أزهار علي حسين - فاترينا

ثقيلة كانت تلك الحقيبة المدرسية على كتفها الصغير، كثقل ساعات مجهدة في المدرسة، مدرسة لم تكن لتملك فيها صديقا، او احدا يهتم لأمرها ، تحمل الحقيبة راكضة، فرحة بانتهاء ساعات القلق المدرسية، مسرعة الى السوق، هناك وجوه وأشياء جديدة ستراها، وهناك ثوب سوف تتأمله وتحلم بارتدائه، وهناك وقت صغير كحلمها سوف تقتنصه من ساعة الأم.
كل يوم وهي تجلس على تختها الى جانب الشباك المكسور الزجاج، تحاول تمثيل التركيز على شرح المعلمة للدرس، كيما تتجنب عقوبة عدم الانتباه، لمواد لم تثر اهتمامها يوما، هي الطفلة ذات الأحد عشر عاما، سيشدها دائما منظر الشارع الرئيسي المجانب للنهر، نهر البلدة الصغير الذي وجدت امامه مدرستها منذ عقود، ووجد صفها مشرفا عليه، ووجدت هي هناك خلف الزجاج المكسور، وبرد الشتاء يلفح براءة وجهها دون أن تتقيه بورق مقوى، كما فعل زملاؤها. من هناك ستطل يوميا على مشاهد كثيرة، مارة يحثون الخطى الى السوق القريبة، او الى موقف السيارات في نهاية الشارع حيث سيركبون مبتعدين عن البلدة، أعراس في ايام الخميس يترجل أهلها من مركباتهم للرقص امام المدرسة في بعض الاحيان، فينسى التلاميذ درسهم وتنسى المعلمات الاهتمام بالنظام الصارم للحظات، ومشهد اخر لم تستطع نسيانه مدى حياتها، لتوابيت قادمة من حمى الحرب المستعرة، لتنتهي الى مجهول لم تدركه، كان اسمه القبر.
خرجت مع الاطفال الضاجين من المدرسة، فرحت كما فرحوا بتحررهم من قيد الدروس، ركضت كما ركضوا صوب متعهم الصغيرة، صرخت كما صرخوا وهم يهربون من مشاهد التوابيت، لكنها سلكت شارعا صغيرا لتدلف الى السوق، متعتها أجمل من دمية عرض في فاترينا محل، وأكبر من جسد فتاة نحيلة، تنوء بحمل حقيبة مدرسية، تثقلها بكراريس الرسوم وعلب الالوان التي ادخرت مصروفها لأيام من اجل شرائها، تلك الالوان والكراريس التي كانت تمثل أحلامها لتعبأ بها الحقيبة.
على زجاج الفاترينة اللامع رأت جسدها الناحل قد امتلأ فجأة بملامح الانوثة، وكبر عن حجم الطفولة، وارتدى الثوب، بذلك الثوب ستدخل الى بيت جدتها الذي يمتلئ بالأقارب في ايام العيد، سيرون الفتاة الجميلة التي اختبأت بداخلها، وقد لمعت في بريق عيني ابن عمها، وسيقول بأنها اجمل من رأى، سوف تعطي عيدية للصغار، وستشارك الفتيات الكبيرات احاديثهن التي لا يشركنها بها الان.
لكن الاحلام تنتهي في الصباح، الصباح الذي يحمل عبء الصحو القسري من اجل الالتحاق بطابور المدرسة الصباحي، ويقدم الخوف على وجه المديرة الابيض المشرب بحمرة الغضب دائما، وجسدها الممتلئ القصير الذي ترفعه بكعب عال لترتفع بطولها عنهم كأطفال، قليلا. الهيئة يجب ان تكتمل لتلك المديرة بالزي الزيتوني والذي ارتداه معظم المعلمين في المدرسة، الاكسسوار الأهم في تلك الهيئة بالطبع كان المسدس الذي تمتاز به تلك المرأة عنهم، وهناك ايضا العصا الغليظة التي تعاقب بها المتأخرين عن الثامنة صباحا بعشر عصي في اليد اليمنى ومثلها في اليسرى.
كل شيء اذن تام في تلك الهيئة المرعبة لتجعلها تركض وتركض للالتحاق بالطابور الصباحي، لتتم تعداد الصارخين بالنشيد، (وطن مد على الافق جناحا، وارتدا مجد الحضارات وشاحا) يصرخون ويصرخون من أجل ان تسمعهم البلدة بأجمعها، وتستيقظ على صراخ اطفال الحرب وهم ينشدون (لبابا صدام) كل يوم، صراخ يطل على النهر الذي يعد توابيت الحرب بصمت، حرب سيكون للعراق النصر فيها على الفرس المجوس ـ كما تنص على ذلك كتبها في الحقيبةـ.
الحرب لعبة الاولاد المفضلة في ساحة المدرسة وهم يموتون ويحيون ضاحكين، الحرب ينشد لها الصغار والكبار على شاشة التلفاز، وتردد يوميا هي وزملائها تلك الاناشيد بفرح وهم يركضون متحررين من ساعات المدرسة (وحوحويلي فرحانه والقائد حاضر ويانه) الحرب التي لفت في طياتها أبيها دون ان تتشكل صورته في ذاكرتها بعد، والحرب التي كانت صورا لأشلاء جنود متبعثرة تسبق افلام الكارتون الصباحي في العطلة الصيفية، والحرب التي كانت انواط شجاعة تقلد ليلة بعد ليلة لجنود سيموتون قبل مسلسل العاشرة ليلا، والحرب التي كانت ايضا مجالس عزاء تنصب كل يوم في احد دور الحي.
لم تكن تلك الحرب كما هي تلك الالوان الزاهية التي تعبيء بها حقيبتها، او بلون الثوب المورد الذي تتطلع له يوميا في فاترينا العرض، فتدس حلمها بارتدائه في كراس الرسم.
وهاي هي تستمع له الان، المذيع الذي صدح ليلة البارحة بصوته الأجش ليعلن النهاية لحرب الثمان سنوات، تستمع له في كل محلات السوق، يعيد بيان البيانات لنهاية الحرب، وايضا تنظر ثوبها لأول مرة من دونها، لكن لافتة سوداء لضحايا الحرب، انعكست على زجاج الفاترينا، من الجهة المقابلة لمحل الملابس كانت قد حملت اسم أبيها تتقدمه صفة الشهيد البطل، فحولت لون ثوبها الى الاسود فجاة.



* عن العالم الجديد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى