رزاق ابراهيم حسن - إحتضان التجارب الإبداعية والإنفتاح على الأجيال

لم يعرف عن الدكتور عماد عبد السلام رؤوف اي اهتمام بدراسة ونقد الفنون المعاصرة، بل عرف عنه تخصصه في التاريخ، ومثابرته المستمرة لتقديم المزيد من الكتب التاريخية المؤلفة والمحققة، ولكنه اصبح دارسا للفن، وكاتب سيرة شخصية فنية في كتابه (عبلة العزاوي رحلة بين الطين والروح: سيرة شخصية وفنية) الصادر حديثا.

ومن يعرف الدكتور عماد عبد السلام رؤوف يدرك انه لا يكتب لاجل الكتابة، او لاعتبارات شخصية او آنية، وانما يكتب عن موضوعات وشخصيات تستحق الكتابة تاريخيا واخلاقيا وثقافيا، وهو عندما يكتب عن موضوع جديد بالنسبة له، ومختلف عما اعتاد عليه من موضوعات، انما ينطلق في ذلك من اهمية هذا الموضوع، ولانه جدير بالكتابة، ولان عدم الكتابة عنه تفريط بحق واضح وملموس، واهمال لجهد يستحق البحث والتذكير والبروز والاشادة.

والدكتور عماد عبد السلام رؤوف لم يكتب عن عبلة العزاوي لانها فنانة معروفة فقط، بل لانه يعرفها، ويدرك حجم دورها الفني، وما قدمته من اعمال، وما اجتازت من تحديات، فقد كان ولايزال دائب الحضور في قاعتها، ومن المسهمين البارزين في النشاطات الثقافية لهذه القاعة.
علامات في سيرة

اذا كان بعض الفنانين يتميزون بخصائص معينة في مسيرتهم الفنية فان عبلة العزاوي امتلكت ما يميزها منذ خطواتها الاولى، وقبل ان تتفتح موهبتها الفنية، فقد اصيبت بمرض عضال في طفولتها، ولكنها بدلا من الاستسلام للمرض، والانشغال باوجاعه وآلامه، انشغلت بالقراءة، اذ طالعت محتويات مكتبة أبيها ومقتنيات اخيها واخواتها من الكتب وهي طريحة الفراش، وما تستعيره اخواتها من مكتبات المعاهد والجامعات، كما لها محاولات في القصة والشعر، كانت كما يقول الدكتور عماد عبد السلام رؤوف تنم عن رقة في الطبع، ورهافة في الذوق.

ولم تتعرف الفنانة عبلة العزاوي على ما عرفت به من خلال الدراسة، وانما وجدت في نفسها ميلا قويا الى فن السيراميك اثناء وجودها في فرنسا لاجراء فحوص طبية، ورغم معاناتها من المرض فقد عززت هذا الميل بزيارة عدد من المعارض والمتاحف الفنية، وتلقي دروس عن السيراميك في بعض القاعات الفنية الخاصة، وفي بغداد حاولت اتمام دراستها لفن السيراميك، ولأنها غير حاصلة على شهادة المتوسطة فقد قبلت مستمعة في معهد الفنون الجميلة، ولكنها اصرت على ان تكون دراستها في المعهد

نظامية، وان تطالع المنهاج الدراسي للمتوسطة واجتياز الامتحان فيه بنجاح، وحصلت في وقت واحد على الشهادتين معا، شهادة الدراسة المتوسطة وشهادة معهد الفنون الجميلة. وخلال وجودها في المعهد شاركت في بعض معارضه، وقد اشاد بعض اساتذتها باعمالها على انها تمتاز بالنشاط الفذ، وانها اعمال فخارية ممتازة، وموضع اقتداء من الطلاب. واذا كان الدارسون العراقيون والعرب الذاهبون لاوربا يفضلون العواصم والجامعات الكبيرة، فان عبلة العزاوي اختارت الدراسة في فرنسا في مدينة (بورج) التي تبعد عن باريس مئة كيلو متر، لان معهد الفنون الجميلة والتطبيقية فيها يضم قسما خاصا بالسيراميك ولأنها محاطة بقرى كاملة مختصة باعمال السيراميك، وخاصة قرية (بورن) المشهورة منذ قرون بأعمال السيراميك التراثية، واذاكان اغلب الذين اتيحت لهم فرصة الدراسة والعمل في الخارج يرجعون الى الوطن بسيارة او قطع من الاثاث والملابس فان عبلة عادت الى بغداد بطين مقاوم للحرارة العالية وفرن مخصص لهذه الحرارة ومستلزمات عمل. واذا كان اغلب الذين يدرسون في الخارج من الفنانين يقعون تحت تأثير التيارات السائدة في البلدان التي يدرسون فيها، فان عبلة العزاوي وجدت خلال دراستها في فرنسا (ان فن السيراميك ليس كله -ويل- واشكالا منتظمة، وانما يعتمد على استخدام اليد في تشكيل وخلق تكوينات تترجم رؤى وافكار الفنان)، كما انها حرصت على التعبير عن الموروث الاسلامي العراقي، والخصائص العراقية في اعمالها.

وقد عززت ذلك عند عودتها الى بغداد او بزيارات مستمرة للمتحف العراقي ومحال صاغة الفضة. والتمعن في الابواب والشبابيك والاعمال الخشبية المزخرفة في السقوف، وفي تيجان الاعمدة، وفي الشناشيل والزخارف الأجرية والمزججة، وما تزخر به جدران المآذن والقباب من زخارف وخطوط وتشكيلات.

ويقول الدكتور عماد عبد السلام رؤوف: (شيئا فشيئا تحولت وقفات التأمل الطويلة، والاستيحاء المباشر، الى دراسة معمقة في اساليب البناء والعمارة والتزيين عند البغداديين القدامى، وتركت عبلة كل ذلك ليظهر بعفوية في اعمالها المختلفة، ولم تشأ حتى ان تعين ذاكرتها بالتقاط صور فوتغرافية لما تراه، كما يفعل فنانون عادة، او رسم تخطيطات لها كما يفعل بعضهم، وانما كانت تترك تلك الصور لتنفذ الى عالمها الخاص، وربما الى عالم اللاوعي فيها، لتخرج منه اعمالا فنية تعبر فيها عن تفاعل كامل بين ذاتها وبين التراث نفسه، وهكذا خرجت من بين انامل عبلة، نماذج جميلة للموروث البغدادي، مثل: الحب، والدلاعة، والحرز، والسبع عيون وغير ذلك، على ان من المهم قوله ان هذه النماذج احتوت على عناصر من التجديد والرؤية الخاصة بعبلة، فلم يكن لأي عمل منها شبيه في اعمالها الاخرى، ولم يكن ثمة تشابه بين طريقة تنفيذها مهما كان تشابه الرمز الذي تختاره، وكانت عين عبلة تقف عند التفاصيل التي ربما لم يكن يلحظها اكثر الناس).

اعمال كبيرة

اقامت الفنانة عبلة العزاوي خلال مسيرتها الفنية اربعة عشر معرضا شخصيا، فضلا عن مساهمتها في الكثير من المعارض الجماعية، وكانت تحرص على جعل كل معرض مختلفا عن المعرض السابق، او متميزا بشيء عن المعرض السابق، مركزة على تسجيل تاريخ وحياة بغداد في ادق تفاصيلها ورموزها ومناسباتها.

ورغم صعوبة فن السيراميك، وتدخل تقنيات ووسائل معينة في التعامل معه، الا ان عبلة العزاوي لم تقف عند حدود ابداع القطع السيراميكية ذات الاحجام الصغيرة والمتوسطة من الجداريات والمعلقات والمسلات والمنمنمات والقلائد والتمائم والتعاويذ والاواني فقط، وانما قامت بعمل جدارية ضخمة عام 1982 ترمز لمدينة بغداد وتتألف من ثلاث مئة وخمسين قطعة متلاصقة ومترابطة في اطار التعبير عن صورة بغداد المدورة كما هو حالها عند انشائها من قبل الخليفة المنصور.عبلة 3

ورغم صعوبة توضيح وابراز التفاصيل والشواهد الكبيرة في الاعمال السيراميكية الا انك تشاهد في هذه الجدارية قصور الخليفة واحياء ومؤسسات ومساجد بغداد وسورها وابراجها، وطرقها وحدائقها، وتشاهد الرموز الدالة على حضارة بغداد، ودروها في الحضارة الانسانية. وعندما سألت الفنانة نفسها عن مصدرها في هذه الجدارية اجابت قائلة: الخيال، كان مصدري الاول، فقد تصورت بغداد، قصورها، بيوتها.. حدائقها.. اسوارها، ولكنني اعتمدت كتب التاريخ مصدراً للدراسة.

ويتحدث الدكتور عماد عبد السلام رؤوف عن الجدارية على (ان الفنانة اختارت ان تصور لنا بغداد المدورة وكأنها تنظر اليها محلقة من فوق، جاعلة ثمة مسافة زمنية، لامكانية، لتمنح المشهد بعدا اسطوريا هائلا، على اننا كلما تفحصنا معالمها الداخلية، صرنا في قلب المدينة، وفي اسرارها).

وعن بغداد ايضا عملت جدارية اخرى بعنوان (بغداد محروزة) تصور بغداد بين اربعة ابواب وسور، تمثل (الدرع والتعويذة) وبين السور والمدينة نهر وخضرة، وفي الجزء الشرقي سيف مزين بالآيات القرآنية فيما احيطت المدينة بمعوذات وآيات قرآنية، ويرمز كل ذلك الى خلود بغداد، وانها محمية من الله سبحانه وتعالى، وانها عصية على الفناء، دائمة الخصب والتجدد.

ويتضح من خلال ذلك ان عبلة العزاوي كرست اغلب اعمالها لبغداد، معبرة بذلك عن حبها لهذه المدينة الخالدة، وعن غنى هذه المدينة، وامكانيتها على رفد الفنان بما يريد استلهامه وتسجيله من الموضوعات المهمة والمتميزة.
عبلة والحركة الفنية

ينسب الدكتور عماد عبد السلام رؤوف الى عبلة اكتشاف طين عراقي له خصائص الطين الفرنسي (ستون وير) من حيث صبره على الحرارة العالية، واستطاعت من خلال طلي اعمال مصنوعة من الطين الفرنسي بالطين العراقي الحصول على الوان خاصة، وذلك ما تحقق من خلال نثر مسحوق من الصخور والاحجار فوق هذه الاعمال، كما عرفت عبلة باستخدام الوان زاهية.

واضافة الى هذه المنجزات فان قاعة عبلة كانت وماتزال تستقبل المعارض الفنية، الشخصية والجماعية للفنانين، وتحتضن الندوات والمحاضرات ذات الموضوعات الثقافية والعلمية المختلفة، وتقام فيها الدورات لدراسة فن السيراميك وغيره من الفنون التشكيلية الاخرى.

وفيما تشهد الغزالية في هذه الايام تدهورا امنيا فان قاعة عبلة للفنون تظل العلامة الاكثر بروزا فيها، ويظل الشارع الذي تقع فيه شارعها، والشارع الاول فيها من حيث الشهرة والموقع.عبلة 4

فقد ترسخت هذه القاعة في ذاكره الفنانين والكثير من الناس منذ انشائها عام 1986، وكان امرا غريبا اختيار الغزالية موقعا لها في ذلك العام، فهذه المنطقة بعيدة عن مركز بغداد، وليس بينها وبين المناطق الصالحة للقاعات الفنية غير المسافات البعيدة، كما ان عبلة العزاوي انشأت هذه القاعة في ظروف الحرب بين العراق وايران وكانت التعبئة العسكرية والسياسية للنشاطات الثقافية هي السائدة، ولم تأخذ القاعات الفنية الخاصة انتشارا معينا في مركز العاصمة.

ولعل قاعة عبلة للفنون كانت من القاعات الخاصة الرائدة في بغداد والعراق، وقد جاء انشاؤها مع نشوء التجمعات السكانية الاولى في الغزالية، وفي الوقت الذي كان فيه هذا الحي لا يضم غير عدد من البيوت المتباعدة، وكانت اغلب التجمعات السكنية فيه بعيدة عن موقع القاعة.

ولكن هذه القاعة استمرت بمعارضها وندواتها رغم كل ذلك، ويقصدها الفنانون والمثقفون من جميع احياء ومناطق بغداد، ويقول عنها احد الفنانين: (مبارك لنا نحن التشكيليين هذا العش الجميل والسعيد والمضئ).

ويقول فنان آخر ان للقاعة روحها، وانها تجمع اصدقاءها من التشكيليين في انتماء روحي يوصلهم مع الفن هاجس نبيل وديدن طاغ وانطلاقا من العلاقة بين عبلة وقاعتها، والعلاقة بين الاثنين وعموم الناس يقول الدكتور عماد عبد السلام رؤوف (لم تكن عبلة فنانة وكفى، وانما كانت برغم زهدها الشديد وقناعتها التامة شخصية مؤثرة ايجابا في كل من حولها، تشيع جوا من التفاؤل، في وقت لم يكن ثمة ما يبعث اليه، وتعزز اواصر المحبة وتنشرها حولها).

والقاعة اضافة الى ذلك عززت من مكانة عبلة العزاوي في الحركة الفنية العراقية للاسباب التالية:

1- انها من القاعات التي استقبلت معارض لمختلف النتاجات الفنية، والفنانين من اتجاهات واعمار مختلفة.

2- ولان هذه القاعدة شهدت عدة معارض للسيراميك، فانها عززت اهمية وحضور هذا اللون في الفن العراقي المعاصر.

3- وقد أولت قاعة عبلة للفنون عناية بالفنانة العراقية، وقدمت العديد من الفنانات، الامر الذي يحفز على تعزيز دور المرأة في الحركة الفنية العراقية.

4- قاعة عبلة للفنون من اقدم القاعات في بغداد، وليس بعيدا تأثيرها باتجاه ما حصل من انتشار للقاعات الفنية في بغداد وبعض المحافظات.

5- ان استمرار قاعة عبلة للفنون على العمل في هذه الظروف الصعبة والخطيرة تأكيد على ضرورة استمرار العطاء الفني، وانه متواصل رغم التحديات.

6- لقد استقبلت القاعة الكثير من المعارض الشخصية والجماعية التي يمكن اغفالها واهمالها، وما تشكله من علامات في مسيرة وتاريخية الفن العراقي المعاصر.

7- ان قاعة عبلة للفنون كانت من اوائل القاعات التي حملت اسماء ومشاريع اصحابها، وليس من المستبعد ان تكون قد مارست دورها في دفع فنانين عراقيين اخرين الى اقامة قاعات ومشاريع ذات طابع شخصي.

8- ان قاعة عبلة للفنون تؤكد ضرورة انشاء قاعات فنية بعيدة عن مركز العاصمة، توسع من قاعدة المتذوقين للفن، وتستقطب الفنانين والمثقفين في معارضها ونشاطاتها، كما انها تؤكد ان القاعات الفنية يمكن ان تعوض الموقع الجغرافي الافضل بالدور المتميز والجاد والمبدع للمشرفين عليها، وما تمارس من استقطاب للفنانين والمثقفين والجمهور.

عن موقع


أعلى