منذر ابو حلتم - كلمة.. كلمة.. قصة قصيرة

نظرت إلى ساعتها للمرة الرابعه .. ونظرت حولها .. عدد قليل من الناس يجلسون على الطاولات الأنيقة .. المغطاة بقماش أزرق جميل وموسيقى هادئة تنبعث في أرجاء الصالة الواسعه ..
السمفونيه الأربعون لموزارت .. أغمضت عينيها .. إنها تحب هذه المقطوعة بالذات لقد أهداها إياها قبل شهر على شريط كاسيت .. ومنذ ذلك الحين أدخلتها هذه الموسيقى عالماً آخراً .. جميلاً .. يختلف كثيراً عن عوالم الصخب والجنون التي تسمعها كل يوم والتي لا تشعر معها إلا بالسأم والصداع
جهاز التكييف يجعل جو الصالة ربيعياً منعشاً يختلف كثيراً عن الجو في الخارج . كان الشارع يبدو من فتحات الستارة الزرقاء مزدحماً وشمس الظهيرة تصب لهيبها على كل شيء .
لقد تأخر ربع ساعة .. ربع ساعة كاملة .. إنها المرة الأولى التي يتأخر فيها .. فهو دقيق في مواعيده لدرجة متعبة . ابتسمت وهي تتذكر ملامحه وطريقته في الكلام .. خطبه الحماسية في اتحاد الطلبه .. إنه متحمس لكل شيء .. مندفع .. لايقر له قرار ، ويمكن أن تجده في أية لحظة .. في أي مكان في الجامعة .. المكتبة .. الكافيتيريا .. اتحاد الطلبة .. الساحات العشبية الخضراء .. ومع هذا فهو من الأوائل دائماً . ومع أنه يكبرها بعدة أعوام .. إلا أنها لا تشعر معه بأي فارق زمني ، فهو على وشك إنهاء دراسته العليا في الصحافة .. ويعمل مراسلاً صحفياً لعدة مجلات وصحف .. أما هي فما زالت في السنة الثالثه في كلية الآداب .
هي لا تدري كيف أعجبت به في البداية .. فهو صديق للجميع ، والجميع يحبونه .. وخاصة الفتيات .. لكنه لم يكن يهتم بفتاة معينة .. بل كان يوزع اهتمامه على الجميع .. ولعل اندفاعه وحماسه وبساطته هي ما يشد الجميع إليه .. وخاصة هي ! .. فهو يختلف عن الآخرين .. ثم بدأت تلمس اهتمامه بها .. فهي من المتابعات النشيطات للانشطة الثقافية .. وعضو في اتحاد الطلبة ..ولها محاولات شعرية فرحت بها لحد الجنون عندما نشرت في صحيفة الجامعة .. وبدأت تشعر بنظرات الغيرة .. عندما تشاهدها زميلاتها وهي تسير أو تجلس معه ..
تنفست بعمق .. إنها تحبه .. تحبه لدرجة لم تتوقعها هي نفسها ..! ولكن ما الذي جعلها تتعلق به لهذه الدرجة ؟ .. إنه ليس غنياً .. بل على العكس .. فقير .. وبسيط .. يرتدي ملابس بسيطة ، ولا يجد حرجاً عندما يقول إنه يشتري ملابسه من محلات الألبسه المستعملة .. ويركب الباصات ويأكل الساندويشات الرخيصة .. لكنها تحبه .. تحب حماسه واندفاعه .. بساطته .. طريقته في الكلام .. كان يقول لها :- أنت ما زلت نقية وطيبة .. لم تغيرك بعد أوراق السيلوفان التي تحيط بك
وعندما كانت تضحك وهي تجلس معه على العشب .. كان يقول
- لن أسمح لعيشة القصور أن تطفئ فيك شعلة الحياة -
ولم تكن تفهم تماماً ما يعنيه .. كان يناقشها في محاولاتها الشعرية .. بكل جدية .. وكانت تبتسم وتقول له أنه يحمل الأمور فوق ما تحتمل .. لكنه كان يصر على المناقشه .. فتقاطعه ضاحكة :
أنت مجنون .. وستكون نهايتك إما في مستشفى المجانين أو مثل سقراط -
إنه يختلف تماماً عن تماثيل الشمع البلهاء التي تتراقص في الحفلات الاجتماعيه التي تشارك فيها عائلتها ومعظم معارفها باستمرار ..كانت تفرح بمناقشاته .. لم يكن يهمها كثيراً ما يقول .. لكنها كات تشعر بالسعادة وهي تتابع حماسه الغريب .. وطريقته في الحديث ! .. المهم أنها معه .. وهو محط أنظار الجميع .. كانت تسمع الطلبة يتحدثون عنه .. في تجمعاتهم وجلساتهم .. يتحدثون عن كتاباته ومقالاته .. عن نشاطاته وأفكاره وآرائه السياسية .. فيزداد إعجابها به .. ومع أنها قرأت معظم ما نشره من مقالات .. إلا أنها لم تفهم أشياء كثيرة مما قرأته .. ولم تفهم لماذا تثير مقالاته كل هذا الحديث .. وهذه الضجة ..!
الجرسون يحضر فنجان القهوة الثاني .. تناولت كوب الماء البارد .. شربت منه قليلاً وصارت تحرك الكأس بيدها .. فتصطدم مكعبات الثلج الصغيرة بجوانب الكأس مصدرة صوتاً يشبه صوت جرس ناعم ..
قبل أيام قال لها ببساطة إنه يحبها .. وإنه يود التقدم لخطبتها .. وقال إنه يتوقع معارضة أهلها .. لكنه لن يستسلم بسهولة .. ومستعد للمحاربة من أجلها اذا كانت تبادله نفس الشعور .. فرحت كما لم تفرح من قبل وبنفس البساطة والاندفاع أخبرته أنها تحبه أيضاً .. واتفقا على اللقاء اليوم ليتحدثا في تفاصيل الخطوبة . ابتسمت وهي تتذكر كيف اصرت هي ان تدعوه الى هذا المكان .. وكيف رفض في البداية قائلاً بأن هذه الأمكنة تشعره بالاغتراب .. ولكن عندما أصرت وقالت ضاحكة :- يا أخي لا تخف .. على حسابي أنا !
ابتسم وقال :- في هذه الحالة .. أقبل الدعوة ..!
نظرت إلى الساعة للمرة الخامسة .. كانت تشير إلى الثالثة والنصف .. ستكمل فنجان القهوة ثم تخرج .. لأن منظرها ليس طبيعياً وهي تجلس وحيدة على الطاولة .. بين هؤلاء الذين يجلسون أزواجاً .. ويتحدثون همساً وهم ينظرون في عيون بعضهم بنظراتهم الحالمة ..
أمسكت بحقيبة يدها ووقفت .. وقبل أن تثبت نظارتها الشمسية على عينيها .. رأته يدخل مسرعاً من الباب .. خفق قلبها وتنهدت بارتياح وعاودت الجلوس ..
آسف .. آسف جداً يا حبيبتي
تظاهرت بالغضب .. رسمت تكشيرة على جبينها وقلصت شفتيها فبدت مثل طفلة حردانة .. ونظرت إليه . كان يتصبب عرقاً .. ومن عينيه تطل نظرة حزينة حائرة ..
- لماذا تأخرت ؟ ثم تابعت مبتسمة :- هل بدأت تهرب مني منذ الآن ؟
مسح جبينه بظهر يده ، ناولته منديلاً ، تناوله ومسح وجهه بحركة عصبية واضحة .. قالت باهتمام :
ماذا حدث ؟ .. ابتسم ابتسامة خاطفة وقال -
سأسافر هذه الليلة -
لم تفهم ما قاله للوهلة الأولى .. نظرت إليه بدهشة
ماذا قلت ؟
ستنطلق الطائرة عند الحادية عشرة ليلاً ..
فتحت فمها بدهشة .. أن يسافر فهذا أمر طبيعي .. ولكن هذه الحيرة .. وهذا الحزن
إلى أين ..؟ .. ولماذا ؟
- لا أستطيع البقاء أكثر .. ! صمت قليلاً .. نظر إليها بعمق ثم تابع باهتمام وصوت منخفض :- اسمعيني .. اسمعيني جيداً .. قد لا أتمكن من العودة قبل أشهر .. أو سنوات ! .. كان يتحدث بسرعة وتابع :- اسمعيني جيداً .. يجب أن لا نخرج من هنا معاً .. لقد قبضوا على زميل لي .. لكنه لن يتكلم قبل أربعة وعشرين ساعة .. خذي هذه الأوراق .. احفظيها في مكان أمين .. لا تدعي أحداً يراها .. سأتصل بك بمجرد أن استقر .. وسأخبرك بعنواني .. لترسليها لي ..وإذا حدث شيء ما .. أو شعرت بأي شيء غير طبيعي .. تخلصي منها .. أحرقيها ..!
كانت تتابع ما يقول بذهول ودهشة .. أمسك بيدها ونظر إلى عينيها نظرة طويلة وتابع :
إذا تمكنت من اللحاق بي بعد تخرجك .. سأكون بانتظارك .. والآن .. إلى اللقاء ..!
وقف وهو ما زال ممسكاً بيدها .. شد على يدها بحرارة ، وقفت مترنحة وهي تمسك بالكرسي بيدها الأخرى .. ثم اقترب منها فجأة وقبلها على خدها قبلة سريعة ..
كانت تقف بذهول .. تابعته وهو يبتعد ، انتبهت إلى الجالسين وهم يحدقون فيها بفضول . وضعت مغلف الأوراق في حقيبتها وسارت بخطوات بطيئة نحو الباب .
عندما خرجت كان الهواء ساخناً .. لكنها سارت ببطء نحو سيارتها الصغيرة الحمراء .. محاولة تذكر كلماته .. وتجميع افكارها ..
ماذا حدث فجأة ؟! ..وإلى أين سيسافر ؟ و أين سيستقر ؟ وأين ينتظرها لتلحق به ؟؟ عندما جلست في السيارة .. كان مقود السيارة ساخناً جداً بسبب حرارة الشمس .. لكنها أمسكت به دون أن تشعر بحرارته .. وسارت بين السيارات الزاحفة تحت شمس تموز .. في طريقها إلى الفيلا في الحي الهادئ ..!
في المنزل كانوا جالسين حول مائدة الغداء .. والخادمة السيريلانكية تجمع الصحون .. قالت أمها
انتظرناك طويلاً .. لكنك تأخرت .. هيا .. الطعام ما زال ساخناً ..
لكنها سارت نحو غرفتها دون أن تنطق بكلمة واحدة .. في غرفتها جلست على السرير .. أخرجت المغلف من حقيبتها .. كان المغلف مغلقاً .. نظرت إليه قليلاً ثم فتحت أحد ادراج مكتبتها ووضعته تحت كومة من المجلات ..وفي الليل .. وفي تمام الساعة الحادية عشرة .. خرجت إلى الحديقة .. نظرت إلى السماء .. وعندما سمعت صوت طائرة يهدر من بعيد .. ولمحت أضواء الطائرة وهي تتجه بشكل شبه مباشر نحو القمر .. خفق قلبها .. وشعرت بأنها تفتقده .. تفتقده كثيراً ..
في اليوم التالي سمعتهم في الجامعة يتحدثون عن إلقاء القبض عليه .. خفق قلبها بشدة وتغير لونها .. وهي تسمع كيف قبضوا عليه في المطار .. قبل سفره بدقائق .. شعرت بالانهيار .. وشعور بالحزن والانقباض يخنقها ويضغط على كل خلية في جسمها ،ولم تكن لديها الرغبة على حضور باقي المحاضرات ..
في غرفتها .. ارتمت على السرير ، دفنت وجهها في الوسادة وبكت .. بكت طويلاً وشعور بالغضب والقهر يزلزل كيانها .. لماذا ؟ إنه طالب ..وكاتب مثقف ، كتاباته لا تسيء إلى أحد ..إنه يكتب عن أشياء غريبة .. لكنها تشعر أنها صحيحة .. إنه يكتب دائماً عن عالم مثالي جميل .. يختلف عن عالمها هي ..عالم الصفقات والعقارات والموضة .. عالم الأغاني الغربية والصرعات المجنونة .. عالم مختلف تماماً ..إنه يكتب عن عالم جميل .. نظيف خالٍ من الفقر والمرض والفساد ..عالم يستطيع فيه الناس .. كل الناس أن يقولوا ما يريدون .. بحرية
الغضب يزداد في صدرها .. يجب أن تفهم ..لماذا يقبضون على إنسان لمجرد أنه يكتب ؟! نعم .. يجب أن تفهم ما يدور حولها ..
مسحت دموعها .. ثم أخرجت المغلف من تحت كومة المجلات القديمة .. وعندما أمسكته بيديها .. شعرت بأنه قريب .. قريب جداً .. فتحت المغلف بأصابع مرتعشة , و أخرجت الأوراق .. كانت مجموعة من مخطوطات مقالات لم تنشر بعد .. ومنشورات سرية .. نظرت إليها بإمعان .. ثم بدأت تقرأها .. كلمة .. كلمة
  • Like
التفاعلات: نقوس المهدي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى