أخرى مثل البحث العلمي والتدريس الإضافي ، فثمة صلة وطيدة بين الأجزاء كما يقول البنيويون .
من العناوين عنوان " التدريس الإضافي " سواء في الجامعة نفسها أو في جامعة أخرى في الوقت نفسه .
والتدريس الإضافي آفة بكل ما تعنيه المفردة من معنى ، ذلك أنها تدفع عضو هيئة التدريس إلى العمل والعمل والعمل دون أن يطور نفسه ويثقفها ويريح جسده وذهنه معا ، فما يحصله الأكاديمي في المراحل الثلاثة التي نال فيها شهاداته من الجامعات أشبه برصيد ثابت في مصرف إن لم تضف إليه كما غزيرا من المعلومات ينفد ، ويصبح الأستاذ الجامعي أشبه بمعلم الصفوف الابتدائية الأولى بعد مرور خمس سنوات على تعليمه .
من خلال عملي في الجامعة بدأت أدرس مواد إضافية فوق العبء التدريسي ، وفي حينه كان العبء اثنتي عشرة ساعة ، منذ عينت . كانت الجامعة في طور تأسيسها تعاني من نقص الكادر التعليمي ، وكانت الضفة الغربية وقطاع غزة يعانيان من قلة حملة الشهادات العليا التي تؤهل أصحابها العمل في جامعة ، وكان يومها لا مفر من " تعبئة الفراغات " وتعليم مساقات ليست من صلب تخصص المدرس .
في العام ١٩٨٢ مثلا كنا ندرس ثماني عشرة ساعة - أي ست ساعات إضافية ، وبلغ الأمر في رئيس القسم أن درس تسع ساعات إضافية أيضا . وكنا نفرح يوم توزيع مكافآت العمل الإضافي فرحنا باستلام رواتبنا الأساسية .
في سنوات التسعينيات والسنوات التي تلتها توسعت الجامعة وازداد عدد طلاب قسم اللغة العربية وكثرت شعب مساق اللغة العربية ، ما جعل العمل الإضافي جزءا أساسيا من برنامج كل عضو من أعضاء هيئة التدريس ، ومثله أيضا التدريس في الفصل الصيفي ، علما بأنه كثر عدد الحاصلين على شهادات عليا الباحثين عن فرصة عمل ، خلافا لما كان في سبعينيات القرن العشرين .
حتى العام ٢٠٠٠ كنت أرفض تدريس ساعات إضافية بخاصة في فصل الصيف ، ما جعلني أنشط علميا وأنجز ثلاثة كتب هي :
- أدب المقاومة ... من تفاؤل البدايات إلى خيبة النهايات
- الصوت والصدى .. مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة .
- أرض القصيدة .. جدارية محمود درويش وصلتها بأشعاره .
بالإضافة إلى كتابة دراسات جمعتها في ثلاثة كتب هي :
- قضايا وظواهر نقدية في الرواية الفلسطينية.
- في مرآة الآخر : استقبال الأدب الفلسطيني في ألمانيا .
- جدل الذات والآخر ، صورة اليهود في الرواية العربية .
ومع اندلاع انتفاضة الأقصى صرت أدرس في الصيف وتراجع نتاجي العلمي قليلا وأدركت هذا .
حين أنظر فيما أنتجه زملاء لي في جامعتي وفي جامعات أخرى ألاحظ فارقا كبيرا في الإنتاج العلمي وأتساءل :
- أيعود السبب لأنهم درسوا ساعات إضافية ؟
هناك سبب آخر مرتبط بالتدريس الإضافي وهو الأسرة الممتدة في العالم العربي ، فلحسن حظي أو لسوئه أنني لم أوفق في حياتي الأسرية ، ما جعلني أنفق العمر أقرأ وأكتب ، مثل الدكتور عبد العزيز الأهواني صاحب كتاب " ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر " .
في الأسر الممتدة يكون الأب مسؤولا عن زوجته وأولاده وأحفاده أيضا ، فيضطر إلى العمل المضاعف من أجل أن يزوج هذا ويبني لذاك ، وهكذا تجده ينفق وقته في تدريس إضافي وفي تكثير أمواله ، فيبيع الأراضي ويبني الشقق ويعمل في ثلاث جامعات ، وربما يعمل موجها في مدارس ثانوية - حصل هذا تماما ، ولم أنصرف شخصيا لأي عمل خارج الجامعة سوى الكتابة في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية ، وما كتبته كان وثيق الصلة بتخصصي وبما أدرسه . وقد كنت أحيانا موضع تندر من زملائي الذين أثرى قسم منهم من سنة التفرغ وشراء العقار وبيعه .
غالبا ما كنت أكرر :
- إما عالم أو تاجر ، واخترت العلم ، ومنه أثريت علميا وماديا أيضا .
سبب العمل الإضافي لإدارة الجامعة صداعا كبيرا ، إذ غالبا ما كان الباحثون عنه يكيدون لبعضهم ويتذاكون في الحصول على ساعات إضافية ، وسلك قسم منهم سلوكات لا تليق بالشهادة التي يحملونها - إن كانت الشهادة والحصول عليها تغير في السلوك ، وصار قسم منهم على استعداد لأن يدرس أي مساق حتى لو يكن في تخصصه أو دائرة اهتمامه ، فانحدرت الأخلاق الأكاديمية إلى مستوى لافت .
ومع أن إدارة الجامعة اجتهدت مرارا في تنظيم العمل الإضافي وحصره بساعات محددة ومنعت من هو عميد أو رئيس قسم أو من هو برتبة أستاذ دكتور من تدريس أكثر من ثلاث ساعات إضافية بما فيها ساعات الإشراف على رسائل الماجستير ، إلا أن القوانين التي كانت تسنها سرعان ما كانت تتجاوز ، وقد كان عدم الصرامة في تطبيقها سبب استقالتي من رئاسة قسم اللغة العربية ، ولعلني أوضح هذا في مكانه .
وغالبا ما كنت أنصح زملائي من قسم اللغة الانجليزية ألا يبالغوا في تدريس ساعات إضافية ، فقد كانوا يدرسون تسع ساعات إضافية كل فصل ، وكنت أطلب منهم أن يكتبوا الأبحاث وينشروها ، فهذا أجدى لهم مع مرور الأيام ؛ علميا وماديا ، ولكنهم لم يستمعوا إلى نصيحتي ، وكانت النتيجة أن قسما منهم ظل برتبة أستاذ مساعد ولم ينجز أي كتاب يفيد فيه حركتنا الأدبية ، كما أن راتبه توقف عند حد معين ، خلافا لراتبي ، ويوم حصلنا على مكافآت نهاية الخدمة كانت مكافأة نهاية خدمتي أكبر بكثير مما حصلواعليه ، وهكذا - أكرر - ربحت علميا وماديا وصارت لي سمعة علمية لم يحققها كثيرون .

الخميس
٢٨ أيار ٢٠٢٠

  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى