أحمد الويزي - قطيع وكلبة

كنّا ثلاثة ، وكانت الكلبة رابعنا . كلبة الأرملة " زاينة " الصويرية ، التي تغلق باب الكوخ المظلم على أسرارها كل يوم ، وتهيم على وجهها خارج الدوار ، رفقة ابنتها الخرساء الوحيدة . قيل إن المرأة تعبر الجسر في اتجاه المدينة كل يوم ، تصبن الغسيل في أحياء الميسورين ، وتطلب الصدقات قرب محطة الحافلات في المساء ، بينما بنتها " خَديجْ " تعمل منظفة في فندق يؤمّه السياح فحسب . لذلك كنّا نراها وهي تخرج رفقة أمها ، تحرص على أن تكون ثيابها نظيفة، ووجهها اللامع دوماً تناسبه تسريحة الشعر المصفف بعناية ، حتى لكأنها تبدو في أعيننا مثل تفاحة إسبانية شهية.
غير أننا كنّا لا نعبأ كثيرا ، لا بالمرأة ولا بالبنت . كنّا نهتم طول النهار بالكلبة " لايْكة " . نقتسم معها خبزنا الحافي ، ونغسل فراءها الأسود في السقاية بقليل من مسحوق الصابون الذي نسرقه من بيوتنا بالتناوب ، وندربها وقتاً طويلا على التقاط الأحجار والأعواد ، والتصدي للكرات التي نقذف بها إلى البعيد.
ولكم كنّا نتمنى أن تصير " لايْكة " في الحال ، كلبة صيد مدربة حتى نستطيع أن نغلق فم الولد الثرثار علي ابن المقدم صالح ، الذي لم يكن أبداً يملّ من الثناء على كلبهم السلوقي " بْلاكْ " ، والافتخار علينا ببندقية والده القناص ذات الماسورتين.
لم نكن نشبع من تدريب " لايْكة " ، أو نقنع حتى بحصص روتينية عادية حددناها في ساعتين في الصباح والمساء ، رغم أن استجابتها المتحمسة سرعان ما كانت تخبو فتخذلنا ، وأبواب الجيران وأفواههم الواسعة المشرعة عادة ما كانت تُفتح عن آخرها ، لتقذف رؤوسنا وظهورنا بالشتائم المغموسة بماء التصبين المنقوع ببراز الصبيان.
إلاّ أن ثرثرة علي ابن المقدم صالح ، وتعليقاته المغالية في وصف " بْلاكْ" ، وتعداد سماته المميزة النادرة، واستخفافه من هجانة أصل " لايْكة " ، ومن هزال جسدها وامتصاص هيكلها حدّ بروز العظام ، كانت تحمسنا وتزيد من صبرنا وإصرارنا ، وتدفعنا نحن الثلاثة إلى المزيد من التلاحم بيننا ، وإلى مضاعفة التضحية بقطع الخبز الحافي ومسحوق الصابون والهروب من الكراريس والواجبات المنزلية ، خصوصا بعدما أوشك موعد المواجهة بين الكلبين على الاقتراب .
ربطنا " لايْكة " بحبل من حبال نشر الغسيل ، وخرجنا مسرورين في اتجاه الوادي حيث حدّدنا مكان المواجهة . مشينا بمحاذاة الضفة اليمنى ، وصرنا نمشي ونتوغل بين سيقان الرتم وشجيرات الخروع ونبات القوق البري وحشائش النجيل والعليق . كنا نغني ونضحك ونتكلم دفعة واحدة ، ولا نعبأ بما يوخز أقدامنا العارية من أشواك وأحجار.
ثم فجأة شخص علي أمامنا. كان يمسك بحزام جلدي مربوط بعنق جرو صغير ، ما أن رأته " لايْكة " حتى وثبت نحوه في اندفاعة هجوم متقونة ، ملأت قلوبنا بنشوة انتصار تأكد لنا حسمه المبكر . قفز علي بحركات كاريكاتورية مضطربة ، يحتضن الجرو ويحميه . لفّه بين ذراعيه خوفاً من أنياب الكلبة التي انفلتت من بين أيدينا ، وألصقت قدميها الأماميتين بصدره ، في محاولة شمّ الجرو والتعرف عليه . أمسكنا الكلبة من جديد برباطها، وأبعدناها عن علي . قال هو مستدركاً بينما يشير إلى حيوانه الصغير الذي أسنده إلى صدره : هذا ليس " بلاك " على كل حال . إنه من فصيلة الكانيش . اشتريته بخمسة دراهم وقطعة ساندويتش هذا الصباح ، وسأبيعه بعد شهر للنصارى حالما أرحل مع أبي إلى المدينة . النصارى يحبون اقتناء مثل هذا النوع . ثم صار يحكي لنا ونحن نشمت ونسخر منه ومن جروه المفزوع ، كيف أن قريبهم صاحب الدار الكبيرة في الدوار ، قد أوشى به إلى المقدم صالح في آخر المطاف ، بعدما كان قد اتفق معه على أن يسمح له بإخراج الكلب في نزهة قصيرة ، والعودة به على وجه السرعة.
ثم من دون أن نعلم كيف ولا متى ، داهمنا قطيع من الكلاب الضالة . سمعنا النباح والجئير المتصاعدين يطوقان مسامعنا من كل ناحية ، فاضطربنا وسيطر على قلوبنا الخوف والفزع . هاجت "لايْكة " وماجت في حبلها البلاستيكي ، إلى أن مادت الأرض من تحت أقدامنا . تركناها تفلت من أيدينا في الوقت الذي ظهر فيه كلبان كبيران كانا في طليعة المجموعة . توقفا بعد حين ، ثم تقدم كلب زعيم كانت تبدو عليه ملامح الجرأة والقوة والبطش إلى حيث جثمت "لايْكة" وقد طبّق عليها خوف كاسح جعلها تلف ذيلها بين مفرق قائميها الخلفيين. دار الكلب حولها يتشمم بخطمه وجهها ومؤخرتها ، وهو لا يتوقف عن الجئير. بعد ذلك ، رفع قائميه من جهة ظهرها وحاول أن يستعليها . تمنعت " لايكة " ، فحاول من جديد أن يصعد فوقها .
أصابتنا نحن الثلاثة ، خيبة صاعقة وإحباط كاتم . سخر علي من جبن كلبتنا ، وانسحب إلى الوراء يفلت بجلده وجروه المدلل . في تلك الأثناء ، التحق بقية الكلاب التي كانت أكثر من ثمانية ذكور ، فتشكلت حول" لايْكة " دائرة تطوقها من جميع الجهات . صحنا معاً ننادي على كلبتنا المستكينة كي تخترق الحلقة وتعود إلينا ، إلا أن عينيها ظلتا تنظران إلى الأرض في ذل واستكانة، وترسلان لنا كلاماً غير مفهوم . بحثنا عن بعض الحصى والحجر كي ندافع به عن أنفسنا وعن كلبتنا ، غير أننا لم نجد سوى كويرات بَعْر صغيرة مغلفة بطمي ناشف ، قذفنا بها ظهور الكلاب فتفتت وانتثرت على الأرض ، من دون أن تحدث فيها ألماً يذكر. فكّرنا أن نقطع سيقان الرتم كي نهش بها على القطيع ، ونزرع فيه الخوف بحركاتنا وصياحنا الهائج مثلما يفعل الهنود الحمر لحظة نشوب المعركة بينهم وبين رعاة البقر، إلا أن " لايْكة " في تلك الآونة ، كانت قد تحركت في اتجاه الشرق ، مخفورة بالمجموعة التي ظلت تتبعها. رمينا أغصان الرتم أرضاً ، وطفقنا نجري وراء القطيع ونحن نصيح : " لايكة ، لايكة ،viens ici ، لايْكة ، لا ... ! " . إلا أن ابنة الكلب كانت تنظر إلى الأمام فقط وتعدو ، من دون أن تعبأ بنا نحن الثلاثة الذين كنا نقتسم معها خبزنا الحافي ، وندرّبها بكرات الصوف والكاغض ، ونغسل فروها الأسود بمسحوق الصابون الذي نسرقه من خزائن أمهاتنا .
ابتعدت الكلبة كثيراً ، فتركناها مكرهين ترافق القطيع ، وتمضي بعيداً عن أعيننا . اتفقنا أن نجتاز الجسر لأول مرة ، ونسير إلى أن نبلغ دوار المخزن الواقع قرب ثكنات العسكر ، والذي كان الكبار لا يتكلمون عنه بالمرة ، ويمنعون أي أحد منا أن يقترب منه .
عرّجنا بين الأزقة الضيقة الملتوية ، حتى صرنا في قلب الدوار حيث الدكاكين والمحلات التجارية متراصة بشكل مألوف . وقبل أن نقفل عائدين على وجه السرعة من حيث أتينا ، مخافة أن نصطدم صدفة بمن يكشف أمر زيارتنا للدوار ويبلغ عنّا ، أغرى بنا جمع من الشبان واليافعين كانوا يقفون برأس زقاق ضيق ، في وضع خاص أثار فضولنا وحب استطلاعنا . اندفعنا نحن الثلاثة ، نخترق سياج السيقان والأفخاذ العريضة التي كانت تغلق مدخل الزقاق ، وصرنا نتوغل مثلما فعل بعض الجنود بلباسهم الكاكي .
كان اكتشافنا مدهشاً يكاد من فرط الفجائية ، يعمي أعيننا المترمدة . كانت أجساد النساء العارية معروضة للمارة ، في وضع مكشوف يستثير الكوامن المنسية والمغلقة . نساء في مختلف الأعمار ، واقفات قرب الباب في وضع صاخب مغر، وأخريات يجلسن فوق العتبات و قد انهمكن في تدخين السجائر والحديث مع الرجال والجنود ، غير عابئات بنا نحن الثلاثة الصغار ، وقد وقفنا مشدوهين نتفحص تفاصيل أجسامهن المقشرة شبه العارية تماما، وكأنها موز برازيلي معروض عنوة لتصيد شهية الجوعى العابرين .
وقبل أن نكمل جولتنا التي طالت بين غابة الأجساد والسيقان العارية ونعود إلى دوارنا نقصّ على أقراننا ما رأيناه ، أطل وجه كنَا نحن الثلاثة وكلبتنا " لايْكة " ، نعرفه حق المعرفة . كان وجه ابنة الأرملة زاينة الخرساء يشقّ فجوة من بين الرؤوس النسائية التي كانت تصطف على العتبة ، ويخصنا بنظرة خاصة مميزة . رأتنا " خديجْ " نمضي من أمام بيت مشرع تقف أمامه بعض النساء ، ففتحت فمها ولم يخرج منه غير ابتسامة بيضاء عريضة سرعان ما ذبلت على شفتيها المصبوغتين بأحمر فاقع . التفتنا ننظر في أعين بعضنا البعض ، ولا نتفوه بأي شيء. وكأن أفواهنا أصابها خرس مطبق.
وحتى حينما عدنا إلى الدوار، وتحلق الأصدقاء حولنا مستفسرين عمّا جرى بين " لايْكة " التي لم تعد معنا ذلك اليوم ، وبين الكلب السلوقي " بلاكْ" الذي لم يره أحد منا قط ، لم نقل أي شيء. تحدثنا عن قطيع كلاب ضالة ، وعن بعر مغلف بطمي ، وشجيرات رتم سهلة الكسر ، وعن الوادي الذي يفصل بين دوارنا ودوار المخزن ، ولم نقل شيئاً واضحاً . بل وحتى حين بدأ بطن الكلبة ينتفخ ، ومعه وجه " خديجْ " ـ ابنة الأرملة زاينة ـ يبهت ويتغضن ، وقوامها الرشيق النشيط الذي كان ، صار يتهدل ويتكسر حتى أنها لم تعد في ثيابها النظيفة ، وتسريحتها المصففة الخفيفة تشبه التفاحة الإسبانية ، فإننا لم نقل أي شيء . صرنا فقط ، نحن الثلاثة ، ومعنا الكلبة والبنت الخرساء ، نتابع ما يجري بعيون صامتة ، ولا نكاد نتكلم بالمرة .
أترانا كبرنا فجأة ، وصرنا في عمر الأجداد والجدات ، ونحن لا ندري ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى