عبد الرزاق بوتمُزّار - أمّ يـاسر الشّهيـد.. قصّة قصيرة

وقفت مريام ترتجف وهي تُراقب جحافلَ الإسرائيليين يُداهمون القرية المسكينة وينتهكون حُرمةَ أهلها، مُوزِّعين عليهم رصاصاتهم دون حساب.
كانت مريام (يهودية مغربية حاربت إلى جانب الفلسطينيين) تقف وسط النساء، تُعايِنُ هذا الفصل المُروِّعَ لواحدة من أفظع المَجازر التي اقترفها الصّهاينة في حق هذا الشّعب المُسالم، الذي لم يرتكب من جرم يوماً عدا الدّفاع عن حقه المشروع في تحقيق مصيره.
كان مَن تَبَقوا من شُبّان القرية وصبيانها يستميتون في الدّفاع، رغم فقر إمكاناتهم. لا يُعيرون اهتماماً للموت الذي كان يُصَفِّر قرب آذانهم رصاصاتٍ غزيرةً، كأنها أمطار شيطانية! تساقَط الكثيرون وارتفعت صرخاتُ الأمّهات وزغرداتُهنّ الواثقة القويةُ، وكأنها وسيلةٌ لتحية المُستشهدين ومُبارَكتهم قبل التحاقهم بالعالم الآخر.
فجأةً، اندفع صبيٌّ صغير، مُمسكا بيده حجارة رمى بها أحدَالجنود وأصابه في وجهه. انطلقت الزّغاريدُ من الحناجر مُبارِكة. وضع الإسرائيليّ المُصاب يديْه على وجهه يتفقّد موقع الإصابة. وفيما الصّبي يعدو مُبتعداً، صوّب أحدُهم بندقيته الآليةَ نحوه وضغط على الزّناد، تاركاً رصاصةً قاتلةً تنطلق نحو ظهر الصبيّ المسكين. استقرّت الرّصاصة بين كتفَيْه وأْردتْه شهيداً في الحال. وجاءت الزغاريدُ كأنها غصّاتٌ أو أنّاتُ ألمٍ مخنوقة. ترقرقتْ دمعتان من عينَيْ مريام، وهي تنظر إلى أمّ الشهيد تُواصل إطلاق زغرداتها، رابطةَ الجأش أكثرَ من ذي قبل. أحسَّتْ مريام بالحقد يملأ جوانحَها. أرادتْ أن تقول شيئاً؛ أن تفعل شيئاً.. من أجل الصبي، الذي قتله هؤلاء الجُبناء أمام ناظرَيْ أمه. اتّجهتْ تعدو صوب "الجنود"، الذين وجّهوا بنادقهم نحوها، مُتحفّزين. كانت لحظةً خارج الزّمان والمكان. لفَّ الأرجاءَ السّكونُ وانْحبست الأنفاسُ تنتظر ما يكون من أمر هذه الفتاة، التي أمسكت بتلابيب الجنديّ القاتل وهي تصرُخ في وجهه وقد غسلت الدّموع خدّيْها. دفعها عنه بقوة، مُهدِّداً إياها بسلاحه فلم تجدْ إلا صراخها.. ودموعها، التي انطلقت كأنّها السّيل.
أحسّتْ بيد تهُزّها، برفق، من الخلف. استدارتْ. طالـَعَها وجهُ أمِّ ياسرَ، الصّارمُ. جذبتْها أمّ الشّهيد إليها وأخذتْها بين أحضانها. وقبل أن يتبلور السّؤال في ذهنها: "كيف لا تبكي، وهي أمه؟" سمعتْ أمَّ ياسر تهمس في أذنها: "يجب ألا تبكي، أبداً، بُنيّتي، أمام هؤلاء الأنذال.. لا يجب أن يرَوا ضعفَك أو يستشعروه.. إذا مات ياسرُ اليوم، فغداً أنجب سواه ليحلَّ محلَّه!"..
كان لكلماتها وقعٌ غريب عليها. أبعدتْ مريام أمَّ ياسر قليلاً عنها، وهي تنظر إلى عينيْها الواسعتين كالأفق المُمتدّ. كفكفتْ دموعها. عادت تحتضنها؛ تتعلّم منها حكمةَ الأجيال المُقاوِمة وتشتمُّ بين ثنايا جسدها المُهتزّ رائحةَ فلسطينَ الأسيرة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى