أدب السيرة الذاتية أ. د. عادل الأسطة - أنا والجامعة.. الجزء الأول من 1 إلى 24)

-1-
قبل أربعة أيام انتهى عملي في الجامعة ، درست فيها سبعة وثلاثين عاما ليست هي المدة الكاملة لي في التدريس ، فقد درست عاما وثلاثة أشهر تقريبا في مدارس الحكومة وأربع سنوات وعشرة أشهر تقريبا في مدارس وكالة الغوث .
هل تستحق تجربتي في التعليم أن أدونها؟ وإلى أين ستقودني الكتابة؟
هل سأتهم بأنني بصقت في البئر الذي شربت منه ، كما قال لي زميل تم تعيينه بالواسطة؟ أم سأتهم بأنني مغرور أردت أن أخضع الجامعة لشروطي كما قال زميل آخر كان يخضع لشروط الجامعة دون أي اعتراض أو احتجاج؟ وهل سيقول رئيس سابق للجامعة قاضيناه في المحكمة لأننا أردنا ألا نخضع لاستبداده وتسلطه إن الكتابة هذه دافعها عدم تمديد عقد عمله وتمديدنا عقد زميل آخر له ؟
إلى أين ستقودني الكتابة؟ أنا الآن حر ومرة هددني رئيس مجلس أمناء بسبب نص أدبي بأنني سوف أدفع الثمن فأجبته بهدوء:
-هناك قانون!
هل حماني القانون؟
لن تكون الكتابة عموما شبيهة بنص "ليل الضفة الطويل "حتى لا أتهم بتصفية حسابات ، كما اتهمت ، ولكنها ستأتي على الإيجابيات والسلبيات ولسوف تعتمد على كثير مما كتبته هنا أيام كنت عضو هيئة تدريس ولم أحسب حساب وظيفة أو فصل.
التجربة كانت قاسية ومرة وكانت في الوقت نفسه مفيدة وثرية لي وللحركة الثقافية .
حتى صباح الجمعة القادم إن شاء الله

ذكريات
٤/١٠/٢٠١٩

***

-2-
كان تأسيس الجامعة في المدينة خطوة ريادية ، فقد قدمت خدمات جليلة لأبناء الوطن وللمدينة نفسها . أراحت ابناء الوطن من عناء السفر ورحلة العذاب عبر الجسور ووفرت على أهلهم المصاريف الباهظة الكثيرة ودفعت كثيرين منا إلى إكمال تعليمهم وأنا واحد من الفلسطينيين الذين ربما ما فكروا في حينه في إكمال دراساتي العليا لولا إنشاء الجامعة .
في عام تأسيس الجامعة كنت معلما في مدرسة ثانوية ولما أعلنت الجامعة عن حاجتها إلى أعضاء هيئة تدريس من حملة البكالوريوس فأعلى تقدمت بطلب توظيف ولكن الاختيار لم يقع علي ، علما بأنه تم تعيين ثلاثة من حملة البكالوريوس ، فلم تكن الشهادات العليا متوفرة ، وقد زاملت الثلاثة منذ العام ١٩٨٢ وعرفت في تلك الأثناء كيف تم تعيينهم .
في ربيع العام ١٩٨٠ أعلنت الجامعة عن حاجتها إلى موظفين للعمل في المكتبة الخاصة بها . كان العمل في الجامعة حلما ظل يراودني ، وكنت في تلك الأيام معلما في مدرسة العقربانية الإعدادية التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين ، وهكذا تقدمت بطلب تعيين ، مؤثرا الجامعة والعمل الإداري على العمل معلما في مدرسة .
تقدم لشغل الوظائف ٦٤ شخصا ، وكانت حاجة الجامعة إلى ثمانية ، وقررت من أجل اختيار موضوعي إجراء امتحانين للمتقدمين ، امتحان يختبر صلة المتقدم بعلم المكتبات ، وثان لاختبار ثقافة المتقدم العامة ، وأعلنت الجامعة في الصحف أسماء الثمانية الأوائل في الامتحانين وطلبت منهم التقدم للجنة مقابلة حتى تنظر في شخصياتهم ومنطقهم وما شابه ، وقابلت اللجنة ولكن الاختيار لم يقع علي ، وبعد فترة التقيت بزميلي المرحوم مهيب المصري الذي زاملته في مدرسة الصلاحية وسألته عن أحواله فأخبرني أنه تم تعيينه في مكتبة جامعة النجاح الوطنية ، ولم يكن مهيب تقدم بطلب توظيف أصلا ولم يتقدم للامتحانين ، ولما راجعت المرحوم د. شوكت زيد والمرحومة المربية يسرى صلاح ، وكانا من أعضاء مجلس الأمناء وكانا أيضا عضوين من أعضاء لجنة المقابلة ، فقد أخبرني د.شوكت بأنني موظف والجامعة تريد أن تثبت المعينين في أماكن عملهم وتوظيف من لا وظيفة له ، فأجبته بأن زميلي مهيب يعمل في مدرسة ثانوية في المدينة وليس عاطلا عن العمل ، فابتسم . وأما يسرى صلاح فقالت إنها تتابع كتاباتي في الجريدة وأنها واللجنة رأوا أنه يجب إكمال تعليمي فمكاني هو في التدريس لا في المكتبة ، وطلبت مني هي والمحامي المرحوم موسى الجيوسي أن أحصل على قبول لدراسة الماجستير من جامعة وهما سيوفران لي بعثة ، ولما سجلت في الجامعة الأردنية وقبلت أحضر لي موسى الجيوسي طلبا من صندوق الطلبة الفلسطينيين ولهذا قصة .
صباح الخير
والبقية في يوم الجمعة القادمة إن شاء الله .

١١ تشرين الأول ٢٠١٩ **
[SIZE=26px] [/SIZE]
***

-3-
سافرت إلى عمان لأتابع دراساتي العليا ولم يكن معي سوى 300 دينار دفعت منها قسط الفصل الدراسي الأول وأظنه كان 120 دينارا ،وبقي معي ما يكفيني ثلاثة أشهر .
كنت خلال عملي لمدة أربع سنوات ساعدت أبي في بناء منزل العائلة وبنيت لي شقة مساحتها 100 متر تقريبا ، وهكذا كنت ، ماديا ، شبه معدم .
انتظرت أن يصلني رد من صندوق الطلبة الفلسطينيين فلم يأت ، وأرسلت إلى السيدة يسرى صلاح أعلمها بأنني لم أتلق ردا على طلبي الذي كان على أية حال طلب قرض لا طلب منحة أو بعثة ، فما كان منها إلا أن أرسلت لي من خلال زميلي الأستاذ عادل الزواوي ، وكان صلة الوصل بيننا ، مبلغ 100 دينار سلفة علي أن أردها فيما بعد ، فهي مبلغ جمعته منها ومن صديقاتها . أعدت المبلغ إليها فورا وقد عاتبتها لأنها وعدتني بتوفير منحة لي ، ويبدو أن الأستاذ موسى الجيوسي لم يكن ذا تأثير في الصندوق ، علما بأنه - كما عرفت - كان يناصر حركة فتح .
كيف سأتدبر أمري وقسط الفصل الثاني على الأبواب؟
كان علي أن أبحث عن عمل جزئي في مكتبة الجامعة الأردنية أو في قسم الدراسات العليا ، فذهبت إلى الدكتور عدنان البخيت الذي كان رئيس قسم الأبحاث والمخطوطات أسأله ليوفر لي عملا جزئيا ، فاعتذر وقال لي :
- عندما يعينوني رئيسا للجامعة بدلا من هذا ابن .. سوف أجد لك عملا .
وكانت علاقته بالدكتور ناصر الدين الأسد سيئة جدا على ما بدا لي .
كيف وافقت على السفر قبل أن أضمن المنحة؟
ربما كان الأمر من باب ملاحقة العيار حتى باب الدار ، وانقطعت صلتي بالمرحومة يسرى صلاح والمرحوم موسى الجيوسي ، وما عادا يسألان عن أخباري .
تدبرت أمري بإيجاد عمل جزئي في مكتبة الجامعة الأردنية مع الدكتور المرحوم كامل العسلي ، وأخذت أكتب مقالات في جريدة أردنية أظنها "صوت الشعب " وتعرفت إلى الأستاذ محمد داوودية الذي كان مسؤولا في الجريدة.
في الفصل الدراسي الأول علمني الأستاذ الدكتور المرحوم محمود السمرة وعرفت أنه ذو صلة بصندوق الطلبة الفلسطينيين في الكويت ، فذهبت إليه بتشجيع من الصديق مشهور حبازي أسأله عن منحة ، فقد ساعد المرحوم السمرة في العام المنصرم الصديق مشهور بمبلغ 600 دينار .
ما إن عرضت مشكلتي على الدكتور السمرة حتى عاتبني لتأخري ، فقد وزع قبل أسبوع مبلغ 3000 آلاف دينار على الطلبة وكان يبحث عن طلاب محتاجين .
أخبرت الدكتور بقصتي مع صندوق الطلبة الفلسطينيين في بيروت ، فسألني عن المسؤول عنه ،ولما ذكرت له اسم الدكتور المرحوم محمد يوسف نجم قال لي:
- إنه صديقي .
وكتب لي رسالة إليه ووضعها في مغلف وطلب مني شخصيا أن أرسلها بالبريد المسجل ، وهكذا جاء الفرج لدفع أقساط الدراسة كلها ، فقد قرر الصندوق منحي 1100 دولار أو 1150 دولارا تدفع على ثلاث دفعات كانت كافية لتغطية الأقساط فقط .
واصلت دراستي دون أن تكون لي أية صلة بالجامعة ؟ فكيف تم تعييني فيها ؟
حتى صباح الجمعة القادم أقول لكم:


١٨ تشرين الأول ٢٠١٩


***

-4-
أنهيت الماجستير وعدت إلى الضفة . كانت الرحلة شاقة وربما لا يعرف مقدار المعاناة في تلك الأيام إلا من كابدها ، وبدأت معاناة من نوع آخر ،فقد غدت الشهادة عبئا على حاملها إن لم يدرس في جامعة ما . أن تحصل على الماجستير في ذلك الزمن وتبقى معلما في مدرسة ثانوية أو إعدادية فكأنك لا رحت ولا جئت ولم تحصل على شهادة عليا ، ويبدو الأمر اليوم مختلفا كليا ، فقد غدا امتلاك شهادتي الماجستير والدكتوراه والعمل معلما في مدرسة ثانوية أمرا عاديا ، وإن أثقل على حملة الشهادات وأحزنهم ، بل وأبكاهم ، وحين يسألني طلابي عن رأيي في مواصلة تعليمهم الجامعي المتقدم أنصحهم بألا يفعلوا إلا إذا تبنتهم جامعة وألزمتهم بالعمل فيها بعد حصولهم على الشهادة .
عدت إلى الضفة وبدأت أبحث عن وظيفة في الجامعة ، علما بأنني لم أقدم استقالتي من وظيفتي في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، فعصفور في اليد خير من عشرة عصافير على الشجرة .
ذهبت إلى جامعة النجاح مباشرة ولم أذهب إلى المرحومة يسرى صلاح والمرحوم موسى الجيوسي والمرحوم شوكت زيد ، فقد اقتنعت بأنهم إنما حثوني على مواصلة الدراسة لإقناع أنفسهم بأنهم حريصون على مستقبلي وهم يعرفون أن من يقرر هو المرحوم حكمت المصري فقط .
كان الدكتور أحمد حامد يومها رئيس قسم اللغة العربية ، وذهبت إليه مباشرة اسأله عن إمكانية تعييني في القسم .
رحب بي الدكتور وكان صريحا معي ، فالقسم كان بحاجة إلى متخصص في مادة البلاغة ، ولما أخبرته أنني متخصص في الأدب الفلسطيني اعتذر .
لم أترك جامعة من جامعات الضفة الغربية في ذلك الوقت إلا ذهبت إليها اسأل عن إمكانية تعييني ، وهذا ما تعسر، وهكذا بقيت معلما في مدرسة العقربانية الإعدادية في مدارس الأونروا .
في تلك الفترة أصرت إسرائيل على تطبيق قانون رقم 854 الذي يطلب من المحاضرين القادمين بتصاريح إسرائيلية ولا يملكون هوية ضفة غربية وقطاع غزة ، أن يوقعوا على وثيقة ترفض الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ، وهذا ما رفضته الجامعات الفلسطينية .
شددت إسرائيل على تطبيق القرار ورفض المحاضرون الانصياع وطلبت منهم منظمة التحرير ألا يوقعوا ، وكانت النتيجة عدم السماح لعدد كبير من أعضاء هيأة التدريس بالبقاء في الضفة الغربية، وهكذا أصبحت الجامعة تعاني من أزمة في المحاضرين .
كان عدد أعضاء هيأة التدريس في قسم اللغة العربية ممن طلب منهم مغادرة الضفة خمسة ، ولما كان الفصل الدراسي الأول على وشك أن يبدأ فقد أعلنت الجامعة عن حاجتها إلى أعضاء هيأة تدريس من حملة الماجستير فأعلى .
تقدمنا يومها ثلاثة من حملة الماجستير ؛ أنا من الجامعة الأردنية واثنان بالانتساب من الجامعة اليسوعية ، وكنت الأكثر ملاءمة ؛ للجامعة التي تخرجت منها بالالتحاق ولعمري ، وربما لوقوف الدكتور محمد جواد النوري والأستاذ فتحي خضر صديقي إلى جانبي . وهكذا صرت عضو هيأة تدريس في جامعة النجاح الوطنية لمدة 37 عاما .
أحيانا يقول المثل "الله بكسر جمل من أجل أن يتعشى واوي " ، ومع أنني في رحلتي الجامعية لم أكن واويا إلا أن مصائب قوم عند قوم فوائد، وكان علي طبعا أن أثبت نفسي .
أذكر أنني يوم عينت سئلت من الدكتور محمد جواد النوري إن كنت شيوعيا أم لا ، ولم يكن تعيين اليساريين بشكل عام مرغوبا فيه بخاصة بعد المشاكل التي شهدتها جامعة النجاح في بداية 80 ق 20 بين الإدارة والنقابة .
ما يجدر أن أشير إليه هو أنني طيلة مسيرتي في التعليم لم ألتفت إلى الفصيلية على الإطلاق ، ولم أتعامل مع الطلاب من منطلقها ، ولقد حرصت أن أكون أكاديميا صرفا ، وإن شاع رأي يزعم أصحابه أنني وأنا أدرس الأدب الفلسطيني أدرس نصوص الأدباء اليساريين ، وربما أتوقف أمام هذا في يوم الجمعة القادم .

25 تشرين الأول 2019

***

-5-
بدأت التدريس في الفصل الدراسي الأول من العام ١٩٨٢ ، وقعت العقد في ٩ /١٠ /١٩٨٢ وبدأت أحاضر في ١٦ /١٠ /١٩٨٢ ، بعد أن قدمت استقالتي من وظيفتي في مدارس الأونروا .
في تلك السنوات كان عدد المحاضرين قليلا وكانت المساقات كثيرة ، ولم يكن ثمة مدرجات في الجامعة لتعطى فيها محاضرات فتسهم في اختصار عدد الشعب في بعض المساقات ، وكان ذلك ميزة سوف تفتقد لاحقا وسوف أتوقف فيما بعد أمام إحدى الكوارث في التعليم الجامعي وهي التدريس في المدرجات .
عهد إلى في الأعوام التدريسية الأولى ، بسبب النقص في الكادر التعليمي وأعضاء هيأة التدريس المتخصصين ، بتدريس المساقات التي تطرح وليس لها أستاذ متخصص يدرسها ، وهكذا درست مساقات تاريخ النقد الأدبي عند العرب وأدب مصر والشام والشعر العباسي والنثر العباسي والعروض ومساقات اللغة العربية والمدخل إلى تذوق النص الأدبي والأدب الفلسطيني ، وكان علي أمام هذا أن أحضر للمحاضرات وأن أثقف نفسي ، وكانت هذه فرصة ذهبية لي لإعادة بناء ثقافتي في الأدب العربي . ( أحيانا كنت أمزح قائلا : أنا خمسة دكاترة معا ، فقد شغلت فراغ خمسة من حملة الدكتوراه يوم أبعدوا ، وأحيانا كنت أسخر من نفسي : أنا من حراس الفراغ ، علما بأنني لم أقل عن الخمسة كفاءة ، وكان أكثرهم قبل تعيينهم في الجامعة معلمي مدارس وليس أسوأ من مدرس أنفق في التعليم ٢٠ عاما ثم صار محاضرا في جامعة ) .
هناك مقولة تتكرر على ألسنة الدارسين وهي أن الأستاذ إذا أراد إتقان علم فليدرسه ، وهذا ما حدث معي .
أتقنت النحو من خلال تدريس قواعد اللغة العربية خمس سنوات في المدارس ، واطلعت اطلاعا جيدا على الأدب العربي في العصر العباسي والعصر الوسيط من خلال تدريس المساقات التي تخص العصرين ، وساعدني في ذلك أنني كنت كريما في اقتناء الكتب ، فلم أعد إلى مكتبة الجامعة للاستعارة منها إلا في حالة عدم توفر الكتاب في المكتبات التجارية ، وفوق ما سبق أنني كنت أملك شقة مستقلة وكنت أعزب .
في التدريس في الجامعة شعرت بحالة من السعادة لا توصف ، وكنت أنفق في الجامعة سبع ساعات وأكثر ، وأحيانا بعد انتهاء المحاضرات كنت أتمشى ، مع بعض زملائي من أقسام أخرى ، في الساحة ولم نكن نستعجل المغادرة . كان عدد الموظفين في الجامعة محدودا تقريبا فكنا نعرف بعضنا كما لو أننا أفراد أسرة واحدة ، وغالبا ما كنا نلتقي بداية كل شهر أمام مكتب محاسب الجامعة لاستلام رواتبنا بمغلفات أعدت ووضع فيها مرتبنا الشهري ، وكان هذا يقود إلى تبادل التحيات والمزاح والأحاديث الجانبية ، عدا أن يوم استلام الراتب كان يوم فرح جامعي ويوم لقاء أسري .
كنت أدرس مواد إضافية مثلي مثل جميع أعضاء هيأة التدريس في القسم ، وهذه آفة سوف أعود إليها لاحقا للتوقف أمام ضررها ، بل وكنت أحيانا أدرس تدريسا مجانيا لطلاب التوجيهي .
كانت نقابة العاملين في الجامعة وبعض الفصائل تتابع إجراءات الاحتلال الإسرائيلي المتمثلة في إغلاق بعض المدارس الثانوية نتيجة تظاهر طلابها واشتباكهم مع دوريات جنود الجيش الإسرائيلي المحتل ، ولما كان طلاب التوجيهي يتضررون من الإغلاق فقد افتتحت لهم شعب تدريسية عصرا في قاعات التدريس في الجامعة وتبرع الأساتذة بتدريسهم ، ما جعلني أحيانا أنفق في الجامغة ساعات إضافية ، وكنت أفعل ذلك بإقبال شديد وبرغبة وبلا تذمر ، فقد كان العمل التطوعي شائعا في سبعينيات القرن العشرين وكان ينظر إليه نظرة إيجابية ، إذ عد شكلا من أشكال مقارعة الاحتلال ومقاومته .
في تلك السنوات تضاعفت قراءتي فقد وجب علي التحضير بالإضافة إلى عملي محررا أدبيا في جريدة " الشعب " .
كنت في الحلقة الرابعة أشرت إلى سؤالي إن كنت شيوعيا أو لا ، فهل انعكس هذا على عملي في الوظيفة. هذا ما سأكتب عنه في الحلقة القادمة.

١ تشرين الثاني ٢٠١٩

***

-6-
في السنوات الخمس ما بين 1982 و 1987 كان التعليم في الجامعة ضربا من الكفاح حقا ، وذلك بسبب الاحتلال الإسرائيلي والحواجز التي توضع على مداخل الجامعة . ( غادرت الجامعة إلى ألمانيا في بداية تشرين الأول من العام ١٩٨٧ ، وغبت أربع سنوات اندلعت فيها الانتفاضة واستمر عدم الانتظام في الدراسة).
لم تكن الجامعة بمعزل عن المجتمع ، ولم تكن الضفة الغربية بمعزل عن غزة ولبنان ، وكانت وحدة الشعب الفلسطيني تتجسد في الجامعة التي كان طلابها موالين لمنظمة التحرير الفلسطينية وأحد أذرعتها المهمة في تعزيز الهوية الوطنية ، ولذلك فما من حدث وطني إلا كان للجامعة إسهام فيه ، وكان الاحتلال الإسرائيلي يعرف هذا ويدركه جيدا ، ولذلك كان غالبا ما يقيم الحواجز التي تحول دون انتظام العملية التعليمية ، وكان أحيانا يفرض الإقامة الجبرية على بعض القيادات الطلابية ولا يسمح لها بدخول نابلس والجامعة ، وقسم من هذه القيادات كان من مدن أخرى مثل الخليل ، ولما تعذر قدوم هؤلاء الطلاب إلى الجامعة لتأدية امتحاناتهم ، فقد ذهب الأساتذة إلى بيوت هؤلاء في مدنهم وقراهم دون تذمر . في تلك الأيام زرت قرى في منطقة الخليل لأول مرة.
نصحو صباحا ونذهب إلى مباني الجامعة وقد ينتظم التدريس وقد يعطي الجندي الإسرائيلي لسائق الحافلة إشارة بالعودة ، فلا ينتظم التدريس ، وهنا قد يشتبك الطلاب مع الجنود بالحجارة . لقد كان الاشتباك مع الجنود طقسا من طقوس تلك السنوات وكنا قد تعايشنا معه و تآلفنا.
كانت الجامعة جامعة وطنية ، ولذلك كان نشر الوعي الوطني مهمة من مهماتها وهدفا من أهدافها ، ولما كنت أدرس مساق الأدب الفلسطيني الحديث ، فقد ساعدني ذلك في اختيار الأدباء ونصوصهم دون اعتراض من أحد ، وبقيت أدرس من أريد من الأدباء وما أريد من النصوص حتى اليوم الأخير من عملي الجامعي ، ولا أذكر أن هناك من اعترض على تدريس أديب أو نص اعتراضا مباشرا من خلال جهة مسؤولة . وإن كانت هناك اعتراضات أستمع إليها ، فقد كانت تقال همسا وبصوت خفيض وبقدر من الود والعتاب .
كان المد الإسلامي بدأ في الجامعة والضفة والعالم الإسلامي يتصاعد ، وكنت أدرس أدباء وطنيين وقوميين ويساريين ، ولم أدرس اديبا ذا توجه إسلامي ، وكانت خلفية الأدباء الوطنيين والقوميين يسارية في الغالب . ولما كان أكثر طلاب قسم اللغة العربية محافظين وريفيين ، فقد كان قسم منهم يسألني بود السؤال الآتي:
- يا أستاذ لماذا لا تدرس أدباء إسلاميي التوجه ؟
وكان يتبع السؤال السابق باستفسار مفاده إن كان فكري اليساري - شاع أنني يساري الفكر - هو ما يحكم اختياراتي للأدباء والنصوص .
كنت أدرس ابراهيم طوقان وأبو سلمى ونجاتي صدقي واسحق موسى الحسيني وغسان كنفاني واميل حبيبي ومحمود درويش وجبرا ابراهيم جبرا وفدوى طوقان وسميرة عزام ومحمود شقير وتوفيق فياض ويحيى يخلف وليانة بدر وأكرم هنية ، ولم يكن بين هؤلاء كاتب إسلامي التوجه . وكنت أجيب الطالب السائل بأنني أراعي في اختياراتي الجانب الأدبي لا التوجه الفكري ، وأن الأدب الفلسطيني غلب عليه الفكر اليساري والوطني منذ النكبة ، بل وما قبلها ، وحتى اليوم ، وأن الأدب الإسلامي ظل حتى نهايات القرن العشرين شبه غائب وشبه ضعيف .
ولا أنكر أن معطيات حقبة الثمانينيات تركت أثرها علي ، ففي تلك الفترة كانت الأدبيات الوطنية واليسارية في فلسطين في صعود .
أذكر مرة وأنا أدرس قصيدة أبو تمام في فتح عمورية ، أذكر أن إحدى الطالبات ذات التوجه الإسلامي شكتني إلى رئيس القسم بحجة أنني أشكك في التاريخ الإسلامي.
كنت سألت الطلبة السؤال الآتي :
- هل تصدقون أن صرخة المرأة المسلمة فقط هي من حرك المعتصم وجيشه لمحاربة الروم ؟
وأتبعت السؤال بآخر:
- لماذا لا يستجيب الحكام العرب في زماننا لصرخات النساء الفلسطينيات ؟
فيما بعد وأنا أدرس مادة " مناهج البحث العلمي " كنت أبذل جهدا كبيرا في إفهام الطلاب المنهج الاستردادي - أي دراسة القديم في ضوء نتائجه وأن الحاضر هو نتاج الماضي ، وكنت أطلب منهم أن ينهجوا نهج ( ديكارت ) وأن يخضعوا كل شيء للعقل ، وألا يصدقوا كل ما يقرؤون .
هل ثمة نصوص أدبية سبب تدريسها لي إشكالات ؟
في الحلقة القادمة سوف أتوقف أمام
- موسم الهجرة إلى الشمال.
- قصيدة لهب القصيد لأبي سلمى
- قصيدة راشد حسين " الله أصبح لاجئا يا سيدي " وما حدث بشأنها مع الأستاذ نبيل أبو زنيد .

٨ تشرين الثاني ٢٠١٩

***

-7-
- نصوص إشكالية :

في سبعينات القرن العشرين قامت منشورات صلاح الدين في القدس بطباعة كتب يسارية وأخرى غير يسارية ذات طابع احتجاجي على النظام السياسي والاجتماعي القمعي والتسلطي في العالم العربي ، وذات تجارب انسانية شمولية تأتي على الصراع الحضاري بين الشرق والغرب ، وقد لاقت هذه الكتب إقبالا جيدا من القراء ، ومن ضمن هذه الكتب روايات الطيب صالح والطاهر وطار ومسرحيات بريخت وسعد الله ونوس .
وكنت زرت سورية في العام ١٩٧٥ واشتريت منها أعمال الطيب صالح التي كانت موضع نقاش وجدل ، فقد عد في حينه عبقري الرواية العربية .
عندما بدأت التدريس في الجامعة قررت تدريس بعض هذه الأعمال ، وفي مساق " المدخل إلى تذوق النص الأدبي " اقترحت على الطلاب قراءة رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " لمناقشتها معهم .
كنت أعرف أن الرواية لا تخلو من مشاهد فيها تصوير لعلاقات جنسية بين بطلها مصطفى سعيد ونساء اوروبيات تعرف إليهن ، وأنا أعرف أن قراءة مثل هذه المشاهد قد يسبب حرجا وارباكا ، ولذلك قررت عدم قراءتها أو الإشارة إليها.
بعد أيام من طلبي من الطلاب قراءة الرواية فوجئت بأن رئيس القسم يراجعني في شأن تدريس الرواية .كان والد إحدى الطالبات قرأ الرواية وتوقف أمام المشاهد التي تأتي على علاقات جنسية واستغرب أن تدرس هذه الرواية في الجامعة ، فراجع رئيس القسم بالأمر ، وقد راجعني به الرئيس .
ما حدث له دلالات عميقة تتمثل بالعلاقة بين الجامعة والمجتمع سيعبر عنه محمود درويش بسطر واحد في قصيدته " أنت ، منذ الآن ، غيرك " والسطر هو:
" ما حاجتنا للجامعة مادامت هي والجامع من جذر واحد " .
مراجعة والد الطالبة رئيس القسم بالموضوع وطلب الثاني من المدرس ألا أدرس الرواية يعني خضوع الجامعة للمجتمع ، لا قيادة الجامعة للمجتمع ، وأعتقد أن أكثر الجامعات العربية تخضع لمجتمعاتها ، وأنها لا تقودها إلى عالم آخر مختلف ، وأعتقد أن المحتمع يخضع الجامعة لشروطها ، ويبدو هذا في سياسة الجامعة المقرة يوم تأسيسها ، فأهدافها المعلنة تقر بأن الجامعة مثلا وطنية عربية إسلامية وما شابه ، وقد تتعارض سياسات الجامعة مع أهم ما يجب أن تحققه وهو إشاعة التفكير العلمي واخضاع ما يدرس للعقل لا للعواطف والمشاعر وما شابه .
لم أكن الوحيد الذي اشتكي ضده بخصوص ما يدرس . لقد قرر أحد أساتذة العلوم السياسية ذات فصل وهو يدرس القانون الإسرائيلي الشهير "قانون أملاك الغائب " ، لقد قرر في مساقه كتابا ترد فيه أبيات راشد حسين الشهيرة:
" الله أصبح لاجئا يا سيدي
صادر إذن حتى بساط المسجد
وبع الكنيسة فهي من أملاكه
وبع المؤذن في المزاد الاسود"
فاعترض الطلاب عليه واشتكوه إلى إدارة الجامعة تدعمهم تيارات دينية ، وقد عرض الموضوع علي وسئلت إن كان البيتان فيهما نوع من الإلحاد .
مرة وأنا أدرس مساق الأدب الفلسطيني ، مرة درست قصيدة عبد الكريم الكرمي " أبو سلمى " " انشر على لهب القصيد " فاعترض بعض الطلاب على البيت الآتي :
" لو كان ربي انجليزيا
دعوت إلى الجحود "
وقال المعترضون إن البيت فيه دعوة واضحة إلى الإلحاد . وأذكر أنني استغرقت وقتا طويلا في إقناعهم بأن لا الحاد إطلاقا في البيت ، فالشاعر يقول " لو " والله ليس انجليزيا بأي حال من الأحوال ولن يصير .
أطرف ما في أمر اعتراض والد الطالبة على تدريس رواية الطيب صالح هو موقف أحد أعضاء هيأة التدريس في القسم . لقد سألني هذا الأستاذ السؤال الآتي :
- كيف تدرس هذه الرواية؟
وتابع :
والله إنني أخجل من وضعها على رفوف مكتبتي .
بعض أساتذة الجامعات غالبا يكونون متناقضين ، فهم يظهرون محافظين أخلاقيين ولكنهم في السر يتبادلون النكت الجنسية الفاضحة ، ولقد كان الأستاذ المعترض واحدا من هؤلاء .
إن المنظومة الأخلاقية لدى كثير من أساتذة الجامعات يجب أن ينظر فيها حقا . وأعتقد أن ما يجب ان يتمتع به الأستاذ الجامعي بالدرجة الأولى هو إخلاصه في عمله وتطويره نفسه علميا ، والتزامه الصارم ، في أثناء التدريس ، بالمساواة التامة بين الطلاب وعدم التمييز بينهم اتكاء على انتمائهم السياسي أو الديني أو الاجتماعي ، وعدم التدخل في شؤونهم الخاصة .
وربما يبقى السؤال الأهم :
ما الدور الذي أسهمت فيه الجامعة في تطوير المجتمع وقيادته ؟
هل خلقت من طلابها طلابا يعتمدون على أنفسهم؟
وهل أوجدت لديهم القدرة على التفكير العلمي السليم أم أنها علمتهم فقط مواد تعليمية حفظوها ونجحوا فيها وكانت بالتالي مثل مدرسة ثانوية عليا ؟

***

-8-
- الجامعة والمجتمع :

ربما تكمن إحدى مشاكل جامعة النجاح الوطنية في موقعها وفي طبيعة المجتمع النابلسي بخاصة والوضع الفلسطيني بعامة ، بالإضافة إلى كون الفلسطينيين جزءا من العالم العربي الذي يعاني من بنية سياسية واجتماعية بائسة.
عندما ذهبت إلى ألمانيا درست في جامعة ( بامبرغ ) التي تقع في وسط البلدة القديمة ، ومثلها جامعة ( فرايبورغ ) ، كما لو أنهما تقعان في خان التجار في نابلس ، وقد مدح كارل زوج المستشرقة التي اصطحبتنا إلى ألمانيا هذا الموفع ، وقال إن جامعتنا بين الناس غير بعيدة عنهم .
ما اعتبره كارل في مجتمع غربي ميزة هو ليس كذلك في مجتمع عربي وبخاصة في المدن الصغيرة التي يعرف أكثر الناس فيها بعضهم ، بخلاف المدن الكبيرة مثل القاهرة وبيروت.
قبل أن أتعين في الجامعة كان موقف باصات الجامعة قرب دوار المدينة مقابل " أحذية نانا " ، ومرة أصغيت إلى مراهق يمر قرب الباص وينادي مستهزئا:
- جامعة الن- اح . مستبدلا حرفا بحرف الجيم ، كما لو أن على الجامعة ألا تكون مختلطة وتخضع لمفهومه للأخلاق .
بعض أهل المدينة من المحافظين لم يستسيغوا قبل تأسيس الجامعة إقامة مسرح في المدينة أو إقامة ناد مختلط للعائلات ، بحجة الحفاظ على الأخلاق ، ولما أقيمت الجامعة ازداد عدد طلابها وطالباتها وصار قسم من الطلاب والطالبات يمشون معا في البلدة ، وهذا لم يرق ربما لبعض الناس ، علما بأن الاختلاط كان في معهد النجاح حاصلا قبل تأسيس الجامعة بسنوات ، ولكن عدد طلاب المعهد كان قليلا وكان الاختلاط يتم داخل أسوار الكلية .
طبعا لا يمكن تعميم حالة المراهق باعتبارها تمثل وجهة نظر سكان المدينة كلهم ، ومع ذلك فإنه كان يصدر عن توجه عرفته المدينة قبل سنوات قليلة حين اعترض على إقامة مسرح في المدينة وإقامة ناد مختلط هو النادي الذي أقيم لاحقا في مكان بعيد عن المدينة .
ما أود كتابته هنا هو أن موقع الجامعة في داخل المدينة ترك مجالا لتدخل السكان فيما يجري فيها ، وزاد الطين بلة حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال .
ليس غريبا وما سبق أن تصبح الجامعة وما يجري فيها على لسان المواطنين وأن يدلي كل واحد من هؤلاء بدلوه بصفته الخبير العليم وصاحب الفضيلة وأنه يمون على فلان وفلان ممن يعملون فيها.
في العالم العربي لا تبني المدارس ولا الجامعات شخصية طالب يعتمد على نفسه حتى بعد أن يتخرج ، ومن هنا لا بد من الاعتماد على الأب أو القريب أو الواسطة ، وهكذا يتدخل الآخرون ممن هم خارج الجامعة في شؤونها .
لن تستغرب إن كنت عضو هيأة تدريس أن يزورك في بيتك والد طالبة أو قريب لها ليتوسط لك بشأن ابنه أو ابنته الذي رسب في المساق الذي تعلمه ، أو أن يأتيك والد طالب أو طالبة ، ممن يعملون في الجامعة ، لتساعد ابنه أو ابنته أو قريبه . ولن تستغرب أيضا أن يطلب منك أخوك أن تنجح فلانا أو فلانة من أبناء أصحابه ، فالكل في نابلس يعرف الكل ، والكل يمون أو يتخيل نفسه أنه يمون على الأساتذة وعلى إدارة الجامعة .
الطلاب القليلون الذين كانوا يعتمدون على أنفسهم كانوا قليلين ، وغالبا ما كانوا سجناء أمنيين قضوا في السجن سنوات ، وهؤلاء شكلوا حالة ما عادت مع مجيء السلطة تتكرر .
ولم يقتصر الأمر على المجتمع ، فقد كانت الفصائل غالبا ما تتدخل في العلاقة بين الأستاذ وبعض الطلاب المنتمين لها ، وإذا كنت قريبا من هذا الفصيل أو ذاك ، فإن الطلب منك بمساعدة أعضائها يزداد ، وهذا كله يفقد العملية التعليمية في الجامعة بعض استقلالها .
مرة في 90 القرن العشرين كتبت مقالا عنوانه " جناية الفصيلية على المجتمع الفلسطيني " وبقدر ما كان للفصائل دور إيجابي كان لها في الوقت نفسه أدوار سلبية في التعليم ، فأنت صرت ترى الطلاب تؤلف قلوبهم ، فيختارون هذا الأستاذ دون غيره لأنه من فصيلهم أو .. .
هنا أشير إلى أن الجامعات العربية ليست أفضل حالا ، وما عليك إلا أن تقرأ رواية خالد خليفة " لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " لتعرف هذا ، وما عليك إلا أن تتابع بعض ما جرى في بعض الجامعات الأردنية في السنوات الأخيرة لتتأكد من أن بنية المجتمع العربي والنظام السياسي فيه يفسدان الجامعة دورها الريادي ويقللان منه ، فبدلا من أن تقود الجامعة المجتمع تغدو ذيلا له ، وبدلا من أن تعتمد الصرامة العلمية في شؤون التعليم والتعيين تحضر الواسطة والفصيلية والعائلية وعلى رأي بعض أهل نابلس الذين يميلون إلى الدعابة ، فإن هذا " مننينا " - أي من أهل نابلس - ومن جماعتنا ومحسوب علينا ، والكلام يطول ويتشعب وإلى اللقاء في الجمعة القادم.

22 / 11 / 2019 .

***

-9-
- تثقيف الذات

أول ما افتتحت الجامعة سعت إلى تثقيف موظفيها ، فحثتهم على مواصلة تعليمهم ، بخاصة ممن كانوا يعملون فيها وهي مدرسة ثانوية ومعهد إعداد معلمين . ولما كان قسم من أعضاء مجلس أمنائها مثقفين وكان توجههم توجها ليبراليا وغربيا ، مثل السيد حكمت المصري والمربية يسرى صلاح والدكتور شوكت زيد والمحامي موسى الجيوسي والشاعرة فدوى طوقان ، ولما كان رئيسا الجامعة الأولان درسا في جامعات أميركية ، فقد شجعوا على عقد دورات باللغة الانجليزية ؛ لأعضاء هيأة التدريس ممن يرغب ، وللموظفين الإداريين ، ولما كان هناك صلة بين الجامعة كهيأة علمية وبين مؤسسات انجليزية وأميركية علمية ، فقد عقد في صيف 1983 دورة لغة انجليزية لتطوير مستوى العاملين فيها ممن يرغبون في تطوير لغتهم وتنميتها .
أجرى القائمون على الدورة امتحانا لمعرفة مستوى المتقدمين حتى يبنوا على نتائج الامتحان.
كانت رغبتي في تعلم الإنجليزية شديدة ولكني لم أسع بعد التوجيهي لهذا ، علما بأنني حصلت في امتحانات التوجيهي على 273 من 300 - أكثر مما حصلت عليه في مادة اللغة العربية حيث حصلت على 231 من 300 . وهنا قد يسأل سائل:
- لماذا لم تتخصص أصلا في الأدب الإنجليزي؟
ولقد رغبت حقا في ذلك ولكن تجارب آخرين درسوا في الجامعة الأردنية في 1971 لم تشجعني ، فعلى الرغم من أنهم كانوا من الأوائل إلا أنهم لم يغمسوا زيتا في حينه مع طلبة مدارس الفرندز والفرير الذين تخصصوا في الأدب الإنجليزي .
في امتحان اللغة الإنجليزية حصلت على ما يقارب السبعين وهي العلامة التي حصل عليها بعض الموظفين من الجامعة ممن تخرجوا في قسم اللغة الانجليزية في الدفعة الأولى .
واظبت على تعلم اللغة وواصلت حضور محاضرات مع السيدة إنصاف عباس المحاضرة في قسم اللغة الإنجليزية في الجامعة لفترة ثم انقطعت لأسباب منها العبء التدريسي ، فقد كنت أدرس 18 ساعة أسبوعيا - أي ست ساعات إضافي فوق العبء التدريسي ، وهذا فوق الطاقة وعلى حساب الصحة الجسدية والذهنية ، كما أنني في فترة لاحقة أخذت أتعلم اللغة العبرية مع طلاب الجامعة مع معلمها غانم مزعل ، وحملت بذلك ثلاث بطيخات بيد واحدة ، ولهذا لم أفلح في إتقان أية لغة ، عدا أن إتقان أية لغة يتطلب أن تعيش بين أهلها وتخالطهم وتتكلم معهم بلغتهم .
هنا أتذكر قصة الأستاذ الجامعي المصري أحمد أمين وحكايته مع تعلم اللغة الانجليزية.
في سيرته الذاتية " حياتي " يأتي أحمد أمين على قصة تعلمه اللغة الانجليزية يوم كان أستاذا في الجامعة . لقد أراد تعلم اللغة الانجليزية فمن غير المعقول أن يكون أستاذا في الجامعة ، في القاهرة التي كان الأجانب يؤمونها ، ولا يتقن الإنجليزية ، وهكذا عقد العزم على تعلم اللغة ، وقد اتفق مع امرأة إنجليزية كبيرة تقيم في القاهرة على أن تعطيه حصصا خاصة مقابل مبلغ من المال ، وصار يتردد على بيتها حيث كانت تعطيه الحصص ، وقد واظب على التعلم ، ثم أخذ يشارك في مؤتمرات علمية تعقد خارج مصر ، ومرة أراد أن يلقي ورقته بالإنجليزية فتلعثم ولم يجد الحديث ، وهكذا قرر ألا يتحدث بغير العربية.
أعتقد أن مما يؤخذ على أعضاء هيأة التدريس في كثير من أقسام اللغة العربية في الجامعات العربية ، وأنا منهم ، هو عدم إتقانهم للإنجليزية ، وهذا يقلل من فرصهم ؛ في التدريس في جامعات عالمية ، وفي القراءة بلغة أخرى ، وفي كتابة الأبحاث ونشرها . بل ويقلل من فرصهم في تبوؤ مراكز علمية مهمة حتى في جامعتهم ، إذا غضضنا النظر عن الولاء ، فالولاء في جامعاتنا مقدم كثيرا على الكفاءة . الجامعات العربية للأسف تريد ولاءات ولا تريد كفاءات.
فيما بعد صرنا إذا أردنا كتابة ملخص ما باللغة الانجليزية نستعين بأساتذة قسم اللغة الانجليزية لينظروا في سلامته أسلوبيا ، والطريف أن قسما كبيرا من هؤلاء صاروا يستعينون بنا لننظر في الملخصات التي يكتبونها بالعربية لأبحاثهم ، على قلة ما يكتبون .
مرة كتب الناقد الفلسطيني د. فيصل دراج عن الفرق بين تعلم الإنجليزية في النصف الأول من القرن العشرين وتعلمها الآن وقال كلاما صحيحا . كتب إن إتقان الإنجليزية قديما كان يعني أن تعرف ثقافة تلك اللغة وتسهم في المعرفة بنقلها أو بالتأليف بتلك اللغة ، وأما في عصرنا فقد افتقد إتقان اللغة الأجنبية تلك الميزة ، وهذا واضح جدا من خلال الإنتاج المعرفي لأساتذة أقسام اللغة الانجليزية ، ولكن إدارة جامعة النجاح الوطنية تفرط في أستاذ له عشرون كتابا ، ولا تفرط بدكاترة يتقنون الإنجليزية وليس لهم نتاج علمي يشار إليه ، وتلك طامة كبرى .

وللكتابة بقية يوم الجمعة القادم .

29 تشرين الثاني 2019


***

-10-
- الشهادة أولا :

في الجامعة لا يسأل عن ثقافتك وقدرتك على العطاء قدر ما يسأل عن درجتك العلمية .
كانت الجامعة في بداية تأسيسها تحتاج إلى حملة شهادات عليا لتقنع الآخرين بمستواها العلمي وبأنها ليست معهدا أو مدرسة ، وكان لا بد من حملة الدكتوراه ، وهكذا سعت إلى التعاقد مع أعضاء هيأة تدريس من حملة الدكتوراه حتى لو كانوا حصلوا عليها من جامعات ضعيفة وبالانتساب أيضا . نظرت الجامعة ، من أجل سمعتها أمام الآخرين وإقناعهم ، وهذا من حقها ، إلى المسمى حتى لو كان صاحبه مجرد متعلم عادي والمسمى أكبر منه.
درس في قسم اللغة العربية أعضاء من حملة الدكتوراه كانوا معلمي مدارس بالدرجة الأولى ، ولم يكونوا مثقفين أو قراء جيدين ، وكان نتاجهم العلمي شبه معدوم وفقيرا جدا ، ومع ذلك كانوا مزهوين بشهاداتهم التي نقلتهم من المدرسة إلى الجامعة ، وهكذا غادروا مدارس دول الخليج فرحين عائدين إلى جامعة في بلدهم .
عندما عينت في القسم كنت أحمل شهادة الماجستير وكان زميلي الأستاذ فتحي خضر يحمل درجة البكالوريوس ، وفي هذه الأثناء عاد قسم من المبعدين من حملة الدكتوراه .
في اجتماعات القسم ، حين كانت هناك قضايا تتطلب التصويت ، وبخاصة في قضايا التعيين ، كان بعض الدكاترة يقول علنا وبصوت مسموع واضح :
- الزملاء ممن لا يحملون درجة الدكتوراه يحق لهم الإصغاء ولا يحق لهم التصويت.
وكانت عباراته ولهجته تشعرنا بأننا فائضون عن الحاجة ، وهذا جعلني أفكر جديا بضرورة الحصول على الدكتوراه . كما لو أن الشهادة فقط هي التي تمنحك المكانة ، وعدا ما سبق فإنك إن كنت عضو هيأة تدريس في جامعة ، وجب عليك أن تطور نفسك وأن تواصل القراءة والكتابة ، فالشهادة ليست سوى خطوة أولى.
غالبا ما كنت في محاضراتي أقول للطلبة إن الدكتوراه ليست سوى رصيد في البنك عليك أن تضيف إليه لأنك إن لم تفعل فسوف ينقص حتى يتلاشى ، وكذلك المعلومات .
كانت مشكلة الجامعة ، وما زالت ، أنها لا ترسل المبعوثين على نفقتها هي ، وأنها تعتمد على المنح والبعثات التي تقدم لها من الدول والمؤسسات ، وغالبا ما كانت هذه الدول والمؤسسات غربية ، ما جعل إمكانية مواصلة دراستي أمرا صعبا ومتعذرا ، ومع ذلك فلم أستسلم . كان لا بد من التخلص من الإصغاء إلى حملة الدكتوراه وعباراتهم التي تشعرك بأنك أقل منهم مكانة .
في تلك السنوات كنت تزوجت وخلفت طفلتين وكان راتبي جيدا ، ولكنه لا يمكنني من التفرغ لإكمال الدكتوراه ، وهكذا فلا بد من البحث عن منحة .
كانت مؤسسة ال DAAD ، وهي مؤسسة أكاديمية ألمانية للتبادل الثقافي مع العالم الخارجي ، تقدم منحا لا تستثني منها طلاب اللغة العربية والأدب العربي ، وقد عرفت أن زملاء كثيرين لي في الجامعات الأردنية سافروا إلى ألمانيا لإكمال الدكتوراه فيها ، وهكذا تشجعت للدراسة هناك ، علما بأنني لم أكن أعرف الألمانية نهائيا .
السؤال الذي ظل يسأل هو :
- أدب عربي في ألمانيا؟
منذ فكرت في الدراسة هناك أصبح السؤال يجري على لسان الجميع ، وحين عدت ومعي درجة الدكتوراه كتبت أوضح الأمر للمتسائلين .
ما يجدر الإشارة إليه هنا هو أنني خلال عملي محاضرا ما بين 1982 و 1987 كنت أثقف نفسي باستمرار ، وكنت إلى جانب عملي محاضرا أرسخ اسمي كاتبا ، فقد واظبت على كتابة مقال أسبوعي في جريدة " الشعب " المقدسية التي كنت أحرر صفحتها الثقافية. تطلبت كتابة المقال مني القراءة والقراءة ، ولا أبالغ حين أزعم أنني صرت أقرأ أكثر من حملة الدكتوراه ممن كانوا يسندون أنفسهم ، بالدرجة الأولى ، باللقب العلمي . إن الثقافة والمطالعة والكتابة لا تشفع ، فما يشفع هو الكرتونة وحسب ، وجامعة النجاح الوطنية لم تكن في بداياتها جامعة عريقة تجيز لحامل الماجستير المثقف فيها أن يشرف على طالب الدكتوراه . في الجامعات العريقة كما كنت أسمع كان المثقف المشهود له بالكفاءة والبحث والإنجاز يشرف على طلبة الدكتوراه حتى لو لم يكن حاصلا على شهادة الدكتوراه .
في جامعاتنا لا يجوز لمن هو برتبة أستاذ مساعد أن يشارك في التصويت على ترقية أستاذ مشارك إلى رتبة أستاذ دكتور حتى لو كان يبذ حملة الأستاذية ثقافة وعلما .

٧ / ١٢ / ٢٠١٩

***

-11-
- بعثة الدكتوراه :

في السنوات التي عملت فيها في الجامعة من 1982 -1987 لم أكن أملك المال الكافي لدراسة الدكتوراه على نفقتي الخاصة ، وكل ما وفرت من نقود في هذه السنوات لم يكن يكفي رسوما لجامعة مثل الجامعة الأردنية لو فكرت في الدراسة فيها ، فقد كانت افتتحت برنامج دكتوراه حديثا ، عدا أنني لم أكن متشجعا للدراسة في الجامعة نفسها التي حصلت منها على شهادتي البكالوريوس والماجستير ، فما سأسمعه من الدكاترة كنت سمعته ، وغالبا ما يكرر المدرسون أنفسهم.
في العام 1986 تقدمت لمؤسسة DAAD الألمانية ، وقد فكرت في موضوع نقدي هو " رمز المسيح في الشعر الفلسطيني " . كتبت الطلب إلى المؤسسة وتقدمت به لمسؤولها في القدس حيث مكتب المؤسسة في البلدة القديمة .
لم يكن اعتماد القبول يتم بناء على الطلب فقط ، فلا بد من إجراء مقابلة مع صاحبه ، وقد حدد يوم لذلك ، وفيه ذهبت إلى القدس .
إن لم تخني الذاكرة فقد كان من أعضاء اللجنة أستاذ ألماني يدرس اللغة الألمانية في جامعة اليرموك ، وقد سألني إن كان هناك حضور للمسيح في الشعر الفلسطيني ، وكنت أجيب متكئا على قراءاتي لأشعار محمود درويش وفدوى طوقان وخليل توما.
أعجب الأستاذ الألماني بالفكرة وأوحى إلي بأنني سوف أقبل لأكمل تعليمي هناك.
كانت مؤسسة ال DAAD تطلب من المتقدم للمنحة ، لكي يحصل عليها ، أن يتصل بأستاذ ألماني يدرس في جامعة ألمانية يبدي استعداده للإشراف على الأطروحة ، وهو ما لم يكن بالأمر الصعب لي ، فقد كان صديقي الأستاذ خليل الشيخ الذي حصل لاحقا على الدكتوراه من جامعة ( بون ) ، كان في ( بون ) ، ولحسن الحظ أننا كنا على تواصل مستمر في حينه ، فقد كان بحاجة إلى من يساعده في الحصول على مصادر رسالته ، وكانت المصادر قديمة وغير متوفرة في الجامعات الألمانية ، وقد بحثت له عنها في فلسطين ، وتحديدا في الجامعة العبرية ووفرت له منها ما استطعت ، يساعدني في ذلك زميلي الذي يدرس اللغة العبرية في جامعة النجاح وكان درس في الجامعة العبرية . أرسلت إلى صديقي خليل رسالة أطلب فيها منه أن يسأل أستاذه ، وهو الدكتور ( اشتيفان فيلد ) ، إن كان مستعدا للإشراف على موضوعي وعلي طالبا للدكتوراه.
أرسل إلي خليل عنوان ( فيلد ) وطلب مني أن أكتب له رسالة اسأله فيها عن إمكانية الإشراف على موضوعي ، ولم يرد الدكتور على رسالتي ، لا سلبا ولا إيجابا . عندما أخبرت خليل بالأمر قال لي إن رسالتي ل ( فيلد ) كانت فاتحة حديث بينهما عن مستوى الطلاب العرب الذي لم يرق له فهو مستوى ضعيف ، علما بأن أستاذه راض عنه ، وما زلت أحتفظ عموما بالرسالة وبعض الرسائل.
كان الود بيني وبين خليل الشيخ ترسخ في العام 1981 حيث كان يدرس مساق اللغة العربية في الجامعة الأردنية قبل أن يتركها إلى جامعة اليرموك لتبتعثه إلى ألمانيا ، ولم يأل جهدا في مساعدتي في البحث عن مشرف آخر ، وهكذا أرسل إلي عنوان أستاذة ألمانية تدرس في جامعة ( بامبرغ ) Bamberg التي سأدرس فيها .
كتبت رسالة إلى الدكتورة ( روتراوند فيلاندت ) أسألها فيها إن كان لديها استعداد للإشراف علي طالب دكتوراه في جامعتها ، وأخبرتها أنني تقدمت بطلب لمؤسسة ال ( DAAD ) التي اشترطت ، لقبولي ، استعداد أستاذ في جامعة للإشراف على الرسالة ، وبقيت أنتظر منها ردا ، ومر العام وانتهى الموعد وضاعت فرصة الحصول على المنحة في العام 1986 ، وواصلت التدريس في الجامعة ، فما الذي حدث؟ وكيف سافرت إلى ألمانيا ؟
كل ذلك جرى ولم يكن لجامعة النجاح دور في المساعدة .
وللكتابة بقية يوم الجمعة القادم

عادل السطة
13 / 12 / 2019

***

-12-
- البعثة : ألمانيا ثانية DAAD

لم أحصل على بعثة الDAAD في العام 1986 وصرفت ذهني عن التفكير في إكمال الدكتوراه وواصلت حياتي .
في ذلك العام عدت أحرر الصفحة الثقافية في جريدة " الشعب " المقدسية التي انقطعت عن تحريرها بعد العام 1982 ، ولكن صلتي بالقاص أكرم هنية رئيس تحرير الجريدة لم تنقطع ، ولم أنقطع عن الكتابة والنشر في جريدة " الشعب " وجريدة " الفجر " عدا أنني واصلت العمل الثقافي مع بعض التنظيمات اليسارية .
كانت الجبهة الديمقراطية تنشط ثقافيا وأخذت تصدر مجلة فصلية تحت مسميات مختلفة مثل " العمل الثقافي " و" لجان العمل الثقافي " وما شابه ، وكنت أساهم في تحريرها مع القاص سامي الكيلاني والسيد ربحي العاروري ، وننفق وقتا في إعداد المواد ومراجعتها والنظر في صلاحيتها - من وجهة نظرنا المتواضعة في حينه - ثم الإسهام في طباعة المجلة وتوزيعها .
صرت أزور القدس كل أسبوع تقريبا لكي أشرف على صفحة " الشعب الثقافي " التي تصدر عادة يوم الخميس ، وعلى صفحة أدبية للشباب تصدر كل يوم ثلاثاء . أستلم بريد الصفحتين من رئيس التحرير وأنظر فيه وأختار ما أراه مناسبا وأكتب زاوية أسبوعية أناقش فيها فكرة ثقافية .
في أثناء ترددي على مكاتب الجريدة كنت غالبا ما أعرج على مكتب رئيس التحرير نتحدث قليلا في قضايا ثقافية ثم أتركه وأذهب إلى مكتب التحرير واقرأ المواد وأرتبها .
في إحدى المرات فاجأني السيد أكرم هنية بخبر لافت . قال لي إن مستشرقة ألمانية جاءت إلى مكاتب الجريدة وسألت عني ، وأخبرني أنها تنتظرني اليوم ظهرا في مكتب وكالة أبو عرفة للنشر والتوزيع .
في مكتب وكالة أبو عرفة للنشر والتوزيع وجدت صديقا (؟!!) لي بصحبة السيدة الألمانية وقد عرفها حين كانت تدرس في الجامعة الأردنية .
الصديق (؟!!) هو ابراهيم أبو هشهش والسيدة الألمانية هي البروفيسورة ( انجليكا نويفرت ) .
كانت السيدة ( نويفرت ) ، كما عرفت ، منتدبة من مؤسسة ال DAAD الألمانية وكلمتها مسموعة ، فهي ترشح للمؤسسة من تتوسم فيهم خيرا من الطلاب ، وقد زكت خليل الشيخ وآخرين ، ووعدت ابراهيم أبو هشهش ببعثة حصل عليها في العام 1986 ولكنه لظروف شخصية لم يتمكن في ذلك العام من السفر . ولما كنت ألتقي به ، بين حين وحين ، في القدس ، فقد أخبرته أنني ترشحت للدراسة في ألمانيا ولكنني أخفقت في الحصول على المنحة لعدم وجود مشرف .
كانت العلاقة بين ابراهيم و ( انجليكا نويفرت ) علاقة متميزة ، وقد أخبرها بما حدث معي ، فجاءت تسأل عني .
في اللقاء مع السيدة ( نويفرت ) الذي انتهى بزيارة بيتها في البلدة القديمة ، فقد كان أولادها يقيمون في القدس ، أخبرتني أنها تعمل على مشروع جمع الشعر الفلسطيني ، وأنها معنية بي لكي أساعدها أنا وابراهيم ، ووعدتني بالحصول على المنحة ، وقالت لي :
- اطمئن وهييء نفسك للسفر .
كانت السيدة ( نويفرت ) تعمل في جامعة ( بامبرغ ) مع السيدة ( فيلاندت ) وقد أخبرتها بأنني راسلت زميلتها ولكنها لم ترد على رسالتي ولم توافق على الإشراف على موضوعي " رمز المسيح في الشعر الفلسطيني " وعرفت من السيدة ( نويفرت ) أن الموضوع لم يرق لزميلتها فاطلاعها على الموضوع قليل ، وعرفت أن صلب اهتمام ( فيلاندت ) في كتاب الأستاذية كان يتركز على صورة الغربي في الرواية العربية والمسرح العربي .
سألتني ( نويفرت ) عن موضوع آخر ، فاقترحت عليها أن أكتب عن اليهود في الأدب العربي ، وقد راق الموضوع لها ولزميلتها فوافقت على كتابة موافقة لمؤسسة ال DAAD ، وهكذا حصلت على منحة الدكتوراه .
خلال العام 1987 بدأت أتعلم اللغة الألمانية بطريقة فردية وبحضور دورات صارت تعقدها لجنة أصدقاء جامعة النجاح الوطنية التي كان مقرها بالقرب من مباني الجامعة القديمة ، وأخذت سيدة ألمانية ، متزوجة من صيدلي فلسطيني نابلسي الأصل ، تعلمنا اللغة ، وبدأت رحلة الاستعداد للسفر .
في هذه السنوات كنت نشيطا نقاببا ، فقد انتخبت مرتين في الهيئة الإدارية للنقابة ممثلا لجهة يسارية .
عندما حصلت على المنحة فكرت مطولا في السفر . كانت العلاقات بين منظمة التحرير الفلسطينية والنظام الأردني بدأت تتأزم ، وأسفرت عن طرد الشهيد خليل الوزير ، بل وأسفرت عن إشعار أبو عمار بأنه شخص غير مرغوب فيه في الأردن ، وكان على النقابة أن تتخذ موقفا مؤيدا لمنظمة التحرير الفلسطينية ، فجل أعضاء هيئتها الإدارية من حركة فتح ومن فصائل يسارية في منظمة التحرير ، وهذا جعل أعضاء الهيئة الإدارية موضع استفهام من النظام الأردني الذي ضيق على أنصار م.ت. ف . وأخذ يسائل من يسافر منهم عبر الأردن .
في تلك الأيام أراد أحد إخوتي أن يسافر إلى الخليج وكان عليه أن يصدر جواز سفر ، وأمام مبنى فندق أبو رسول التقى بالدكتور أديب الخطيب الذي كان خارجا لتوه من المبنى وكان رئيس الهيئة الإدارية للنقابة .
كان أخي يعرف الدكتور أديب وكان الدكتور يعرف أخي ولما سلما على بعضهما أخبر الدكتور أخي بأنه سئل عن أعضاء الهيئة الإدارية وسئل أيضا عني ، ولهذا آثرت ، مثل آخرين غيري ، اختصار الطريق وقررت السفر عن طريق مطار اللد ، فاللد بلدنا والمطار مطارنا قبل أن يكون مطار بن غوريون . لقد كان اسم المطار ، قبل تأسيس الدولة الإسرائيلية ، " مطار اللد " ، فما المانع من السفر منه؟
ومع ذلك فلم يكن الأمر سهلا ، وربما تجدر كتابة حكاية أبو حيدر المختار . وقد يسأل سائل :
- ولكن ما صلة الجامعة بكل ما جرى ؟
ببساطة أجيب :
- لم يكن للجامعة أي دور في الحصول على المنحة ، فالجامعة لم تسهم ، حتى اليوم ، في إرسال أي عضو هيئة تدريس من قسم اللغة العربية لإكمال دراساته العليا والعودة إلى رأس عمله ، ومعظم أعضاء هيئة التدريس في القسم أتموا دراساتهم على نفقتهم الخاصة ، وقد ظل أحد زملائي يحمل البكالوريوس مدة خمسة عشر عاما دون أن تساعده الجامعة على إكمال دراسته ، ولم يواصل تعليمه إلا بعد أن افتتح برنامج الماجستير في الجامعة ، وفيما بعد حصل على الدكتوراه من السودان بالانتساب وعلى نفقته الخاصة .
هنا آتي على خطوة إيجابية سنتها إدارة الجامعة تتمثل في تعيين أوائل الأقسام مساعدي بحث وتدريس لابتعاثهم حتى يكملوا تحصيلهم العلمي ويعودوا إلى الجامعة أعضاء هيئة تدريس فيها ، وهو ما تحقق بنجاح إلا في قسم اللغة العربية ، فالزميلة نجية الحمود التي عينت مساعد بحث وتدريس في القسم ، وكانت الأولى والأخيرة التي تعينت عانت الأمرين في إكمال دراستها وواصلت تعليمها على نفقتها وحين حصلت على شهاداتها لم تعين في القسم .
إن قسم اللغة العربية يبدو قسما فائضا عن الحاجة على ما يبدو وهذا ما سوف أكتب عنه حين آتي على تدريس مساق " اللغة العربية " ومقارنة تدريسه بتدريس مسافات " اللغة الانجليزية " .
ولعل في الكتابة عما جرى مع " أبو حيدر " ما يعزز أن جهد الحصول على البعثة كان جهدا فرديا بامتياز

***

-13-
- دنانير د. فيصل الخمسة

الدكتور فيصل زعنون من قرية دير شرف ، وهو زميلي في مدرسة الجاحظ الثانوية ، وفي الجامعة الأردنية ، وفي جامعة النجاح الوطنية ، ولولا دنانيره الخمسة لبقيت معلما في وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في منطقة نابلس ، ولحصلت على مكافأة نهاية خدمة تفوق مكافأة نهاية الخدمة في جامعة النجاح الوطنية ، والدليل أنني التقيت في هذا الشهر ، في سبسطية في ظهيرة شعرية ، بزميلي في مدارس وكالة الغوث ، في المدرسة العقربانية ، حيث كنت أعلم معه هناك ، بالشاعر محمد الأخرس ، وسألته عن عمله ، فأخبرني أنه تقاعد وحصل على مكافأة نهاية الخدمة ولم يخف مقدارها وأخبرني عن رقم يبدو لمعلم رقما فلكيا . ولكن من قال إن الأمور تقاس بالمال فقط ، فغالبا ما أسخر من زميل لي يردد على مسامعي ما خلاصته أنه لو فتح بسطة فلافل على دوار المدينة لغدا مليونيرا ، وغالبا ما أقول له : " راحت عليك " وأنا خرجت من الجامعة برصيد لا يقل عن 20 كتابا تعتمد في كتابات باحثين ودارسين في جامعات عالمية ، 20 كتابا حققت لي شهرة واسعة .
درست والدكتور فيصل زعنون في مدرسة الجاحظ وتقدمنا للتوجيهي معا وواصلنا تعليمنا في الجامعة الأردنية من ١٩٧٢ حتى ١٩٧٦ ثم افترقنا ؛ أنا عدت إلى نابلس وهو ظل في عمان وصار موظفا في الجامعة الأردنية في قسم التسجيل ، ولما ذهبت ، في العام ١٩٨٠ ، لمواصلة دراساتي العليا في الجامعة التقيت به واستعدنا ذكريات الماضي .
في تلك الأيام مكثت في الأردن أسابيع عديدة أنتظر نتائج قبولي طالبا في الماجستير ، ثم آن موعد العودة إلى نابلس ، فالعام الدراسي قد بدأ ولا بد أن أكون على رأس عملي ، وقد مللت أيضا من المبيت هنا وهناك ، عند بعض أقارب أو لدى بعض أصدقاء أو طلاب من مخيم عسكر علمتهم في الثانوية وسافروا للعمل في عمان ، فأنا ، عدا قلة ما في اليد ، لم أعتد ، في تلك الأيام ، على المبيت في الفنادق .
كلفت الصديق فيصل أن يتابع لي إجراءات التسجيل فوافق مشكورا ، ولم يبخل على طلب الدراسة بخمسة دنانير ، لولاها لما واصلت تعليمي .
دفع لي الصديق رسوم التسجيل فقبلت طالبا من ستة طلاب فقط في برنامج الماجستير ، وكنا كلنا حاصلين على تقدير جيد جدا . ولم أعرف أنني قبلت في البرنامج إلا بالصدفة أيضا .
كانت أمي تزور خالتها رحمة ( أم محمد القوقا ) في عمان ، وكانت ابنتها لطيفة موظفة في الجامعة الأردنية وسكرتيرة في عمادة البحث العلمي والدراسات العليا . أخبرت السيدة لطيفة أمي بأنني مقبول في برنامج الماجستير ، وأن علي خلال أيام أن أدفع الرسوم وإلا فقدت مقعدي ، وأعلمتني أمي بهذا ، وسرعان ما حصلت على إجازة من قسم التعليم في وكالة الغوث وسافرت .
كلما التقيت بالدكتور فيصل وتجاذبنا أطراف الحديث وأتينا على الماضي واستثرنا الذكريات ، سألني عن نصيبه من مكافأة نهاية الخدمة مبتسما ، فالفضل يعود إلى دنانيره الخمسة أولا وأخيرا .
دنانير د. فيصل كان لها الفضل الكبير ، وقصة الدنانير تذكرني بأبي حيدر المختار .
لما حصلت على المنحة من مؤسسة DAAD كان علي أن أتدبر الحصول على وثيقة سفر إسرائيلية ( س.ب.س ) ، ويتطلب الحصول عليها الذهاب إلى مكتب الإدارة المدنية والانتظار حتى يأتي دوري ، ثم أتقدم بطلب إلى الموظف الإسرائيلي وعالبا ما كان عسكريا ، فإن وافق حصلت على الوثيقة وسافرت ، وإن لم يوافق ذهبت المنحة أدراج الرياح .
في صالة الانتظار لم أنتبه إلى " أبو حيدر " المختار ، وهو من نابلس ، يلف ويدور بين المنتظرين ، يعرض خدماته مقابل 20 دينارا أردنيا . وقف أبو حيدر إلى جانبي والتقط اسمي من طلب المعاملة وعرض علي مساعدته مقابل 20 دينار فرفضت .
تركني أبو حيدر ودخل إلى مكتب الموظف الإسرائيلي وعندما جاء دوري قدمت الطلب إلى الموظف ، فأخذ ينظر فيه ويقلب ملفاته ثم قال لي :
- الطلب مرفوض .
وأنا أغادر اقترب مني أبو حيدر المختار واستفسر عما ألم بالطلب ، فأخبرته أنه ارتفض ، فعرض علي من جديد أن أدفع له 20 دينارا وهو يتكلف بالحصول على الموافقة .
كان للمخاتير يومها دور فاعل في " تسهيل " أمورنا ، فهم ينسقون مع موظفي الإدارة المدنية من الإسرائيليين ، وكانوا معا ؛ المخاتير - إلا مختار مخيم بلاطة الشهيد أبو دراع - وموظفو الإدارة المدنية ، كانوا يتقاسمون الرشاوي ، فأثرى هؤلاء وهؤلاء ، ما دفع الكاتب الإسرائيلي ( ديفيد غروسمان ) لأن يكتب فصلا في كتابه " الزمن الأصفر " عن " الواسطة " ، وقد أتيت على هذه الظاهرة في كتابي/سيرتي " حزيران الذي لا ينتهي " .
رفضت أن أدفع لأبي حيدر المبلغ ، بدافع ألا أدفع لمتعاون ، وتعقدت الأمور ، وعندما تحدثت في الأمر أمام صديقي المرحوم عدنان عبدالله مدير مخيم بلاطة قال لي إن الإدارة المدنية تنشد ود مخيم بلاطة حتى تهدأ التظاهرات ، وأنه يمكن أن يقدم لي المعاملة من خلال مختار المخيم ، وتمكنت في نهاية الأمر من الحصول على وثيقة السفر . أنا سافرت إلى ألمانيا وأبو حيدر سيسافر بعد ثلاثة أشهر من سفري إلى تل أبيب مع مئات المتعاونين هاربين من شباب الانتفاضة الأولى في كانون الأول 1987 .
كان يمكن ألا يدفع لي صديقي فيصل الدنانير الخمسة ، فلا أقبل في الجامعة ، وكان يمكن لأبي حيدر ، مقابل مبلغ مادي تافه ، أن يحول بيني وبين السفر وإكمال دراستي . نعم كان يمكن أن يحدث هذا ، وغالبا ما أتذكر وأنا استرجع قصة الدنانير الخمسة ، وقصة " أبو حيدر " ما أوردته الشاعرة فدوى طوقان في الجزء الأول من سيرتها الذاتية " رحلة جبلية ... رحلة صعبة " 1985 ، فلولا حادث تافه بسيط لتغير مجرى حياتها ، ولربما واصلت تعليمها وصارت معلمة مثل مئات المعلمات ، ولما غدت شاعرة معروفة عربيا وتترجم بعض قصائدها ، وسيرتها الذاتية ، إلى لغات عالمية .
تقص فدوى قصة حبها الطفولي البريء الأول حيث أعجب بها شاب ، وبينما هي ، ذات يوم ، ذاهبة إلى بيت خالتها ، إذا بالشاب يهديها وردة حبهما ، ولما شاهد أحد أصدقاء اخوانها الأمر ذهب إلى واحد منهم وأبلغه بما رأى ، فثارت ثائرة الأخ ومنع الأخت من مواصلة تعليمها .
ترى ، الآن أسأل ، لو طلبت من الجامعة مساعدتي في موضوع إصدار الوثيقة ، فهل كانت ستفعل ؟
أغلب الأمر أنها ستخبرني بأن هذا ليس في مقدورها وليس من اختصاصها ، وقد تكون محقة في ذلك .
في نهاية أيلول سأقلع من مطار اللد إلى ألمانيا وأغيب أربع سنوات ، فكيف كانت في هذه الفترة علاقتي بالجامعة؟

وإلى اللقاء في كتابة قادمة يوم الجمعة القادم .

27 كانون الأول 2019 .


***

-14-

-[SIZE=26px] سنوات البعثة : [/SIZE]

في نهاية أيلول من العام 1987 سافرت إلى ألمانيا ومكثت فيها حتى 10 تموز من العام 1991 .
خلال السنوات الأربعة هذه تقريبا انقطعت صلتي بالجامعة انقطاعا شبه تام . وكان علي بعد أن أنهي الدكتوراه العودة لكي أخدم مقابل كل عام أنفقه في الدراسة ثلاثة أعوام .
كان يمكن ألا أوقع عقدا ملزما مع الجامعة وأن أحصل على إجازة دون راتب لمدة ثلاث سنوات ، فالأستاذة ( انجليكا نويفرت ) ، كما ذكرت ، هي من كان له الدور في الحصول على بعثة DAAD ، ولكني كنت على يقين من أن الدراسة قد تستغرق أربع سنوات وأكثر ، فأنا مقدم على الدراسة بلغة لا أتقنها ويجب تعلمها في معهد غوتة لمدة ستة أشهر أو لمدة عام ، وأكثر الذين درسوا في ألمانيا احتاجوا إلى أربعة أعوام تقريبا ، وعدا ما سبق فإن سفري للدراسة في بعثة يختلف عن سفري للدراسة في إجازة ، ولا يعني هذا أن الجامعة ستسهم في نفقات دراستي وتدفع لي ولأسرتي مبالغ مالية إضافية . ربما كانت الميزة الوحيدة لطالب البعثة عن طالب الإجازة هي أخذها في الاعتبار في نهاية الخدمة ، علما بأن هناك ميزة لطالب لإجازة عن طالب البعثة تتمثل في أن الأول إن أخفق في دراسته وعاد لا يسأل عن التكاليف ، وأما الثاني ، إن أخفق وعاد ، فسيدفع التكاليف التي أنفقت عليه من الجهة المانحة كاملة ، تخصم من راتبه شهريا على سنوات . هل كانت الجامعة تنهج مع المخفقين كلهم النهج نفسه ؟
أعتقد أن العودة إلى ملفات المبعوثين المخفقين يقول لنا الحقيقة ، وأنا أعرف ثلاثة أو أربعة ممن عادوا ولم يكملوا دراساتهم أو ممن غيروا تخصصاتهم أو ممن مكثوا في دراستهم سبع سنوات أو عشر سنوات . دائما هناك اعتبارات تختلف من شخص إلى آخر ، ولا أريد أن أورد أسماء محددة لمن غيروا تخصصاتهم وعادوا معززين مكرمين ، أو ممن أنفقوا سبع أو عشر سنوات وانتهت حكايتهم بهدوء ، وأعرف أيضا شخوصا عادوا ولم يكملوا دراستهم فغرموا أو أعفوا . وليست هذه الحكاية مما يعنيني هنا .
خلال السنوات الأربعة التي قضيتها في ألمانيا كنت أتواصل من خلال الرسائل مع أصدقاء وزملاء لي ، أطلب منهم بعض الكتب أو أطلب منهم أن يتصلوا بأهلي في فترة الانتفاضة لتزويدهم بالمال كل شهر ، فالمرحوم عدنان العبدالله الذي كفلني من أجل العودة إلى الجامعة كان استدان مني مبلغا من المال ولما أراد سداده كلفت الدكتور محمود عطالله الذي احتاج المبلغ بزيارة أبي وإعطائه كل شهر دفعة ، وكانت الانتفاضة في ذروتها .
لم أتصل بإدارة الجامعة ولم تتصل بي تسألني ماذا حدث معي وأين صرت في دراستي ومتى سأعود ، ويبدو أن ما كانت تمر به الضفة من أحداث ملتهبة لم يكن يسمح لإدارتها بالتفكير بأمور المبعوثين ، فجل همها في الانتفاضة التي أغلقت فيها مباني الجامعة من الاحتلال هو تأمين شقق يدرس فيها الطلاب حتى تستمر العملية التعليمية غير المستقرة والبائسة جدا ، كما كان يكتب لي زميل في رسائله ويقترح علي ألا أعود بسرعة .
في أثناء إقامتي في ألمانيا كنت أتذكر في أعياد الميلاد الزملاء وبعض الأصدقاء ، فأرسل لهم بطاقات أعياد ، وكان من هؤلاء الدكتور شوكت زيد الذي صار في حينه رئيسا للجامعة ، وكان يرد على رسائلي ، لا بصفته رئيس جامعة ، بل بصفته مثقفا أنفقنا معا في وكالة الغوث خمس سنوات كنا نلتقي فيها أسبوعيا لمناقشة كتاب بحضور السيد يوسف رضا مدير الوكالة في منطقة نابلس والسيدة لواحظ عبد الهادي مديرة التعليم في الوكالة في منطقة نابلس أيضا . وأعترف بأن الدكتور شوكت زيد كان مثقفا وقارئا جيدا ومنه تعرفت إلى( عاموس عوز ) و ( ابراهام يهوشع ) ، فقد كان يقرأ الأدب العبري باللغة الانجليزية . لقد ابتدأت صداقتي معه قبل أن ألتحق بعملي في الجامعة وتوطدت وكان يكن لي احتراما كبيرا ، وكلما زرت مكاتب الوكالة عرجت عليه لنتحدث في الأدب ، وفي تلك الأيام أبدى إعجابه بقصة ( يهوشع ) الطويلة " إزاء الغابات " التي نقلت لاحقا إلى العربية .
صار الدكتور شوكت زيد رئيسا للجامعة ولم يحل هذا دون أن يكتب لي ، ولما كان ليبراليا ومتفتحا فقد حثني على أن أستفيد من إقامتي في ألمانيا ما استطعت ؛ أن أذهب إلى السينما والمسارح والفيلهارموني واقترح علي أن أقرأ رواية ( باتريك سوسكيند ) الصادرة بالألمانية حديثا والمترجمة إلى لغات حديثة في الوقت نفسه " العطر " ، ولم أكن أعرف في حينه أن المياه تجري من تحت قدمي الاثنتين ، فقد كانت الجامعة تتابع أخباري الشخصية أكثر من متابعتها أخباري العلمية ، وربما وجب أن أعرج قليلا على قصة شخصية حدثت معي شغلت نابلس وألمانيا والأردن ، وما زالت ، حتى صرت قضية عالمية ، وهذا ما سوف أكتب عنه ببعض حذر في الخميس القادم مساء أو في الجمعة القادمة صباحا .

2 / 1 / 2019

***

-15-
- عودة إلى الأعوام 1982- 1987 :

في قراءته لنصي القصصي " ليل الضفة الطويل " 1993 ذهب الدكتور أفنان القاسم إلى أن النص تغلب عليه روح " تصفية الحسابات " بين ضمير المخاطب فيه ، وهو أنا ، وبين الآخرين ، واقترح علي أن أجري بعض تعديلات عليه قبل نشره رسميا .
وقد كتب النص بعد عودتي من ألمانيا بعامين تقريبا كنت خلالهما في اشتباك مع المؤسسة والفصائل والمجتمع ، كما لو أنني ذلك المثقف النقدي الذي تحدث عنه ادوارد سعيد في كتابه " صور المثقف " ، وأنا لا أعد نفسي عموما مثقفا نقديا ، إذ لو كنت كذلك لألم بي ما ألم بناجي العلي ، وقد يكون لهذا كتابة أخرى.
في السنوات الخمسة التي درستها في الجامعة لم أكن الأستاذ الوحيد الإشكالي ، وربما لم أكن أصلا أستاذا إشكاليا بشكل لافت .
في تلك السنوات فصل الدكتور سليمان بشير من الجامعة بسبب كتاب ألفه وذهب فيه - إن لم تخني الذاكرة - إلى أن الأربعين سنة الأولى من الإسلام كانت مختلقة ، وقد عرفت من أحد زملائي في قسم التاريخ ، وكان زميلا للدكتور سليمان ، أن ما أتى به الدكتور بشير ليس اكتشافا ، وهو رأي قاله مستشرقون من قبل .
أعطت الجامعة الدكتور حقوقه ، وذهب هو للعمل في الجامعة العبرية ، ما أفقده تعاطف المتعاطفين معه ، إذ لا يعقل أن يفصل أستاذ جامعي بسبب تأليف كتاب ، فنحن في ثمانينات القرن العشرين ، لا في عشرينات القرن العشرين ، حيث فصل طه حسين من الجامعة المصرية بسبب كتابه " في الشعر الجاهلي " ولم يعد إلى الجامعة إلا بعد أن حذف من كتابه فصلا وأضاف إليه فصلا آخر وغير عنوانه ليصبح " في الأدب الجاهلي " .
مرت حكاية فصل الدكتور سليمان بشير بهدوء ومثلها مرت أيضا حكاية فصل الأستاذ غازي فلاح الذي استخدم في محاضراته مصطلح " يهودا والسامرة " لا الضفة الغربية ، كما لو أنه يتبنى الرواية الإسرائيلية وينحاز إليها .
لم يكن حدثا الفصل الحدثين الكبيرين اللذين شهدتهما الجامعة في حينه وحسب ، فهناك قضية لافتة وكبيرة أثارها الدكتور عبد الستار قاسم تتعلق بسرقات علمية قام بها بعض أعضاء هيئة التدريس ، بخاصة في كلية التربية .
لقد نظر د.عبد الستار قاسم في بعض الكراسات التي قررها بعض الأساتذة على أنها من تأليفهم ورأى أنها مسروقة من أبحاث وكتب أساتذة من الجامعة الأردنية ، ولما استوضحت منه الأمر أتاني بالدليل وعرض على ناظري الكراسات والأصول وكان محقا في ذلك ، ولكن هل اتخذت إدارة الجامعة أي قرار بخصوص المتهمين ؟ هل فصلتهم من وظيفتهم أو عاقبتهم ؟
في سنوات لاحقة أدين بعض زملائي بسرقة علمية واكتفت إدارة الجامعة بمنعهم من تدريس الماجستير وإيقاف ترقياتهم ، ولكن الذين اكتشف د.عبد الستار قاسم سرقاتهم واصلوا التدريس ، ولا أعرف حقا إن اتخذت بحقهم قرارات حازمة .
هل كنت في تلك السنوات متصالحا مع الجامعة تصالحا تاما ؟
حين أنظر في مقالاتي وقصصي القصيرة التي كتبتها ألاحظ أن ثمة بذرة نقدية كانت منزرعة فيها .
وأنا أحرر الصفحة الثقافية في جريدة " الشعب " المقدسية كتبت مرة مقالا عن شاعر متقلب وسخرت في المقال من الشاعر . لم أذكر اسم شاعر بعينه أطلاقا ، ولكن المقال أثار ضجة بين قرائه وفوجئت مساء ، وكنت مصابا بالانفلوانزا ، أن المرحوم الشاعر عبد اللطيف عقل يزورني في البيت ، ويهددني بأنه سيرفع قضية ضدي بحجة أنه المقصود في المقال ، وكان ردي أن ذلك من حقك ، ولكن اسمك غير مذكور في المقال ، وهناك عشرات الشعراء في فلسطين .
وأنا أدرس في الجامعة كنت أشبه بحصان طروادة ، وصرت أكرر المثل الشعبي " اللي بدري بدري واللي ما بدري بقول كف عدس " .
وأنت خارج الجامعة تكون الهالة المحاط بها أساتذتها كبيرة ، وحين تحتك بهم وتلحظ ثقافتهم وتصغي إلى أحاديثهم ربما تكرر " تسمع بالمعيدي خير من أن تراه " ، ذلك أن كثيرين من أعضاء هيئة التدريس حصلوا على شهاداتهم ولم يطوروا أنفسهم .
في تلك الأيام قرأت مجموعة قصصية لقاص وروائي لبناني اسمه حسن داوود ، وعنوان المجموعة هو " تحت شرفة أنجي " وفي المجموعة قصة عنوانها " مقهى النسوة الأكاديميات " وفيها يصور من خلال أسلوب سردي يعتمد على الوصف ، كما لو أنه كاميرا تصور وترصد وتسجل ، يصور حياة شريحة من شرائح المجتمع . هذه القصة أوحت لي بكتابة قصة قصيرة عنوانها " الديكة الأكاديميون " وفيها تصوير لشريحة من مدرسي الجامعات .
إن كثيرا من أعضاء هيئة التدريس حصلوا على شهاداتهم واكتفوا كما لو أنهم ختموا المصحف وفيه العلوم كلها ، وصارت حياتهم قائمة على المجاملات والزيارات والثرثرة ، وهؤلاء كانوا مادة القصة التي فيها حس نقدي لافت .
على أن ما سبق ليس هو كل شيء .
في الجامعة كان هناك بين أعضاء هيئة التدريس جدل حول أيهما أفضل : الكتاب المقرر أم عدمه ؟
إن كثيرين ممن قرروا كتابا ظلوا يدرسونه لسنوات طويلات دون أن يستبدلوه بآخر وناموا . حقا إن هناك مساقات تتطلب ذلك ، ولكن هناك مساقات أخرى يفترض في من يدرسها أن ينوع في الموضوع المختار ، وهذه حكاية قد أعود إليها .
هل كانت حكاية تدريس الكتاب نفسه لسنوات تمر دون غمز ولمز ؟
في مساق اللغة العربية كنا ندرس قصيدة حسان بن ثابت :
" عفت ذات الأصابع فالجواء
إلى عذراء منزلها خلاء "
ومنها البيت :
" عدمنا خيلنا إن لم تروها
تثير النقع منزلها كداء "
وظل الأساتذة يدرسونها ، وأما أنا فقد قررت اعتماد كتاب وداد القاضي " مختارات من النثر العربي " وكان معتمدا في الجامعة الاميركية في بيروت ، واعتمده زميلي الدكتور خليل الشيخ في الجامعة الأردنية ، ورأيت في الكتاب الذي يمنحني حرية تغيير النصوص كتابا جيدا ، بل وممتازا .
كان أحد زملائي يسخر من أعضاء هيئة التدريس في القسم ممن تحنطوا ، فيحور بيت حسان :
" عدمنا خيلنا .."
باستبدال كلمة قسمنا بكلمة خيلنا ، وكان يقول لي :
سأظل أدرس " عدمنا ... الخ " .
كنت أشرت في الحلقة السابقة إلى أنني سأتحدث بحذر عن موضوع شخصي ، وما بدأت به هذه الحلقة اتكاء على رأي الدكتور أفنان القاسم يمس هذا ، ولعلني سأكتب في حلقة الجمعة القادمة شيئا عن هذا ، ولكن ما أريد أن أقوله هنا هو أن كتابتي التي يراها قسم أنها حادة وأنها تصفية حسابات كانت بذرتها مرمية في كتاباتي قبل 1987 وكان هناك أساتذة آخرون سبقوني في الخروج عن المألوف وفي انتقاد المؤسسة .

10 / 1 / 2020

***

-16-
- دقات الباب الثلاثة:

من أمثالنا الشعبية مثل يلوم الذي يتدخل بين البصلة وقشرتها ، إذ ليس ينوبه إلا دمعتها ، ولكن ماذا إذا تمسح العالم وصرت " أنا أبكي بالقلب " على رأي مظفر النواب ؟
بكى مظفر النواب بالقلب ؛ " لأن الثورة يزنى فيها " ، وصارت حكايتي مثل الثورة يلغوص فيها من هب ودب ، دون أن أنشد مساعدة من أحد ، ودون أن أطلب من أي شخص أو أي طرف أن يتدخل فيها .
قبل أن أسافر إلى ألمانيا كنت ألتقي أحيانا قليلة برئيس الجامعة الدكتور منذر صلاح في منزل أقاربه الذين ربطتني بهم علاقة نسب . أسلم عليه ، إن التقيت به ، ولا آتي على سيرة الجامعة ولا أنشد مساعدة في بعثة ، وقد سافرت وهو رئيس جامعة ، إن لم تخني الذاكرة ، أو أنه كان تركها بسبب عدم تجديد سلطات الاحتلال التصريح الذي تصدره له .
في ألمانيا لم تتواصل علاقتي الأسرية ، فقد قررت الانفصال عن المرأة التي ارتبطت بها وارتأيت أن أواصل الدراسة وحيدا ، وهذا ما كان ، وقلت " وتسريح بإحسان " وصمت - أحيانا أبدو المسلم الوحيد في هذا العالم ، وأحيانا يبدو لي أن العالم الإسلامي بلا مسلمين - .
ويبدو أنني وأنا في ألمانيا نسيت أنني من نابلس التي لم تنس ولا تنسى أن ابن المدينة ، حتى لو كان في ألمانيا ، يظل ابن المدينة فهو منها وفيها حتى لو كان في آخر الدنيا ، وهو ما ذكرتني به زوجة الدكتور نبيل بشناق الألمانية ، حين التقينا في بون في غرفة ابنتها ، وهو ما قالته لي أيضا الأستاذة المشرفة حرفيا :
- كيف ستعود إلى نابلس ويقال عنك هذا الذي يقال؟
بعد أن غادرت العائلة حضرت نابلس كلها إلى المدينة التي أدرس فيها ، لتعرف سبب الانفصال ، ولتعرف ماذا أفعل هناك في ليالي الشتاء الحزينة قاسية البرودة ؟
أخبرتني أمي عن إعلان في الجريدة وأرسلته إلي يزعم أصحاب الدعوة فيه أنني مجهول مكان الإقامة ، وفيما كان موزع البريد يضع الرسائل في صناديق البريد ، وأنا أتابعه ، لفت نظري مغلف رسالة مكتوب بخط عربي رديء مرسل إلى جاري العربي .
لم يدخل ساعي البريد الرسالة جيدا في صندوق بريد الجار ، فتناولت الرسالة وعرفت الحكاية ، وعرفت أن أخباري كلها تصل إلى فلسطين والأردن وأن وكالة أنباء رويتر تبثها أولا بأول ، وأن العرب اكتشفوا الماسنجر والفيس بوك قبل اختراع الغرب له ، وأن الغرب أفاد من حياة العرب في الاختراع .
حكايتي في ألمانيا عموما أفرغتها في رواية " تداعيات ضمير المخاطب " في العام 1992 ولقد مللت من تكرار الخوض فيها ، فلقد صارت مملة جدا لي ، ولكن الآخرين لا يملون من متابعتها ، فهي تبدو لهم مثل مسلسل تركي أو مثل مسلسل باب الحارة . إنهم يتابعونها بشغف ، وما يحدث في شرق المدينة يعرفه ، في اللحظة نفسها ، سكان غرب نابلس ، وهو ما قلته مرة للمرحوم الدكتور محمود عطالله الذي وافقني الرأي وقال لي :
نعم . هذا صحيح ، فحكايتك تجري على لسان أهل المدينة كلهم .
وأنا صرت أكرر ما كتبه محمود درويش في إحدى رسائله إلى سميح القاسم :
- إن التقيت بالسيدة كاوفمان ، فقل لها اللعنة على سارة وهاجر .
والسيدة كاوفمان شاعرة يهودية من القدس التقى بها الشاعر في هيلسينكي وقرأا معا قصائد عن القدس .
وصار في الأمر تورية ، ولطالما كرر الناس وهم يلحظون صمتي ، إزاء ما جرى معي ، كلمة " أهلين " ويقصدون أن الحرب هي بين عائلتين ؛ بين أهل سارة و أهل هاجر .
في بامبرغ اختلطت الأمور كلها ؛ الشخصي والعلمي وسارة وهاجر وأبناء الضفة وأبناء مناطق 1948 وخلافات الأساتذة والطلاب ، ودخول مانويل ابن كفار سابا على الخط ، وأهل سارة وأهل هاجر ، وأنا كنت أواصل حياتي في ظل هذه الفوضى .
هل كنت أنا من يكتب رسالة الدكتوراه ؟
ماذا كنت أفعل في الليالي؟
هل كنت أقرأ أم كنت أسهر في البارات مع الصديقات الألمانيات ؟
كان جاري العربي يتردد علي وكانت أيضا زوجته تتردد علي ولم ألتفت إلى الخلافات الطارئة بينهما بسبب السيدة الفرنسية ( دومنيك ) .
غالبا ما كنت أقفل باب شقتي على نفسي لأقرأ ، وقلت لجاري إن أتيت فاكبس الجرس ثلاث كبسات لأعرف أن القادم هو أنت .
في بداية تشرين الأول من العام 1990 ابتعثت جامعة النجاح الوطنية كلا من الطالبين حاتم الكخن وسائد الكوني إلى ألمانيا ليواصلا الدراسة ، وقد أخبرني سائد أنه وحاتم يدرسان اللغة في مدينة ( مانهايم ) ، ولما كنت وحيدا ، وكانت أستاذتي المشرفة حصلت على إجازة علمية لمدة فصل قررت أن تقضيه في القاهرة ، عقدت النية أن أسافر إلى ( بون ) وأنفق الفصل الدراسي هناك ، فأحضر محاضرات البروفيسور ( ستيفان فيلد ) والبروفيسورة ( آنيماري شيمل ) ، وفي طريقي إلى بون عرجت على ( مانهايم ) وقضيت ليالي قليلة عند سائد وحاتم ، وغادرت على أن يزوراني لاحقا في بامبرغ . وهو ما كان ، فقد زارني سائد في فترة أعياد الميلاد ، وحين انتهيا من دورة اللغة وانتقلا إلى المدينة التي سيدرسان فيها ، في آذار من العام 1991 ، مرا علي في ( بامبرغ ) ليقضيا بضعة أيام في ضيافتي . وقد أعلماني أنهما سيصلان إلى المدينة عصرا ، ومر الوقت ولم يأتيا ، وعندما اقترب الوقت من العاشرة ليلا أغلقت على نفسي شقتي .
في الواحدة فجرا كان ثمة رنين جرس كنت أصغي إليه ولا أفتح ، وهذا سلوك مارسته أحيانا مع طالبة ألمانية .
فجأة أخذ الزائران يدقان الباب الدقات الثلاث ، فظننت أن القادم هو جاري العربي وفتحت الباب .
في إحدى قصائد مظفر النواب يهجو الشاعر أنظمة القمع العربية ويذهب إلى أن هناك تنسيقا سريا بين أجهزة الأمن وكلاب الشرطة الأجنبية .
دقات الباب الثلاثة قالت لي إن هناك تنسيقا ما بين جهات عديدة ، وعرفت أن ما يجري في شرق نابلس لا يعرف فيه أهل غرب نابلس فقط ، وإنما تعرف فيه الممثلية الفلسطينية في ( بون ) ووزارة الخارجية في ألمانيا .
مرة سرت مع السيد عدنان عبدالله مدير مخيم بلاطة وسألني عن صحتي ، فأخبرته أنني مصاب بداء السكر ، فقال لي :
- مصاب بداء السكر فقط ! احمد ربك أنك مصاب به فقط . شخص آخر غيرك كان الآن في عالم آخر .
بعد سنوات أخبرني أحد طلابي أن مشكلتي تكمن في المقاطعة .
قلت في حلقة سابقة إنني في موضوع شخصي سأكتب بقليل من حذر .
لو لم تتدخل الجامعة والفصائل في حياتي الشخصية ، ولو فصلتني الجامعة في حينه لربما كان في الأمر خير لي وللجامعة ، ولقصة الفصل حكاية أخرى عرفتها في العام 1991 من الصديق سامي الكيلاني ، ولعلني ابدأ الحلقة 17 بها .
" إن التقيت بالسيدة كاوفمان ، فقل لها اللعنة على سارة وهاجر " . هل في العبارة تورية؟

***

-17-
- التلميح والتصريح والتورية :

ربما تصلح نصوصي التي أكتبها نماذج أدبية لدارسي فن " التورية " في الأدب العربي الحديث ، أو للمهتمين بلغة الجسد في النصوص الأدبية ، فهي ثرية في هذا الجانب ، ولا يعود ثراؤها لأنني موهوب أو ذو خيال جامح أو لأنني ضليع في البلاغة والسيمياء . لست مثل محمود درويش الذي قال في كتابه " في حضرة الغياب " إنه كان منذ طفولته ذا خيال جموح يستخدم المفردات استخداما مجازيا ولهذا سموه بالحالم . ( بعد سنوات من عودتي وكتابة نصوصي كان بعض قرائها يلحظون هذا ، ولذلك كان طلاب الدراسات العليا ، بإقبال ذاتي أو مدفوعين من بعض الأساتذة ، يأتون إلي ليسألوا عن نصوص تحفل بلغة الجسد ، وكان بعض الطلاب يحضر كتابا عن لغة الجسد ويضعه على المقعد المجاور له ، وصارت عادة عند بعض الطلاب ، فإذا ما أرادوا ، هم أو الجهات التي تدفعهم ، شيئا ، لجأوا إلى التلميح من خلال حركة ما ) .
أنا قاريء للأدب بالدرجة الأولى ودارس له في الوقت نفسه ، وكان جنوحي للتورية يعود إلى تعامل الآخرين معي بها . هذا يعني أنني صدى لا صوت ، وأن الآخرين هم أصوات وصوتيات وشرم برم كما يحلو لهم أحيانا أن يسخروا مني فيقولوا لي إن الآخرين هم الصوت وإنني الصدى ، متذاكين أو متفاصحين .
ما يعوض الأمر هو أنني صدى ولكني جريء ، في حين أن الأصوات والصوتيات جبناء و أنذال وأذناب غالبا ، وهذا ما سيتضح وتثبته الأيام والكتابة .
كتبت أن الكاتب سامي الكيلاني قال لي إن الجامعة تريد فصلي ولكنها تتعاطف مع أوضاعي ، والصحيح أنه كان جريئا .
في أحد أيام آب أو أيلول من العام 1991 كنا معا في اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الرام ، وحين عدنا إلى نابلس أقلني معه في سيارته وتجاذبنا أطراف الحديث ، ولست متأكدا من السبب الذى دفعه لقول ما قال .
كنت أعرف سامي منذ 1977 تقريبا ، وربما قبل هذا التاريخ ، فقد درسنا معا في الجامعة الأردنية وكان يتردد على قسم اللغة العربية ، ولا أذكر إن تحادثنا في حينه ، ولكن علاقتنا ستقوى حين اقتربت من فصيل الجبهة الديمقراطية وهو الفصيل الذي انتمى إليه وسجن لعضويته فيه بضع سنوات ، وعندما خرج تعارفنا وفي فترة لاحقة أصدرنا معا مجموعة قصصية مشتركة هي " الفارعة والشمس والبحر " ، وصرنا نحرر معا مجلة ثقافية تصدرها الجبهة الديمقراطية ، وقد أتيت على هذا .
حين عدت من ألمانيا كانت الجبهة الديمقراطية انشقت وصارت فصيلين ؛ فدا وأمينها العام ياسر عبد ربه ، والديموقراطية وأمينها العام نايف حواتمة ، فعلى من سأحسب أنا ، على جماعة عبد ربه أم على جماعة حواتمه ؟ وهل أنا مع مدريد أم ضدها ؟ إن تقربي من أي جهة من الجهتين يعني أن أقبل الصورة التي رسمتها لي في غيابي عني ، فكل فصيل - ما شاء الله ! ما شاء الله ! كان رسم لي صورة وكون عني فكرة ، وهذه إشكالية .
لقد كنت منفلشا فصيليا و كنت ثقافيا قريبا من أكثر من جهة . كنت في الثقافة قريبا من حركة فتح ، إذ كنت ، كما ذكرت أحرر صفحة الشعب الثقافي . وعموما فإن تجربتي الشخصية مع الفصائل يسارها ويمينها فيما يخص الجانب الاجتماعي قالت لي إننا لم نخرج من طفولتنا ، ولطالما كتبت إن عقلية الحارة في المدينة وعقلية القرية وتربية المخيم هي العقلية التي تحكم الشعب الفلسطيني ، وفي العام الماضي ، حين انتصرت العشيرة على مشروع الضمان الاجتماعي ، تعززت قناعاتي ، وتعززت أكثر وأنا أتابع الموقف من ( سيداو ) . هل أنا يائس ؟
عندما عدت من ألمانيا صار الآخرون يتعاملون معي بالتلميح لا بالتصريح ، فالتصريح قد يسبب مشاكل كثيرة لمن يريد أن يكون صريحا ، وظل الأمر في الجامعة حتى انتهاء خدمتي ، ولما ينتهي عموما حتى اليوم .
في ( بون ) قال لي الأستاذ ( استيفان فيلد ) إن ما أعيشه في ألمانيا سأعرفه في نابلس ، وفي نابلس لمحوا ولم يصرحوا ، ويبدو أن الجامعة كان لها يد طولى ، بالإضافة إلى الفصائل ، ولم ألتفت إليهم ما دفع أبي يوما ليقول لي مثلا شعبيا بذيئا جدا عن الأطرش ، أورده بأدب جم " افعل في الأطرش ولا تحاكيه " ، فقد كنت أطرش أو أتتطارش وما زلت .
قضيت أول ليلة بعد عودتي في شقتي في بناية أهلي ، ولاحظت أجواء الانتفاضة والمارشات العسكرية للملثمين ، واستقبلت الجيران الذين أتوا ليسلموا علي .
في صبيحة اليوم الثاني في العاشرة جاءني الزميل عادل أبو عمشة ليسلم علي ولأتغدى بصحبته في بيته ، وبدأ التعامل السيميائي - التلميح لا التصريح .
ولسوف يأتي ، فيما بعد ، زملاء كثر ليتدخلوا في مشكلتي الشخصية ، عارضين أن يكونوا مصلحين بين زيد وزينب ، ووصل الأمر أن مثل القادمون طرفين ؛ طرفا يمثلني وطرفا يمثل طليقتي .
هل كان زيد طلب منهم هذا ؟ ( بعد عقود ستكتب رنا قباني طليقة محمود درويش عن علاقتها به وعن طلاقهما عنوانا لافتا " طليقة المنظمة " وستوقف جريدة القدس اللندنية مقالاتها المهمة جدا ، وستوقف في الوقت ذاته جريدة الأيام الفلسطينية نشر مقالي الثاني عن مقالات رنا ، وكان يمكن أن أكتب ، بناء على مقالات رنا ، كتابا أو دراسة من أجمل ما يمكن أن يكون في أدبنا العربي ) .
كان التلميح أوضح ما يكون فحين ذهبت إلى الجامعة والتقيت ، في عمارة يعيش ، برئيسها الدكتور شوكت زيد الكيلاني . لم يصرح بأي شيء ولمح بأشياء كثيرة ، وقال لي إن تسلل الإسرائيليين إلى بيوتنا هو المشكلة الكبرى التي يجب أن نحصن أنفسنا ضده .
في ألمانيا أنفقت في ( كارلسروه ) عشرة أيام في ضيافة الصديق الجزائري عبدالله بودينة ، وشهدت مسرحيات عديدة كان منها أن أوحى الألمان لي بألا أكون مثل حلاق الإسكندر حتى أعود بشهادتي ، وقبل أن أعود لا بأس من زيارة أبي وأمي لي في ألمانيا ، وكان العلم الأحمر يرفرف موحين لي بأنني أحمر .
إن كل من عاش الانتفاضة ووعاها جيدا يعرف ما آلت إليه ، وأنا عدت في نهاية الانتفاضة ، وكانت الفصائل تحولت إلى فصائل إصلاح اجتماعي وغدا بعض أفرادها حريصا على أخلاق الآخرين ، يقومون بدور المحاكم ، فيتدخلون في المشاكل الأسرية و يفتشون عن علب البيرة و .. و ... و ... وكان لي جار لم يوفق في زواجه وعانى الأمرين من تدخلات الآخرين ، ولما لم يكن له فصيل يسنده ، فقد خضع لشروط لم يكن راضيا عنها ، وكان حين يزورني يحدثني بألم وحزن ورعب أيضا .
هل صرت ألمح آخذا بما يقوله العرب " اللبيب بالإشارة يفهم ".
لست لبيبا وعقلي يابس . ربما !!

في الحلقة القادمة قد أكتب عن الألمان والشهادة والمعادلة والمرحوم بهجت صبري.

عادل الأسطة
الخميس
23 / 1 /2020


***

-18-
- شيطاني الأنثى : ازدواجية المعايير

بعد عودتي من ألمانيا أخذت أكتب في الصحافة الوطنية مقالات أدبية وأخرى اجتماعية لا تخلو من إشارات سياسية أحيانا . عدت أحرر الصفحة الثقافية في جريدة " الشعب " المقدسية ، فأتسلل في صيف 1992 إلى القدس مغامرا . لقد صارت المدينة حراما على بلابلها حلالا للطير من كل جنس ، ولما لم أتفق مع السيد علي يعيش ، فلم أستمر في تحرير صفحة الثقافة أكثر من شهرين .
في تلك الأثناء أصدر السيد زهير الدبعي جريدة " نابلس " ، وهي صحيفة أسبوعية أراد لها أن تكون صحيفة مدينة على غرار صحف المدن ولم ينجح ، واستكتبني فكتبت مقالا أسبوعيا ، وأرجح أنني في حينه كتبت مقالا عنوانه " شيطاني الأنثى " . وللمقال قصة .
لم تعاملني إدارة الجامعة بعد عودتي على أساس درجتي العلمية الجديدة بحجة أنني لم أحضر معي الكرتونة التي لا تمنحها الجامعة التي درست فيها إلا بعد سحب 80 نسخة من أطروحة الدكتوراه وتسليمها إلى الجامعة أو بعد طباعة الرسالة في كتاب . ولما راقت الأطروحة للممتحن الثاني ، فقد رأى أن تصدر في كتاب عن دار نشر معتمدة في برلين ومتخصصة فى إصدار كتب العلوم الإسلامية ، وهي دار ( كلاوس شفارز / Klaus Schwarz ) ، ولأن الدار تطبع كتبا ذات مواصفات ممتازة ويستغرق الأمر فترة طويلة ، فلم أحصل على الكرتونة إلا بعد عامين ، ما جعل إدارة الجامعة تعاملني ، مدة عامين ، على أساس درجة الماجستير .
لم أكن الوحيد الذي لم يحضر معه الكرتونة فورا ، فهناك آخرون حدث معهم ما حدث معي ولكنهم عوملوا على أساس رتبة محاضر - أي كما لو أنهم حملة شهادتي ماجستير اثنتين ، وبدا الأمر كما لو أنه كيدي والأصح أنه يدخل في باب ازدواجية المعايير .
كان كثيرون يلمحون لي أن الألمان لن يرسلوا لي الشهادة ، علما بأنني أحضرت معي شهادة مصدقة من الجامعة تثبت أنني حصلت على الدكتوراه ونجحت في الامتحان الشفوي في التخصص الرئيس والتخصصين الفرعيين . وكان الذين يلمحون يوحون لي بأنني لم أحصل على الشهادة لأن هناك من كتب لي الأطروحة ، ولطالما اختبرني كثيرون ليتأكدوا من أنني أنا كاتب الرسالة ، ولا أبالغ إذا كتبت أنني يجب أن أدخل موسوعة ( جينيس ) في هذا الجانب - أي أكثر شخص في العالم تكونت لجنة منحه الدكتوراه من عشرات آلاف الممتحنين المتنوعين ؛ من الأساتذة الجامعيين وانتهاء بربات البيوت وباعة الخضار . وكما ذكرت فإن خالتي ربطت بين شهادتي ولون بدلتي السوداء . إن شهادتي سوداء ، ولاحقا خربشت عن تأكد أستاذ جامعي من وجود ختم شهادتي فيها بنظره إلى حذائي الإيطالي الفاخر ، ليرى إن كان الحذاء مختوما ، وكان كذلك . لقد تأكدوا من أن الشهادة مختومة بتأكدهم من ختم الحذاء بختم منتجه .
كان السؤال ، ومازال ، هو :
- من يكتب لي أبحاثي ومقالاتي ؟ ومن يصحح لي ما أكتب ؟
والحكاية بدأت في ألمانيا .
لقد اختلفت مع الأستاذة ( انجليكا نويفرت ) والطلاب العرب وآخرين ، وبدأت حرب لما تنته حتى اللحظة ، ودخل على الخط أهل سارة وأهل هاجر والفصائل الوطنية وبعض الدول المجاورة ، وصار الآخرون شغوفين بمعرفة الشخص الذي يكتب لي ( إنما يعلمني بشر ) .
الحكاية ، كما ذكرت ، بدأت في ألمانيا ، ومرة سألتني البروفيسورة ( فيبكة فالتر ) عن علاقتي بزميلة لها ، ظانة أن بيننا ما بيننا ، ذاهبة إلى أنني أقدم لزميلتها خدمات ( ؟ ) ، وزميلتها ، بدورها ، تكتب لي . ومن وحي قصتي مع البروفيسورة ( فيبكة ) كتبت قصة قصيرة عنوانها " لماذا كنت يوسف ؟ من قال إني كنت يوسف ؟! " .
أراد الألمان أن يتأكدوا من أنني أنا من يكتب ، فاتصلت بي طالبة ألمانية تعد الدكتوراه وأخبرتني أنها ستزور ( بامبرغ ) لتلتقي بأستاذتي التي ستكون مشرفا ثانيا تقريبا لها ، وأنها ترغب في أن تسمع مني رأيي في البروفيسورة ( فيلاندت ) مشرفتي .
زارتني السيدة ( بيرجيت سي كامب ) ، وكانت متزوجة من الكاتب الفلسطيني محمود شاهين وذكرها في بعض رواياته ، وباتت عندي في الشقة وأنفقت يومين تحدثنا فيهما عن رسالتي ورسالتها ولم تترك صغيرة أو كبيرة في رسالتي التي اطلعت عليها إلا سألتني فيها ، وتأكدت أن الذي كتب لي رسالتي هو أنا .
هل انتهى الأمر واقتنع الألمان ؟
إن انتهى الأمر نسبيا في ألمانيا فإنه بدأ حقيقة هنا ، وكما ذكرت فإنه لما ينته ، على الرغم من مرور 29 عاما ، وعلى الرغم من أنني أنهيت عملي في الجامعة .
حقا من الذي يكتب لي هذا الذي كتبته وأكتبه ؟ وهل تخصصت في ألمانيا في دراسة الأدب أم أنني تخصصت في طب ( ؟ ) النساء ؟
في مقالتي " شيطاني الأنثى " سخرت إذ كل شيء يدعو إلى السخرية ، فلقد احتار الآخرون في أمري في أشياء عديدة دفعتني أحيانا إلى التصرف البذيء . لقد كنت مثل قط يحشر في الزاوية يوميا ، بل ساعة ساعة ، في أثناء خروجي من البيت ، بل وفي أثناء وجودي فيه . وحين قرأت قصة الدكتور المصري لويس عوض كتبت عنها .
كان للدكتور لويس عوض زوجة أجنبية تحب القطط ، وكان له شقة ثانية يقيم فيها نهارا يقرأ ويكتب ، ما جعل معارفه يشكون في أمره ويتساءلون :
- ماذا يفعل لويس عوض في شقته الثانية ؟
لقد كتبت إن شيطاني الذي يكتب لي هو أنثى ، موظفا بيت الشعر العربي القديم :
" إني وكل شاعر من البشر = شيطانه أنثى وشيطاني ذكر " .
ولقد بحث الآخرون عن شيطاني الأنثى ، ومازال البحث قائما ، ثم قلت إن قلمي الباركر السائل مسكون بجن ، فسرقه مني بعض من التقيت بهم ، ظانين أنني بعد ذلك لن أكتب .
رحم الله رئيس الجامعة الأسبق الدكتور بهجت صبري الذي تعامل معي ومع غيري بمعايير مزدوجة ، فرفض أن يعاملني على أساس درجة محاضر كما عامل صديقي الأستاذ غسان السفاريني الذي تأخر أيضا حصوله على الكرتونة . ومرة رفعت صوتي محتجا على ازدواجية المعايير ، فذهبت بالدكتور بهجت الظنون مذاهب شتى ، ويومها فوجئت بوفد من نقابة العاملين يزورني في بيتي آملين أن أتريث وستحل المشكلة .
هل كنت حقا من جماعة صبري البنا أبو نضال أم أن أوضاع الضفة الغربية في نهاية الانتفاضة كانت مرعبة حقا؟.
لعل الحكاية هذه تحتاج إلى توضيح .


د. عادل الأسطة
31 / 1 / 2020 .

***

-19-
- فوضى الانتفاضة وانعكاساتها السلبية على التعليم

عندما عدت من ألمانيا في تموز 1991 كانت الانتفاضة التي لفتت أنظار العالم إلى القضية الفلسطينية تكاد تقترب من نهايتها ، وأخذت سلبياتها تظهر ظهورا لافتا ، ما انعكس سلبا على التعليم المدرسي والجامعي معا .
وحين أنظر في الرسائل التي كان بعض زملائي يرسلها لي أرى أن التعليم ، حتى قبل عودتي ، أخذ يسوء ، فمباني الجامعة مغلقة والقاعات البديلة لم تكن قاعات تعليم ، وأحيانا كان بعض الأساتذة يحاضرون في مداخل البنايات المستأجرة من الجامعة . ولم يكن التعليم في المدارس أحسن حالا ، ففي امتحانات الثانوية العامة ( التوجيهي ) كان ثمة فوضى خبرتها شخصيا ، إذ كانت بعض أوراق الأسئلة تسرب من قاعات الامتحانات بطريقة ما ، وكان هناك معارف لبعض الطلاب ينقلون الأسئلة إلى معلمين لا يراقبون فيجيب هؤلاء عن أسئلة الامتحانات لتسرب إجاباتها إلى داخل القاعات . ومرة عرض علي أحد معارفي أن يرسل لي صديقه ومعه الأسئلة لأكتب إجاباتها .
ولحسن الحظ أن العام الدراسي 1991 - 1992 انتظم في مباني الجامعة ، وفيه ، مع ذلك ، طغت على التعليم بعض أجواء الانتفاضة ، فصار قسم من الأساتذة والطلاب يحسب حسابا ما لما يجري في خارج الجامعة ، ولم يكن المعيار في تحقيق كينونة المحاضر أو الطالب معيارا أكاديميا صرفا . ولا زلت أذكر عبارات قريب لي - رحمه الله - انتمى إلى حركة فتح ليحمي نفسه من الآخرين ، حال تعرض المقنعون أو بعضهم له .
- في ظل هذه الفوضى يجب أن يكون هناك جدار تستند إليه ، حتى لو لم تكن مقتنعا.
لقد ظهرت الفتوة وأخذ بعض حملة السلاح يفرض أتاوات على بعض التجار ليحموه ، وساد الخوف وبعض الجبن أيضا ، وأعتقد أن إدارة الجامعة في حينه لم تكن بمنأى عن هذه الأجواء ، ما أثر على بعض قراراتها ، وكنت آسف كثيرا عندما كان قسم من معارفي يلمح لي أن أحل مشكلتي مع الإدارة بالتهديد والوعيد والتلويح بالقوة ، وقد آثرت شخصيا المنطق والقانون ، وهو ما نصحني به الصديق مصدق المصري الذي طلب مني أن أعتمد على مخاطبة الإدارة ومجلس الأمناء بالاعتماد على كتابة رسائل لهم فقط ، وهو ما اخترته غالبا في الأصل ، علما بأن صديقا آخر أعلمني ، فيما بعد ، أن للحطة الحمراء التي كنت أتقي ، بوضعها على رقبتي ، البرد دورا كبيرا في عدم تشجع الإدارة على معاقبتي . ما قاله لي هذا الصديق جعلني أبتسم للأمر الذي لم يخطر ببالي إطلاقا . ( هل شكرت الجبهة الشعبية للون الحطة فقط؟ ) .
عندما عاد الدكتور منذر صلاح إلى رئاسة الجامعة في تلك الأيام لم تكن السلطة الفلسطينية تأسست ، ولم تكن الأوضاع استقرت . والدكتور منذر رأس الجامعة في العام 1982 وكانت شخصيته ذات رهبة ، ومع ذلك ، فإنه في ظل فوضى الانتفاضة كان أحيانا لا يجرؤ على اتخاذ قرارات أكاديمية حاسمة .
ذات يوم تقدمت معلمة لغة عربية بشكوى ضد قسم اللغة العربية ، فقد ذهبت إلى الدكتور منذر ومعها أسئلة امتحان نهائي لمادة اللغة العربية ، وخاطبت رئيس الجامعة محتجة على ما في ورقة الأسئلة من أخطاء ومما قالته إنها علمت ابنتها في المدرسة اللغة العربية وأن الجامعة بدلا من الارتقاء بلغة ابنتها تهدمها وتعلمها عربية خاطئة .
أحال الدكتور منذر ورقة الأسئلة إلى رئيس قسم اللغة العربية المرحوم محمد نوفل ليبدي رأيه فيها ، فأحالها بدوره إلي وطلب مني أن أكتب رأيي فيها .
قرأت ورقة الأسئلة وفجعت بما فيها من أخطاء ، وشككت أن تكون الأسئلة من وضع أستاذ في القسم ، ولذلك طلبت من الأستاذ المعني نموذجا من أسئلته ، فأحضره ، ولما لاحظت أنه هو صاحب الأسئلة كتبت تقريرا ليس لصالحه على الإطلاق ، ورأيت أن المعلمة والدة الطالبة معها حق فيما ذهبت إليه.
عندنا قرأ رئيس الجامعة التقرير الذي كتبت فيه إن واضع الأسئلة لا يستحق أن يكون عضو هيئة تدريس في قسم اللغة العربية ، عقد د.منذر اجتماعا مع أعضاء مجلس القسم ليتخذوا القرار نيابة عنه . والحقيقة أنني لم أره قلقا مرتبكا كما رأيته في ذلك الاجتماع . طلب من أعضاء القسم إبداء رأيهم وبدا قسم منهم مترددا مركزا على الجانب الإنساني لزميلهم ، ولم يراعوا الجانب المهني ، و أرجح أنهم أيضا في موقفهم كانوا يراعون أوضاع الضفة غير المستقرة ويحسبون للجهة التي قد تقف خلف عضو هيئة التدريس ألف حساب . وقد أكون الوحيد الذي جرؤ على كتابة التقرير وركز على ضرورة مراعاة الجانب المهني أكثر من مراعاة الجانب الانساني .
يومها لم يتخذ الدكتور منذر القرار ، فلقد أراد أن يتخذه القسم ، وحين اتخذ القسم القرار خاطبنا رئيس الجامعة قائلا :
- مش تقولوا بعد الاجتماع وخروجكم إن الدكتور منذر هو من اتخذ القرار .
وبعد أن أقيمت السلطة الفلسطينية استقرت الأوضاع نسبيا وصار التعليم أفضل حالا ، بما لا يقارن بما كان عليه في سنوات الانتفاضة ، وصار رئيس الجامعة أكثر جرأة في اتخاذ قراراته وأكثر هيبة أيضا .
علام كنت أعتمد في تلك الأيام ؟ ربما أفادتني الحطة الحمراء من حيث لا أدري ، وربما أفادتني الجبهة الشعبية أيضا من حيث لا أدري ، وكانت الجبهة أبدت ، من خلال بعض الرفاق فيها ، موافقتها على نشر نص " ليل الضفة الطويل " إذا حذفت منه عبارة أسخر فيها من شعار رفعه أعضاؤها في الانتفاضة وهو " إذا كان دمي أحمر فكيف لا أكون جبهة شعبية " والعبارة التي كتبتها معقبا فيها على هذا الشعار هي : " إن دم أفراد الموساد أحمر فهل الموساد جبهة شعبية؟"
ربما ما يستحق أن يكتب هو تدريس مساق اللغة العربية في جامعة النجاح الوطنية ، وقد كان تدريسه سبب خلافا كبيرا بيني وبين بعض زملائي ، وما زلت أرى تدريسه بالطريقة التي يدرس فيها عبثا ، بل وإساءة للغة العربية وللجامعة أيضا .

الخميس - 6 شباط 2020 .
د. عادل الأسطة

***

(20)
- إشكالية مساق اللغة العربية

عندما عينت في الجامعة كنت ، مثل أكثر زملائي ، أكمل نصابي التعليمي بتدريس مساق اللغة العربية.
كانت هناك خطة موضوعة مسبقا لتدريس المساق تعتمد نصوصا من الأدب العربي ؛ قديمه وحديثه ، وكان الذين يدرسون المساق يلتزمون بالنصوص المتفق عليها دون أن يكون هناك امتحان موحد في الامتحانات الشهرية.
ونادرا ما كان معلمو المساق يغيرون في النصوص ويستبدلونها بأخرى ، ما دفع بأحد زملائي إلى التندر في هذا ، لدرجة أنه مرة كتب إلي ، وأنا في ألمانيا ، أنه سيظل يدرس قصيدة حسان بن ثابت:
" عفت ذات الأصابع فالجواء إلى عذراء منزلها خلاء "
سيظل يدرسها إلى يوم يبعثون ، وكان عندما يأتي على قول حسان :
" عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع منزلها كداء "
يستبدل قسمنا بخيلنا ، مازحا ساخرا وناقدا الثبات .
وللحقيقة أقول إن القسم لم يتشدد في إلزام المدرسين بالنصوص ، لا في هذا المساق ولا في غيره من المساقات ، وأشهد أن الجامعة لم تتدخل في تدريسي وما أختاره على الإطلاق ، وهذا جانب يسجل إيجابا للجامعة . لقد وثقت بي في هذا الشأن ومنحتني حرية كاملة وأكثر ، فكنت أدرس نصوصا وأدباء لا يمكن تدريسهم في بعض الجامعات العربية .
ليس ثمة مأخذ لي على إدارة الجامعة فيما يخص حريتي في تدريس النصوص ، وليس لي خلاف معها في هذا ، وإنما الخلاف كان معها في شأن آخر هو عدم احترامها لمساق اللغة العربية قياسا إلى احترامها وتقديرها لمساقات اللغة الانجليزية .
في بداية تأسيس الجامعة لم يكن عدد الطلبة بالآلاف ، وكان تدريس اللغة العربية يتم في شعب لا يزيد عدد الشعبة منها على خمسين طالبا ، فلما أصبح عدد الطلاب بالآلاف غدا تدريس اللغة العربية في مدرجات يبلغ عدد الطلاب في المدرج الواحد قريبا من 179 طالبا ، وهنا تكمن الكارثة ، فكيف تدرس اللغة في مدرج؟
إن تدريس اللغة - أية لغة - يتطلب تعليم الطالب القراءة والكتابة والتحدث والقواعد ، وهذا يبدو أمرا مستحيلا إذا ما بلغ عدد الشعبة الواحدة أكثر من 39 طالبا.
أول خطوة بادرت إليها فيما يخص مساق اللغة العربية هي عدم تكرار تدريس النصوص . لقد أحضرت معي من عمان نسخة من كتاب وداد القاضي " مختارات من النثر العربي " ، وكان يدرس في الجامعة الأميركية في بيروت ومن ثم في الجامعة الأردنية ، واخترت منه نصوصا من عصور مختلفة وصرت أدرسها واستبدلها كل فترة بنصوص أخرى ، وهكذا درست الجاحظ والمعري والتوحيدي والمقامات وابن بطوطة وابن حزم الأندلسي وأسامة بن منقذ ونجيب محفوظ وزكريا تامر وتوفيق الحكيم وغسان كنفاني وآخرين كثر ، فيم ظل زملائي يدرسون الشعر القديم الذي لم يرق لكثير من الطلاب .
ليس اختيار النصوص هو الإشكالية الوحيدة مع الزملاء والجامعة فيما يخص تدريس المساق ، فعندما صرت رئيسا لقسم اللغة العربية أصررت على رفض تدريس اللغة في مدرجات ، وإذ أصرت الجامعة فقد وافقت على مضض على ألا يزيد عدد الطلاب في المدرج على 90 طالبا - أي النصف ، واقترحت على الإدارة أن تستعين بحملة الماجستير لتدريس هذا المساق ، لكي يتفرغ حملة الدكتوراه إلى تدريس مساقات التخصص والدراسات العليا ، وهكذا استعنت بحملة الماجستير من معلمي المدارس ، فتنفسوا الصعداء وشعروا أن شهاداتهم التي حصلوا عليها عادت بالنفع عليهم ، ولكن كما يقول المثل الشعبي " اجت الحزينة تفرح ما لقيت مطرح " ، فما إن استقلت من رئاسة القسم حتى عاد كل شيء إلى سابق عهده .
تدريس اللغة في المدرجات أساء لها كثيرا ، فقد غدا كثير من المدرسين يفكر في صعوبة تصحيح أوراق الامتحانات حين يكون عدد طلاب المدرج الواحد 179 طالبا ، فكيف إذا كان المدرس يعلم شعبتين أو ثلاث شعب؟
ما سبق يعني أنه سيصحح ثلاثة امتحانات كل شهر - أي 540 ورقة ، فمن أين له الوقت الكافي ليقرأ ويكتب؟
كان مدرسو المساق على دراية بهذا ، ومع ذلك فقد وافقوا على ما تطلبه الإدارة منهم دون أي اعتراض ، وللتعلب على مشكلة التصحيح فقد صارت الأسئلة تركز على مهارات غاية في الدقة وتتطلب إجاباتها إلمام الطالب بالنحو العربي إلمام متخصص به درس النحو كله كما لو أنه متخصص في الأدب العربي.
الطريف في الأمر أنه ما من مرة خلت أوراق الأسئلة من أخطاء عديدة ، ما دفعني مرة إلى الطلب من مدرسي المساق ، وكانوا أكثر من ثمانية ، أن يجتمعوا معا وأن ينظروا في الأسئلة قبل طباعتها وأن يوقعوا أسماءهم ليتحملوا المسؤولية ، ولم يختلف الأمر لاحقا كثيرا .
وأنا أنظر في كيفية تدريس مساق اللغة العربية بالطريقة التي يدرس فيها أتذكر رسالة توفيق الحكيم إلى صديقه الفرنسي ( أندريه ) يشرح له فيها بؤس معلمي اللغة العربية حين كان طالبا ، ويخبره فيها أنهم اساؤوا إلى اللغة العربية ونفروا الطلاب منها ، خلافا لمدرسي اللغة الفرنسية والمناهج الفرنسية.
مرة عرضت أسئلة امتحان نهائي على صديق لي درس الأدب العربي وطلبت رأيه فيها ، فأجابني إن هذه الأسئلة ، لكي يجيب الطالب عنها ، تتطلب دراسته مساقات النحو ألف وباء وجيم .
ومرة ، وأنا أدرس المساق ، جاءني طالب وقال لي قصته مع تعلم اللغة العربية . قال لي إنه درس المساق ثلاث مرات ورسب فيه ، وقد قضى في الجامعة سبعة أعوام وهذا هو الفصل الأخير له ، فإن رسب فسوف يفصل من الجامعة.
سجل الطالب المساق في شعبة أدرسها ولم أكن أركز على النحو ولم أكن أبحث عن الشاذ من القضايا اللغوية ليتعلمه الطلاب . طلبت من الطالب أن يقرأ وأن يكتب وأن يتحدث وهكذا نجح في الامتحان وتوطدت علاقتي به وصار كلما زار الجامعة يزورني.
إن تدريس مساق اللغة العربية في الجامعة يحتاج إلى إمعان النظر فيه ويتطلب من مدرسيه إدراك فلسفة تدريس اللغة والغايات المرجوة من تعليم مساق في ثلاثة أشهر .
لطالما كنت أغمز وألمز وأنا أتوقف أمام رأي توفيق الحكيم في معلمي اللغة العربية في عصره : " إنهم لا يعرفون معنى اللغة على الإطلاق".
هل كنت على صواب؟

الخميس
١٣ شباط ٢٠٢٠

***

-21-
- اللغة و اسئلة الأحاجي والألغاز :

لقد غدا تدريس مساق اللغة العربية في الجامعة يسيء إلى اللغة العربية وينفر الطلاب منها أكثر مما يحببهم فيها ويخدمها ويحسن أداء الطلاب فيها ؛ كتابة ونطقا وقراءة . فالطلاب لا يقرؤون في المحاضرة ، لأن عددهم في المدرج ١٧٠ طالبا وفي الشعبة ٦٠ وأكثر ، ثم إنهم لا يكتبون بضع فقرات في البيت ليقرأها لهم مدرسهم ، ونادرا ما يقف الطالب فيهم ليلقي ملخص قصة أو بحث أمام زملائه ، فيعرف الأستاذ قدرة طالبه على التحدث بلغته .
صارت الأسئلة كما ذكرت أشبه بأحاجي (؟) وألغاز تتطلب دقة انتباه ومعرفة بحيل لغوية يخبرها المتخصصون وقد تخفى على قسم منهم ، وفي أحد الامتحانات تفذلك أستاذ فوضع سؤالا لم يجب عنه إلا دكتور قرأ القرآن ، وللمفارقة كانت إجابة واضع السؤال خاطئة . ( كان أحد واضعي الأسئلة يقول لي:
أتحدى أن يجيب نصف أساتذة القسم الأسئلة كلها إجابات صحيحة .
وأنا كنت أتساءل:
إذا كانت الأسئلة تصعب إجابتها على المدرسين ، فكيف نطالب طلاب السنة الأولى بالإجابة عنها؟).
أذكر أننا حين درسنا مادة الصرف ، في الجامعة الأردنية ، أذكر أننا رسبنا في المساق للجوء مدرسه الدكتور نهاد الموسى إلى تبصيرنا بدقة اللغة وحيلها ، وكان ذلك يخفى علينا ، فمرة كتب المثال الآتي وطلب منا إعرابه :
" اشترى الأمير قصرا وضيعا بمليون دينار " وكان المليون في حينه يعادل المليار الآن ، ولا أظن أن أيا منا أفلح في إعراب " وضيعا " وذهب أكثرنا إلى أنها صفة للقصر ، دون أن نلتفت إلى المعنى ، فكيف يكون القصر الوضيع بمليون دينار لنا نحن الطلاب الذين كنا ننفق عشرين دينارا طيلة الشهر ؟
فلما قرأها الدكتور نهاد ، وقد شكلها ، عرفنا أن الواو حرف عطف وأن ضيعا جمع ضيعة.
حين أخذت أدرس مساق اللغة العربية كنت ، في بداية الفصل ، أكتب هذا المثال ، على السبورة ، للطلاب وأطلب منهم إعرابه ، وبالكاد كانوا ينجحون ، إن لم أشكله.
في السنوات التي استعان القسم فيها بحملة الماجستير لتدريس اللغة العربية ازداد المتقدمون منهم وكان لزاما على القسم أن يجري اختبارا ليختار عددا منهم . وفي امتحان الاختيار اخترت بيتا شعريا لأبي فراس الحمداني ، دون أن أشكله ، وطلبت من الممتحنين أن يشرحوا معناه وأن يعربوه ، وكانت النتيجة أن طالبا واحدا فقط من ٢٠ هو من استطاع فهمه وإعرابه ، والبيت هو :
" أيا أم الأسير لمن تربى وقد مت الذوائب والشعور " .
وللمفارقة فإن أحد الطلاب ممن لم يحسنوا فهم البيت ، وبالتالي لم يعربوه إعرابا صحيحا ، صار أستاذا متخصصا في النحو وله باع فيه حتى إنني كنت استشيره أحيانا في بعض المسائل النحوية ، وهذه القصة ذات دلالة كبيرة وعميقة ، فلا يولد المرء فينا أفصح من سيبويه ، ولكننا تعلمنا اللغة ونحوها وصرفها والكتابة فيها عبر سنين لا في مساق واحد .
وأنا أنظر في أبحاث حملة الدكتوراه في الأدب العربي ألاحظ أنها لا تخلو من أخطاء عديدة ، فأقوم بتصحيحها لهم . ولا يختلف طلبة الماجستير الذين أدرسهم وأشرف عليهم كثيرا ، فما من بحث كتبوه أو رسالة أنجزوها خلت من أخطاء .
لم أكن شخصيا أستاء من الأخطاء النحوية والصرفية والإملائية إذا ما كان أسلوب الطالب قويا ومتينا ، ولعل أحد طلابي ممن كتبوا عن العنوان في الرواية الفلسطينية كان ، من حيث الأسلوب ، هو الأفضل ، ولكنه لم يكن يتقن النحو ، فكنت أصوب له أخطاءه بسرور كبير وبراحة نفسية ، إذ أن عبارته قوية وصياغته متينة . ومثل هذا الطالب كان طلاب الفلسفة .
لقد حكمت بحثين لدارسي الفلسفة ولاحظت قوة لغتهم وإن لم تخل كتابتهم أحيانا من رفع المنصوب ونصب المرفوع .
لقد أيقنت من خلال تجربتي في التدريس والكتابة أن إتقان اللغة لا يتم بمعرفة النحو والصرف فقط ، وأنه لا بد من قراءة نصوص جيدة وتدرب على الكتابة والقراءة . ومما لاحظته أيضا أن طلاب الطب والهندسة وبعض طلاب الكليات العلمية من الأوائل يتقنون النحو ويجيبون عن الأسئلة لذكائهم وهم بذلك ليسوا بحاجة أصلا لدراسة المساق ، فدراسته وعدمها لهم سواء.
هل آتي على أبناء العربية من غير المتحصصين فيها ممن يحملون درجة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي واللغة الانجليزية على سبيل المثال ، وهل آتي أيضا على مستوى بعض أساتذة العلوم السياسية وبعض العاملين في الإدارة ممن تبوؤا مناصب عليا ؟
يبدو أنني بحاجة إلى حلقة ثالثة للكتابة عن اللغة وعن لغتي الألمانية والانجليزية والعبرية التي طالما أراد كثيرون اختباري فيها حتى يمنحوني الدكتوراه أو يسحبوها مني .

الخميس ٢٠ شباط ٢٠٢٠

***

-22-
- لغة تفتش عن بنيها، تموت ككل ما فيها"

مرة طبع أحد أساتذة النحو كتابا في النحو طفح بأخطاء شنيعة بسبب عدم الدقة في علامات الترقيم ومراعاة حركات الضم والكسر والفتح والسكون ، وحدثت في الجامعة ضجة بشأنه .
كنت اطلعت على مسودة الكتاب وطلبت من مؤلفه أن يمعن النظر فيه ، ففيه من الأخطاء ما يسيء إليه ، ووقع الكتاب بين يدي زميل متخصص في النحو فكتب فيه مراجعة موجعة .
لو كان طلاب مساق اللغة العربية على دراية بالأمر وكانوا جريئين لربما رفعوا على الجامعة قضية وطالبوها بإعادة رسوم المساق لهم ، ولربما طالبوا بما هو أكثر من ذلك .
اضطر مؤلف الكتاب أن يعدم نسخ الطبعة الأولى وأن يصدر طبعة ثانية منه أخف ضررا .
لا أذكر الحادثة السابقة من أجل الإساءة إلى مؤلف الكتاب ، فهو زميل لي ، وإنما أوردها لكي أضع الحقيقة هذه نصب أعين مدرسي المساق حتى يتلافوا أسئلة الأحاجي والألغاز ، وحتى تعيد الجامعة النظر في طرق تدريسه وتحول دون تعليمه في المدرجات ، فجل من لا يسهو وقد يكون ما وقع فيه الزميل المتخصص سهوا في سهو وما شابه ، وإن كان ملوما في الأمر .
حين عدت من ألمانيا بدأت الجهات المختلفة ، من فصائل وإدارات وعائلات تمتحن لغاتي الأربعة ؛ العربية والإنجليزية والألمانية والعبرية ، وتواصلت جهات من هؤلاء مع الألمان ليقرر آؤلئك (؟) إرسال الشهادة لي أو عدم إرسالها ، وقصة الاختبار بدأت في ألمانيا ولم تنته هناك ، فالألمان بشر وقد يتأثرون بالقال والقيل ولديهم نفس طويل من أجل معرفة الحقيقة .
صار كل من هب ودب يختبر لغاتي من خلال اللغة التي يعرفها .
طلب مني صديق درس في جامعة القدس المفتوحة أن أساعده في حل أسئلة الكتاب الذي يدرس فيه ، ونشد بعض أقاربي أن أعلمهم قواعد اللغة العربية ، وطلبت مني الشاعرة فدوى طوقان أن أقرأ لها ما كتب عنها بالألمانية وأحضرت لي نسخة من رسالة ماجستير أنجزت عن سيرتها الذاتية ، وأخذ آخرون يحضرون لي روشيتات دواء مكتوبة بالانجليزية أو العبرية ، ولم يقتصر الأمر على قراءة المكتوب ، فقد زارني بعض معارفي بصحبة نسوة ألمانيات حتى يختبرن لغتي محادثة ، ولو كنت دونت ما جرى معي كله لفرط القراء من الضحك .
مرة زرت ابن خالتي عارف يعيش فطلب مني أن أقرأ له كتالوج غسالة ألمانية ، وصار معتمدا في إثبات أنني أجيد اللغة قراءة وفهما ، وثانية كتبت للسفارة الألمانية بتل أبيب رسالة باللغة الألمانية ، بالأحمر السائل ، أطلب فيها من مسؤولي السفارة تصديق شهادتي ، فصارت الموظفة شاهدا موثوقا في أنني أتقن الكتابة بالألمانية ، وصار للون الأحمر مغازيه ، عدا أن أكثر كتاب بالألمانية أفدت منه كان لون غلافه أحمر .
كي لا أنسى لغتي الألمانية ، وكي أحافظ على معرفتي بالإنجليزية ، أخذت في العام 1992 أترجم بعض الدراسات التي قرأتها باللغتين ، واعتمدت عليها في رسالة الدكتوراه ، إلى اللغة العربية ، ونشرتها في حينه في مجلة " الكاتب " المقدسية ، ولاحقا في مجلة " كنعان " ومع ذلك مازال كثيرون يعتقدون أن هناك من ترجم لي .
في امتحان الثانوية العامة حصلت في اللغة الانجليزية على 271 من 300 ، وكنت أقرأ بالإنجليزية ، وحين توظفت في الجامعة عقدت لنا هذه في الفصل الصيفي دورة لتطوير لغتنا الإنجليزية . ولمعرفة مستوانا فقد أجرى القائمون على الدورة امتحانا كتابيا ، والطريف أنني حصلت فيه على علامة تساوي علامة خريج بكالوريوس من جامعة النجاح الوطنية وهو الأستاذ بلال سلامة - إن لم تخني الذاكرة .
مرة كنت جالسا في حديقة منزلي فزارني الدكتور عبد الستار قاسم أستاذ العلوم السياسية في الجامعة ، وكانت بصحبته امرأة ألمانية متزوجة من أحد أقاربه ، وصرنا أنا وهي نتحدث بلغتها ، وصدر يومها قرار محايد من طرفين ؛ فلسطيني وألماني ، بأنني أجيد التكلم بالألمانية .
الطريف في الأمر أنني قدمت امتحان الدكتوراه في التخصص الرئيس والتخصصين الفرعيين بالألمانية ، وكان يمكن حسم الأمر هناك ، فالامتحان مسجل على شريط تسجيل ، وقد حضرت العميدة بشخصها الامتحان وكانت شاهدا عليه ، وفي اليوم الثاني لعقده التقينا في ساحة الجامعة لحضور احتفال عام وشربت لمناسبة نجاحي .
غالبا ما كنت أندهش من ذكاء الفلسطينيين الخارق وأتساءل :
- إذا كنا أذكياء لهذه الدرجة فلماذا خسرنا فلسطين ؟
وثمة فرق كبير بين الذكاء والتذاكي ، ونحن متذاكون لا أذكياء ، والدليل أنه منذ ثلاثين عاما ما زلنا ندق " الماء في الهاون " .
أكثر أبناء العربية لا يتقنون ، للأسف ، لغتهم ، والذين أرادوا اختبار لغتي الألمانية لم يكتبوا بلغتهم ما يوازي كتابتي باللغة الألمانية .
مرة قرأت مخطوط رواية لنشيط سياسي أراد اختبار لغتي الألمانية فلاحظت أن روايته تحفل بأخطاء نحوية ، عدا ركاكة الأسلوب .
أقسى مما سبق هو أن يقترح مشرف على رسالة طالبة في الأدب العربي عرض رسالتها على مدقق لغوي حتى لا يحرج هو في المناقشة ، مع أنه يحمل رتبة أستاذ مشارك في الأدب العربي . وأساتذة اللغة الإنجليزية الذين كنت أنشد مساعدتهم بقراءة ما أكتبه بالإنجليزية ليصححوا الأسلوب ، جاؤوني بعد سنوات - حين أخذوا ينشطون بكتابة أبحاث - كي أصحح لهم الملخص الذي كتبوه بلغتهم الأم - أي العربية .
أفظع حادثة شهدتها جامعة النجاح الوطنية كانت يوم حضر القنصل الفرنسي للمشاركة في احتفال أقيم في مدرج الأمير تركي .
يومها ألقى القنصل الفرنسي كلمته بلغته - إن لم تخني الذاكرة - وترجمت من الفرنسية إلى العربية ، فيم ألقى رئيس الجامعة كلمته - من أجل عيون القنصل وعشرة فرنسيين -
بالإنجليزية وترجمها له إلى العربية أستاذ في قسم اللغة الانجليزية .
كان الجمهور غالبه عربا ، وكان يفترض أن تلقى الكلمة بالعربية وتترجم إلى الفرنسية .
يقولون إن المسؤولين الفرنسيين في فرنسا يجب أن يتكلموا بالفرنسية احتراما لها ، وإن تحدث المسؤول بلغة غير لغته فإنه يهاجم بقسوة .
وأنا أصغي إلى كلمة رئيس الجامعة بالإنجليزية وترجمتها لجمهور عربي إلى العربية تذكرت سطر محمود درويش :
" لغة تفتش عن بنيها ، تموت ككل ما فيها ، وترمى في المعاجم "
وتساءلت عن مصير صرخته :
" سجل أنا عربي " ولربما قلت :
" سجل أنا شكسبير "!.
الكتابة تطول وفي الأسبوع القادم أقارب موضوعات أخرى غير اللغة .
الخميس
27 شباط 2020 .

***

-23-
- المستشرقون واللغة العربية

في مسيرتي الجامعية ، منذ العام ١٩٩١ حتى الآن ، دوشني كثيرون بأسئلة معينة هي :
- كيف درست الأدب العربي في ألمانيا؟
- هل أتقنت الألمانية ؟
- هل ما زلت تجيدها كتابة وقراءة ومحادثة ؟
- بأية لغة كتبت رسالة الدكتوراه ؟
في الجامعة التي درست فيها ، وهي جامعة ( اوتو فريدريك / بامبرغ ) قانون يجيز للطالب أن يكتب أطروحته بلغة يتقنها المشرف والممتحن ، على أن يقدم لها ملخصا في حدود ٤٠ صفحة باللغة الألمانية ، وإن كتبها باللغة الانجليزية فليس مطالبا بالملخص ، ولم أنتبه لهذا القانون إلا بعد أن سلمت الأطروحة بالألمانية ، ولو كنت انتبهت لسلمتها بالعربية مع ملخص بالألمانية .
أنفقت في ألمانيا ثلاث سنوات وتسعة أشهر وتسعة أيام بالتمام والكمال ، أنفقت ستة أشهر منها في تعلم الألمانية بمعهد ( غوتة )
في مدينة ( فرايبورغ ) وظللت أتعلم اللغة يوميا في السنوات الباقية ، وعندما عدت إلى فلسطين واصلت تعلم اللغة من خلال الإصغاء إلى الفضائيات الألمانية وترجمة الدراسات المكتوبة بالألمانية وقراءة مجلة ( Deutchland ) التي كانت تصلني من ألمانيا شهريا ، ولكني منذ آب ١٩٩١ انقطعت عن التكلم بالألمانية لعدم وجود ألمان أتواصل معهم ، وأعتقد أنني في جانب اللغة أنجزت أكثر مما ينجزه ألماني في المدة نفسها في تعلم العربية .
غالبا ما أتذكر ما كتبه إميل حبيبي في روايته " المتشائل " عن تعلم بطله سعيد العبرية وعن تعلم صباني نابلس العبرية في أقل من سنتين .
في " المتشائل " في الرسالة ١٥ من الكتاب الأول يأتي سعيد على الدرس الأول في اللغة العبرية ويصف كيف تعلمها كالآتي :
" وتكلمتها بأسرع مما قرأتها . وأخذني الأمر عشر سنين حتى ألقيت أول خطاب تحية باللغة العبرية . وكان أمام رئيس بلدية حيفا ، فسجلها في صحيفته سابقة " .
ثم يأتي على تعلم صباني نابلس العبرية في أقل من سنتين ، فيكتب ساخرا :
" فليست الحاجة أم الاختراع ، بل مصلحة القوم التي أرخصت أمهاتهم ، فقالوا : الذي يتزوج أمي هو عمي ! " .
وفي الكتاب الثالث في الرسالة ٢ التي عنوانها " كيف أصبح علم الاستسلام ، فوق عصا مكنسة ، علم الثورة على الدولة ؟ " يسخر من الضابط اليهودي الذي يشتمه ، لأنه رفع علم الدولة في حيفا على عصا مكنسة ملبيا نداء المذيع .
يكون الكلام ، في العام ١٩٦٧ ، موجها لأهل الضفة وغزة ، لا لأهل حيفا . ويكون سعيد في حيفا ومع ذلك يرفع العلم - يفعل ذلك متغابيا ساخرا ، وحين يسأل الصابط سعيدا عن سبب رفعه العلم والكلام ليس موجها لأهل حيفا ، يجيب سعيد بأنه سمع النداء من الإذاعة الإسرائيلية .
يرى الضابط أن مذيعي القسم العربي في الإذاعة الإسرائيلية أساؤوا صياغة النداء ، وكأنه يتهم العرب بأنهم لا يعرفون لغتهم . وهنا ينبري له سعيد مفندا داحضا :
" فدافعت عن بني قومي ، الذين يعملون في محطة الإذاعة ، قائلا : ما على الرسول إلا البلاغ . يهتفون بما يلقنون " .
والكلام السابق ، بخاصة كلام الضابط ، يحتوي على قدر من الإهانة .
والسؤال هو :
هل يتقن المستشرقون الذين يدرسون العربية العربية ؟
في العام ١٩٨٦ التقيت في القدس ، كما ذكرت ، بالمستشرقة الألمانية ( انجليكا نويفرت ) وتكلمنا معا بالعربية ، ووجب أن أتحدث ببطء وبعربية فصيحة حتى تفهم ما أقول . وكانت ( نويفرت ) بدأت تتعلم العربية منذ عقود وعاشت في العالم العربي عقدين تقريبا تدرس في الجامعات .
تتقن ( نويفرت ) والمستشرقون الألمان الإنجليزية ويتقنون لغات أخرى وهم في هذا الجانب أفضل منا ، ولكني أشك في انهم يتقنون العربية كتابة ، ولدي أكثر من دليل . إنهم يتقنونها قراءة وبدرجة أقل محادثة وأما كتابة فلا يفلحون في ذلك ، وربما لذلك أسباب عدا صعوبة العربية كتابة حتى لأبنائها .
يكتب المستشرقون بلغتهم الأم أو بالإنجليزية وأما بالعربية فنادرا ما يكتبون وإن كتبوا تكون كتابتهم ركيكة وركيكة جدا .
في ربيع ١٩٨٨ عندما سجلت في الفصل الجامعي الأول في الجامعة ، بعد إنهاء فصل اللغة ، عرضت علي الأستاذة ( نويفرت ) مقالا مترجما من الألمانية إلى العربية لأصححه لها ، فلم أفهم المكتوب . وبعد ذلك بسنتين طلب من أستاذتي ( فيلاندت ) أن تلقي محاضرات في العالم العربي تركز على أربع موضوعات . كتبت أستاذتي محاضراتها باللغة العربية وعرضتها على مساعدها ( فونك ) على أمل أن ينظر فيها ، فاقترح عليها أن أنظر أنا فيها ، وهو ما كان .
الأستاذة ( فيلاندت ) تتقن العربية قراءة وتحسن التكلم بها ولكنها لم تكتب فيها من قبل . ولسوف أنفق أسبوعا وأكثر في إعادة صياغة ما كتبت وأحيانا لم أكن أفهم ما تعني ، فاضطر للجلوس معها لسؤالها عما قصدت ، ولو كانت كتبت محاضراتها بالألمانية لترجمتها لها في المدة نفسها ، وكانت هي على وعي بصعوبة الكتابة بلغة يتعلمها المرء على كبر ولذلك طلبت مني أن تقرأ لي الفصل الأول من أطروحتي بالعربية .
وحتى قراءة المكتوب بالعربية كان أحيانا يستعصي فهمه على المستشرقين . الأستاذة ( فيبكة فالتر ) قدمت من ألمانيا الشرقية واستقرت في ( بامبرغ ) وطلب منها أن تتقدم للأستاذية من جديد ( Rehabilitation ) وعندما كانت تقرأ نصوصا عربية فيها مفردات استعصت عليها ، كانت تستعين بي ، وغالبا ما كانت هذه المفردات أجنبية مكتوبة بحروف عربية مثل ( مونولوج ، ايتيقا ، رتم ، انطولوجي .. الخ ) وسرعان ما تبتسم حين أنطق الكلمة بالإنجليزية أو حين أقول لها إن هذه المفردة غير عربية ولكنها مكتوبة بحروف عربية . كانت تبحث ساعة أو أكثر عن الكلمة في القاموس دون أن تجدها وسرعان ما تتصل بي .
مرة طلبت كتابا من بروفيسور ألماني فلم يعثر عليه في مكتبته ، فأعاد إلي الجزازة التي دونت عليها عنوان الكتاب المطلوب وقد كتب عليها : " لا عندي " - أي ليس الكتاب عندي .
أنهيت عملي في الجامعة وما زال الآخرون محتارين في لغتي العربية والألمانية والإنجليزية والعبرية .
أنا الأصم الأبكم الأعمى ، كما كتب الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي رثاه محمود درويش في قصيدته " مديح الظل العالي " :
الشاعر افتضحت قصيدته تماما
وثلاثة خانوه ؛ تموز وإيقاع وامرأة
وناما "
وكم من تموز وإيقاع وامرأة خانك يا أنت ؟

الخميس
ه آذار ٢٠٢٠ .

***

-24-
- أدب عربي في ألمانيا

لو كنت في القاهرة وسألني شخص متعلم عن مكان دراستي وتخصصي لأجبت بأريحية :
- أدب عربي في ألمانيا .
والصحيح أنني لم أتردد ، وأنا في نابلس ، في الإجابة نفسها بتلقائية ، فأنا حقا درست الأدب العربي في ألمانيا . ولما كانت نابلس غير القاهرة ، ولما كانت جامعتها حديثة التأسيس في مدينة وقعت تحت الاحتلال منذ العام ١٩٦٧ ، ودرس أبناؤها الأدب العربي في القاهرة ودمشق ، ولم يدرس أي منهم في دولة غربية إلا الأدب الإنجليزي أو علم الاجتماع أو الهندسة والطب والاقتصاد ، فقد استغرب كثيرون أن أكون سافرت إلى ألمانيا لدراسة الدكتوراه في الأدب العربي ، وغالبا ما كنت أصغي إلى المستمعين وهم يعبرون عن دهشتهم قائلين :
- أدب عربي في ألمانيا !؟
في الجامعات المصرية والسورية واللبنانية ، ولاحقا الجامعات الأردنية ، تخرج عشرات ، إن لم يكن مئات ، من جامعات غربية متخصصين في الأدب العربي .
وكان يتبع السؤال سؤال آخر متعلق به هو :
- بأية لغة درست الأدب العربي ؟
وكنت أذكر السائلين بطه حسين ولويس عوض ومحمد مندور وآخرين ممن قدموا للأدب العربي خدمات جليلة وكانوا حصلوا على شهاداتهم من جامعات غربية عريقة .
مشكلة جامعة النجاح الوطنية الكبرى ، كما ذكرت من قبل ، تكمن في أن أهل المدينة يتدخلون فيما يجري فيها ويتابعون أخبارها ويعرفون ما يجري فيها ، وإن كان لهذا وجه إيجابي فله في الوقت نفسه وجه سلبي .
كيف أشرح لكثيرين أنه ما من جامعة غربية عريقة إلا كانت العلوم الإسلامية تخصصا من تخصصاتها ؟
كنت أتيت من قبل على تخصصي وكيف حصلت على البعثة والموضوع الذي كتبت الأطروحة فيه ، ولا بأس بقليل من التكرار .
تختلف دراسة الدكتوراه في الجامعات الألمانية عنها في الجامعات المصرية وبعض الجامعات العربية ، فكثيرون ممن حصلوا على الدكتوراه من جامعات عربية في ستينات وسبعينات وثمانينات القرن العشرين لم يدرسوا مساقات واكتفوا بأن كتبوا الأطروحة ، وكانت هذه هي ما يحدد تخصصهم .
في ألمانيا الأطروحة مهمة ولكنها جزء من دراسة الدكتوراه ، فأنت حين تدرس العلوم العربية يجب أن تتخصص في فرعين آخرين ، ويجب أن تكتب في كل تخصص بحثا وتناقشه ، وبعد أن تنحز هذا وتنجز رسالة الدكتوراه في الموضوع الذي خضت فيه تتقدم لامتحان شفوي في التخصصات الثلاثة .
تذهب إلى الأساتذة الذين كتبت معهم الأبحاث والرسالة وتتفقون معا على أفكار معينة غير التي كتبت فيها ، وتقرأ حول هذه الأفكار ثم تتقدم ، بعد أن يجيز المشرف والمناقش الخارجي أطروحتك ، إلى امتحان شفوي يجلس فيه الممتحنون الثلاثة وعميد الكلية معك ويسجلون على " شريط تسجيل " وقائع الجلسة .
لقد كتبت في موضوع صورة اليهود في الأدب الفلسطيني ، واخترت لامتحان التخصص الرئيس الأفكار الآتية :
- أدب السجون في الرواية العربية ، رواية عبد الرحمن منيف " شرق المتوسط " نموذجا ، وكتاب د.سمر روحي الفيصل " السجن السياسي في الرواية العربية"
- مسرح توفيق الحكيم بأنواعه وحددت المسرحيات الآتية مثالا : يا طالع الشجرة ، نماذج من المسرح الاجتماعي ، السلطان الحائر ، بجماليون أو شهرزاد ولم أعد أتذكر أيهما تماما .
- أبو نواس ، واخترت كتاب أستاذ ألماني أشرف على زميلي الدكتور زياد الزعبي ، والكتاب هو كتاب الأستاذية لصاحبه ، و أرجح أنه بروفيسور Ewald Wagner ولا يقل حجمه عن ٥٠٠ صفحة .
وهكذا لم أكن مقتصرا على الأدب الفلسطيني أو الأدب العربي الحديث ، عدا ما سبق فقد أنفقت فصولا في قراءة قصص وروايات نجيب محفوظ ومسرحيات صلاح عبد الصبور ، وتعلمت تحليل النص الشعري فأنفقت فصلا كاملا مع الدكتورة ( انجليكا نويفرت ) ندرس معا قصيدة محمود درويش " عابرون في كلام عابر " وترجماتها إلى العبرية والتوقف أمام إشكاليات أنا المتكلم فيها ( سوف أترجم بعد عودتي دراسة نويفرت ودراسات أخرى عديدة ) .
حين طبع اتحاد الكتاب الفلسطينيين لي رسالة الدكتوراه كتب أحد أعضاء الاتحاد محددا تحصصي " دكتوراه في الأدب الفلسطيني " ، وذهب المرحوم عزت الغزاوي إلى ما هو أبعد من ذلك ، فكتب في معجم الأدباء الفلسطينيين في القرن العشرين إلى أن الكتاب رسالة ماجستير مترجمة . كل ما سبق لم يصدر عن متخصصين يعرفون طبيعة الدراسة في ألمانيا ، وإنما صدر عن أشخاص يحركهم الفصيل الذي ينتمون إليه . ( أنجز أحد أعضاء الاتحاد لاحقا رسالة دكتوراه قلد فيها رسالتي ولخص الكثير منها وكتب أطروحته وهو في الضفة دون أن يتلقى العلم على يد أستاذ ) .
بقدر من النرجسية أكتب إنني أنجزت ما لم ينجزه أي أكاديمي فلسطيني في الأرض المحتلة في التخصصات الآتية :
- النقد الأدبي
- الأدب العربي الحديث
- الأدب المقارن .
وعلى الرغم مما سبق ، وعلى الرغم من إنهائي عملي في الجامعة إلا أن الجامعة قيادة وشعبا ؛ متخصصين وغير متخصصين ، منجزين وغير منجزين ،
ما زالوا يتساءلون عن تخصصي .
لعبد الحليم حافظ أغنية تقول كلماتها إن رفاق أنا المتكلم فيها حائرون في حبيبته من تكون ، وأنهم ما زالوا يتساءلون .
الرفاق حائرون .
الإدارة حائرة .
وأنا أكتب مقالاتي على مهلي ، وحين أنظر في أبحاث زملاء كثر أجد نفسي ألقي بها في سلة المهملات .

الخميس
١٢ آذار ٢٠٢٠ .

***



***/...



الجزء الثاني ( من 25 إلى ....)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى