كاظم حسن عسكر - الجدل والتأليف في كتاب(طبقات فحول الشعراء) لابن سلّام الجُمحيّ

دخل التأليفُ العربيُّ في حقل النقد منذ نشأته جدلًا طويلًا ابتدأ مع ابن سلام الجُمحيّ وكتابه(طبقات فحول الشعراء) ولم ينته عنده, وهذا الكتاب كان وليد صراعات مختلفة ساعدت في بلورة خطابه, أشارت لذلك مقدمة الكتاب التي تكونت من خمسين صفحة، فابن سلام لوّح ضمنًا الى أن كتابه لم يكن مدفوعًا بدافع ذاتي شخصي فحسب, حفز رغبة التأليف فيه, بل كانت القضايا الكبرى شاغلًا مهمًا؛ القضايا التي تتعلق بالتراث العربي وماضي الأمة, وفضلًا عن أن بعض النقاد أشاروا الى أن موقف ابن سلام من حمّادٍ الراوية على سبيل المثال وامتداحه لخلف الأحمر جاء مدفوعًا باختلاف المدرستين اللتين ينتميان اليها, وقد أخذ الصراع داخل الخطاب النقدي لكتاب الطبقات أبعادًا ثلاثة, بعدًا شخصيًا يرتبط بذات الناقد ومحاولة إثبات قوة خطابه بوصفه خطابًا منهجيًا مؤسسًا لوعي جديد بالشعر ومحمولاته المعرفية, وهذا البعد ينتصر الى الناقد المختص, اذ سعى ابن سلام الى تأسيس وعي تخصصي بالشعر والتعاطي معه, وهو ما يلوّح - ضمنًا- الى أن تفشي الانتحال والوضع على الشعراء سببه غياب أو تغييب أهل التخصص في حقل المعرفة الشعرية, ويقول في ذلك : "وللشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم, كسائر أصناف العلم والصناعات " (ص٥)ولكن هذا الانحياز الى أهل الاختصاص صاحبه انحياز الى التوجّه الفكري الذي ينتمي إليه الناقد, وهنا يمكن أن نعدّ البعد الثاني مرتبطًا بصراع المدرستين الكوفية والبصرية , وأما البعد الأخير الذي يمكن التوقف عنده فهو البعد الأشمل, ويتجلى فيه دفاع الناقد عن أمته وتراثها الشعري, فإذا كان البعد الأول يثبت قدرة الناقد ويرسخ فرادته, فان البعد الأخير يؤكد على رابط الانتماء الحاضر بين الناقد وتراث قومه, وثمة دافع آخر قد حضر بشكل ما في الخطاب النقدي لابن سلام وهو الدافع العلمي الذي يحاول أن يروّض ذينك الدافعين ويقلل من حدتهما, وهو دافع ينتصر الى الخطاب وموضوعيته. بقي أن يشار الى أن البعد الذي يربط المؤلف بأمته, دافع من خلاله الناقد عن تلك الأمة وما تمتلكه من تراث ممتد؛ أي أن هذا البعد من الجدل ينتصر الى المتلقي العربي وتراثه, وهنا يمكن تلمس التوازن بين ذات الناقد والخطاب والمتلقي في نقد ابن سلام. وإن محاولة دفع الشعر المنحول والموضوع عن ذاك التراث كان مسعى لخلق تراث نقي, فقد رأى ابن سلام أن الشعر المنحول يتسم بصفات عدة لا تناسب قيمة التراث ولا تتماشى مع أهميته, منها أنه يطمس هوية التراث وخصوصية الزمن الثقافي الذي أنتجه, ويقول في ذلك:"وفي الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه, ولا حجة في عربية, ولا أدب يستفاد, ولا معنى يُستخرج, ولا مثل يُضرب, ولا مديح رائع, ولا هجاء مُقذع, ولا فخر مُعجِب, ولا نسيب مُستطرَف. وقد تداوله قومٌ من كتاب الى كتاب, لم يأخذوه عن أهل البادية, ولم يعرضوه على العلماء, وليس لأحد –إذا أجمع أهلُ العلم والرواية الصحيحة على إبطال شيء منه- أن يَقبل من صحيفة, ولا يُروى عن صُحُفيّ."(ص٤) ويحاول الناقد هنا ثني متلقيه عن الاستناد الى الثقة المفرطة بالشعر المروي, مبيناً فساد الرواة حيناً واحتيالهم على المتلقين أحياناً أخرى ومثال ذلك قوله: "أخبرني أبو عبيدة أن ابن داوود بن متمم بن نويرة, قدم البصرة في بعض ما يقدم له البدوي من الجلب والميرة, فنزل النحيت, فأتيته أنا وابن نوح العُطاردي, فسألناه عن شعر أبيه متمم, وقمنا له بحاجته وكفيناه ضيعته, فلما نفد شعر أبيه جعل يزيد في الأشعار ويصنعها لنا, وإذا كلام دون كلام متمم, وإذا هو يحتذي على كلامه, فيذكر المواضع التي ذكرها متمم, والوقائع التي شهدها. فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله"(ص٤٧-٤٨) وهذه المحاولة تحفيز لخلق متلق إشكالي يكون هو الآخر متلقيًا مخلصًا لبيئته الثقافية وتراثها, لا يركن الى ما يسمعه من شعر ولا يطمئن له من دون فحص وتمحيص واستشارة لأهل العلم والدراية، وهنا يحاول الناقد فرز الأزمنة الثقافية ومنع تداخلها, ليقف على خصوصية كل زمن ليكتشف رؤيتها, فحين يختلط الشعر المنحول بغيره تضيع على المتلقين فرصة اكتشاف (رؤية العالم) -كما يقول التكوينيون- التي يمتلكها شعراء ذاك الزمن؛ لأن الشعر الموضوع وإن حاول تقمّص الفضاء الجاهلي إلا أنه يمثل ثقافة الشاعر الذي نحله والبيئة التي ينتمي إليها, فهو يمثّل رؤية هجينة، و العاملان السابقان هما ما استند لهما ابن سلام وغيره من النقاد في فرز الشعر المنحول من الشعر الجاهلي. وبالتالي ان محاولة الناقد لتقديم صورة مشوهة للشعر المنحول لم تكن سوى جزء من مسعاه لفرز الأزمنة الثقافية التي اختلطت على النقاد في ظل هيمنة الوضع على الشعراء في الجاهلية والاسلام, وإذا كان هذا المسعى مرتبطًا بالزمن الثقافي الماضي, فقد حضر الى جانبه زمن ثقافي ينهض على الحاضر, الذي حاول عبره الناقد أن يتلمس خصوصية ذاك الزمن, ومن سمات الزمن الثقافي الحاضر الذي يريد تثبيته ضرورة ترسيخ ثقافة التخصص في البيئة العربية, فما انفرط عقده في الماضي يمكن لملمته استنادا الى وعي العلماء ودرايتهم, وهذا الوعي هو تحفيز لوعي مختلف, وعي يمكّن النقاد من القبض على الأزمنة الثقافية المختلفة ليتمكنوا عبر حاضرهم الواعي من تقديم الماضي نقيًا، والسعي خلف النقاء حفزته عوامل عدة منها محاولة تقعيد اللغة العربية ومشكلة النحل تشكل عائقًا أمام ذاك التقعيد.
_____________
- طبقات فحول الشعراء , ابن سلام الجمحي, تحقيق: محمود محمد شاكر, دار المدني- جدة, السفر الأول, د. ط, د.ت.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى