د. محمد حسين عبد الرحيم السماعنة - الجرة.. قصة قصيرة

بهتت القرية كلها وهي تنظر إلى عيني حمدة السالم الدامعتين بعد أن وقعت الجرة عن رأسها في طريقها اليومي إلى النبع .
ولم تكن كلمات خطيب المسجد كافية لإقناع أهل القرية بالكف عن تداول خبر وقوع الجرة عن رأس حمدة بنت أبي سالم ، ولم تفلح نظرات العتاب التي كانت ترسمها عينا أمها بمنع اللمز والهمز ورمي الكلام على ابنتها .
عين وما صلت على النبي ، كل البلد تعرف أن حمدة أجمل بنات القرية، وأنها أمهر من يحمل الجرة على الرأس في قريتنا.

وفي طرف آخر من القرية كانت حلقات النسوة حول أعواد الزعتر البري مكانا لحديث صاخب شامت :
أم العبد جارة أم حمدة وهي تلحن كلماتها تلحينا : حط الجره على ثمها بتطلع البنت لأمها
- ليش يما ، هي أمها كسرت جرة وهي صبية ؟
- بدناش نغتاب حدا أستغفر الله العظيم .
...وكل ما تذكره صويحباتها أن حمدة مشت والجرة على رأسها بخطوات ثابتة رشيقة ، وظهرٍ كغصين الرمان ، وهي لم تلتفت يمنة ولا يسرة ، مع أن ابن أبي سعيد كان يجلس عند الخروبة الكبيرة ، ويغني لنا بصوته الساحر :
يا حاملات المي قلبي أنا العطشان
يا غيم شتي ورد واسقي لنا البستان
أما حمدة فلم تقل شيئا، وبقيت تشير إلى الجرة كلما سألوها عن الذي حصل، وهي تعلم في قرارة نفسها أن كل ما تذكره من ذلك اليوم هو وجه سالم المشرق الباسم وهو يخوض الماء ليملأ لها الجرة أمام عيون الصبايا ، ويحملها إلى أعلى النبع .
ولما اشتد الهرج وزاد الكلام وكثر وتشعب، وبدأت القصص تحاك حول تلك الحادثة ، نادت أم حمدة الداية وقالت لها : قولي للقرية بأن صبري قد نفد، واللي مش فاهم يفهم قولي لهم :"يبلعوا ويسكتوا "...
وطلب المختار من حمدة وأبيها وأمها الحضور إلى المضافة لبحث الأمر ومعرفة السبب الذي جعل فتاة من قريتنا توقع الجرة عن رأسها .
قال المختار بقلق: قريتنا مشهود لنسائها بمهارتهن في حمل الجرار على الرأس ، فهن مضرب المثل في ذلك ، وهذه الحادثة إن عرف بها أهل القرى المجاورة ستضر بسمعتنا وتشوه إنجازنا الحضاري
المختار وهو يبحث عن عيني حمدة : احكي يا حمدة كيف أوقعت الجرة ؟
- وخرجت خمدة عن صمتها وقالت بشراسة لبؤة :أنا لم أوقعها يا مختار ؟
أحد شياطين القرية رماها بحجر فكسرت فوق رأسي وانا وقعت بعدها لما سال ماؤها علي
وتغضنت وجنتا أبي حمدة وبدأت النيران تخرج من عينيه
المختار وهو يبحث عن شفتي حمدة : وكيف عرفت أن حجرا كسرها ؟
- لأنني سمعت صفيره ورنينه وهو قادم باتجاهي وانحنيت خوفا منه
لم تعد عينا أم سعد عن حمدة ، فهي تذكر جيدا معنى أن تكسر فتاة من قريتنا جرتها هذا ما قالته لحمدة ، ولكنها أسرت لها بأنها تمنت أن تكون هي من أوقع الجرة وكسرها :
تعبت يا حمدة تعبت !
- لم يحاسبونني أنا على كسري للجرة وينسون سليمة التي كسرت ألقت بالجرة من سطح العلية وقت خروج المستأجر من الدار ؟
- ذاك شيء وهذا شيء !
- طيب ولم لم يحاسبوا سعيدة بنت المختار التي كسرت الجرة حين طلقها عبيدالله ؟ ولم لا يحاسبون سلمى بنت أبي خالد التي كسرت الجرة لحظة خروج أختها من الدار ؟
- أليست الجرة هي الجرة ، والكسر هو الكسر ؟
- بلى، ولكن النوايا تختلف !

قالت لي: أنت أصدق الصديقات وأوفاهن ، هلا حققت لي حلمي الأخير ، أنا وضعت جرة في خزانتي ، وغدا يوم زفافي ،فإن رأيتني خرجت من باب هذه الدار، تسللي إلى غرفتي واكسريها عند العتبة
وكسرتها تحت سيل اللعنات ، كنت صغيرة يا بنتي ، لم أعرف عاقبة هذا العمل إلا حين بدأت عيون القرية كلها تلاحقني حذرا مني على جرارها .
كانت اللجنة التي شكلها المختار لتقصي الحقائق ومعرفة ما حصل لجرة حمدة مكونة من الصياد البارع أبو طبشة والجزار سعدون الحاح ، والداية بهية أم زغلول
سارت اللجنة في الطريق الترابي الوعر الذي يصل النبع بالبلدة ، وخلفهم سارت القرية كلها برجالها ونسائها وشيوخها . كانوا يراقبون الصياد ويتابعون حركاته ووقفاته وسكناته والتفاتاته . وأطاعوه بحذر حين طلب منهم ان يقفوا بعيدا عن الساحة التي تناثرت فيها كسور الجرة .
أمسك الصياد كسرة الفخار وقال لحمدة بصوت المحقق الفهامة العارف بما يواجه : يا حمدة، أرينا كيف كنت تقفين حين وقعت الجرة منك .

حمدة بغضب: قلت لكم الجرة لم تقع مني ، أنا كنت أقف هنا ووجهي إلى الأمام حيث تتجه خطواتي .
وسارع الجزار سعدون الحاح إلى سؤالها وهو يبحث عن عينيها: وهل كنت واقفة لحظة وقوع الجرة ،قال الكلمة الأخيرة ملونا صوته ومحملا إياه كثيرا من اللوم والعتاب، ومحاولا استدراج عينيها إلى عضلاته المفتولة .
الداية وقد شعرت بما ينصب للصبية من فخاخ وشراك عاطفية : سنعرف الآن اتجاه كسور الجرة والمساحة التي توزعت عليها، فإن كانت الجرة ضربت من قبل أو من دبر أو من أحد جانبيها توزعت كسورها وسيكون السبب واضحا لكل خبير ، قالت الجملة الأخيرة بنبرة تهديدية ونظرات قاسية وجهتها إلى الجزار والصياد.
تحلق الجميع حول اللجنة بانتظار القرار والحكم ، وعيونهم تراقب المختار واللجنة بشغف ونبض حار وأنفاس مكبلة
المختار وهو يستعرض حروف المد في روحه : هاتوا من الآخر يا سعدون !
الصياد سعدون بارتباك : والله يا مختار شي عجيب اللي شفناه ؛ الجرة مضروبة ومش مضروبة ، واقعة ومش واقعة !
المختار بغضب : يعني ؟
الداية وهي ترفع صوتها بصوت عال شرس: يعني يا مختار ما وصلنا لنتيجة نرضى عنها، ولكننا نوصي بتشكيل لجنة استقصائية تفتيشية بحثية لاستجواب كل من كان في المكان أو حوله لحظة الحدث .
المختار برضى مخنوق: الليلة سنشكل اللجنة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى