منى بنت حبراس السليمية - القصة النسوية القصيرة في سلطنة عمان

لا تروم هذه الورقة بعنوانها إقامة فصلٍ بين الكتابة القصصية الذكورية والكتابة القصصية الأنثوية؛ لأن صاحبتها ليست ممن يؤمنون باختلاف منطقة الإبداع التي يصدر عنها النص ما بين ذكر وأنثى – رغم استمرارية الجدل القديم الحديث القائم حول هذه القضية – أقول ذلك مع الإقرار بوجود الاختلاف على مستوى الثيمات، وزوايا التقاط الومضة القصصية، وخصوصية التفاصيل، وهي اختلافات توجد بين الكتاب عامة، كما أنها ليست اختلافات من قبيل المفاضلة، فكما أن ثمت كاتبا متواضعا، توجد في المقابل كاتبة مبدعة، فلم تزد الذكورة في إبداع الرجل عَظَمةً، ولم تنقص الأنوثة من قدرة صاحبتها على الكتابة المبدعة.

أقول، ليس همَ هذه الورقة إقامةُ هذا الفصل بين كتابة الجنسين، إلا أنني لحظت أن جل الدراسات والبحوث التي تناولت القصة القصيرة عامة، والقصة العمانية خاصة – وهي في غمرة احتفائها بالمنتج القصصي العام – تُضيِّع حق الأنثى في البحث والقراءة المتعمقة، وما ذلك إلا لأن الوفرة تنتصر للرجل دائما، وكلما ضاقت مساحة النصوص المقروءة ضاقت معها حقوق الكاتبة في أن تجد من يقرأ نتاجها نقدا فيفتح له آفاقا أبعد من حدود المسرود. ولمَّا وجدت ذلك حاصلا إلى حد ما في القطر الذي أنتمي إليه، آثرت أن أقصر هذه الوقفة على تجربة القصة النسوية القصيرة في سلطنة عمان.

وإذا كان لابد من رسم للمسار التاريخي الذي سلكته القصة النسوية العمانية، فيكفي أن نقول – وهو ما يدعو للدهشة حقا – بأن أول مجموعة قصصية عمانية صدرت في عام 1980 للقاص والروائي عبدالله الطائي المعنونة بـ"المغلغل"، ورغم هذه البداية المتأخرة للقصة العمانية –بمقارنتها مع مثيلاتها من أقطار الخليج العربي – فسنقف على حقيقة أخرى وهي أن الأمر احتاج إلى ثمانية عشر عاما بعد ذلك التاريخ حتى صدرت أول مجموعة قصصية لقاصة عمانية، كانت تلك خولة الظاهرية في مجموعتها القصصية "سبأ" التي صدرت في عام 1998م؛ لندرك أن عمر الإنتاج القصصي النسوي في عمان – المنشور ضمن مجموعات قصصية – لا يتجاوز ثلاثة عشر عاما، وهو عمر قصير جدا لدى مقارنته بما حققته القاصة في أقطار الخليج العربي، وبسبب من ذلك فقد كان الوقوف على إنتاج المرأة العمانية القصصي مستقلا، حييًِّا ومدمجا في البحث العام للقصة القصيرة العمانية أو الخليجية وربما العربية.

ورغم أن خولة الظاهرية أول من أصدرت مجموعة قصصية في عمان إلا أن بدايتها لم تكن بداية مما نعرفه عن كل البدايات التي غالبا ما تكون مكتنفة بشيء غير قليل من التعثر وعدم اكتمال النضج الفني، فقد كان مستوى كتابة القصة لديها جيدا من خلال تناولها للحدث القصصي والتعبير عنه بلغة أدبية رقيقة[2].

فقد وعت خولة الظاهرية المسؤولية الملقاة على عاتقها؛ لكونها المعبرة الأولى سردا بلسان الأنثى العمانية، فلم تغفل مضامينها عن "القضايا الاجتماعية وخاصة تلك التي تتعلق بالمرأة، كما [سيطر] على بعض قصصها رؤيتها الذاتية كأنثى، كما [لجأت] إلى الأسلوب الرمزي للتعبير عن رؤيتها القصصية وأفكارها التي لا تستطيع التعبير عنها مباشرة وبصراحة"[3]، وهي سمة طبيعية لازمت الأنثى طويلا، فما بالنا إذا كنا نتحدث عن القاصة الأولى التي تحتاج – لزاما – إلى شيء غير قليل من الشجاعة والجرأة وهي تخوض غمار التعبير عن هموم تاء التأنيث وهواجسها وأحلامها ورغباتها في ذلك القطر.

وينقضي القرن العشرون دون أن يسجل المشهد القصصي العماني – على صعيد المجموعات القصصية المنشورة – اسما نسائيا آخر يساند خولة الظاهرية – إذا استثنينا بدرية الشحية التي كتبت أول رواية ممهورة باسم كاتبة أنثى عمانية في العام 1999 حملت عنوان "الطواف حيث الجمر" – نقول باستثناء الشحية (روائيةً) بقيت خولة الظاهرية وحيدة[4] بين أسماء قاصين أسسوا أرضية القصة القصيرة العمانية في ظرف عشرين عاما منذ انطلاقتها، حتى كان آخرهم – قبل أن يدخل الزمان ألفيته الثالثة – سليمان المعمري في مجموعته "ربما لأنه رجل مهزوم" الصادرة في عام 2000م عن مؤسسة الانتشار العربي، التي أعطت مؤشرا يبشر بأن القرن الجديد سيشهد حركة سردية تحمل سمات فنية ومضامين من شأنها أن ترتقي بهذا الجنس الأدبي في السلطنة.

ومع بداية القرن الحادي والعشرين، نشطت الكتابة القصصية نشاطا ملحوظا، وتكاثرت الأسماء النسوية في مجال السرد، فعرف الوسط الثقافي أسماء نسائية عدة منها: جوخة الحارثية، وهدى الجهورية، وبشرى الوهيبية، ورحمة المغيزوية، ومريم النحوية، وفايزة اليعقوبية، وسميرة الخروصية، وفاطمة العبيدانية، وحنان المنذرية، وغيرهن ممن انتمين إلى الجيل التالي للجيل الذي أطلق عليه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي "جيل الجامعة"، الذي يبدو أنه أنتج شاعرات أكثر مما أنتج ساردات من الكاتبات اللائي تسنى لهن الالتحاق بجامعة السلطان قابوس – ومن ثم غيرها من مؤسسات التعليم العالي – التي فتحت الباب واسعا على مصراعيه أمام حركة الإبداع الأدبي في سلطنة عمان، من خلال ما رعته من أنشطة وفعاليات ومسابقات، وفرت المناخ الذي أسهم في ولادة أسماء كثيرة خرجت معظمها من عباءة جماعة الخليل للأدب التابعة لعمادة شؤون الطلاب بجامعة السلطان قابوس، حتى غدا الأمر كما عبر عنه الدكتور شبر الموسوي – في كتابه القصة القصيرة في عمان من عام 1970 وحتى عام 2000 – نقلا عن الأستاذ حفيظ الغساني: بأن "خريطة الإنتاج الفكري في عمان تشهد جيلا جديدا من المبدعين، وهو جيل الجامعة الذي نراه في المنتديات الثقافية والأمسيات الأدبية، ونقرأ له قصصا ودواوين ومقالات في الصحف والمجلات العمانية والعربية"[5] ورغم ذلك بدا أن الأنثى الساردة احتاجت إلى عقد كامل بعد الفوج الأول من مخرجات الجامعة حتى سجلت حضورها اللافت في عالم السرد القصصي بعد عام 2000.

عنيت هذه الورقة بالوقوف على التجربة النسوية العمانية في القصة القصيرة، من خلال معاينة عدد من المجموعات القصصية لكاتبات عمانيات، بغية الوصول إلى القواسم المشتركة التي حكمت إبداع المرأة العمانية – ومثلها الخليجية والعربية – فنا ومضمونا، لأن الأمر بالنسبة للإبداع الأنثوي – وكما عبرت عنه وجدان الصائغ في كتابها "شهرزاد وغواية السرد" – ينصهر في أي قطر في الإبداع الأنثوي العام، لأننا نستشعر "ابتعاد السرد الأنثوي العربي وبوعي جمالي حاد عن الإقليمية الضيقة وصيرورته بلورة إبداعية تضيء مواجع الأنوثة ومكابداتها في زمن محموم بالفضائيات واللافتات المستوردة والمرقشة بحقوق الإنسان وحرية الفرد وحوافر العولمة التي تمسخ الهوية وتطيح بالخصوصية الثقافية"[6]، ومن هذا المنطلق سنقترب من ماهية الهموم التي شغلت القاصة العمانية فجعلت منها مادة للقص، وأي تلك الهموم جاء مشتركا ومصورا للهم الأنثوي العام، وأيها تفردت به لوحدها، أو استأثر باهتمامها دون سواها بحكم الجغرافيا والبيئة والظروف والتاريخ وما إلى ذلك مما يحكم اختلاف التفاصيل والحيثيات من مكان لآخر، جاعلين السبيل إلى كل ذلك هو بحث العلاقة التي صورتها الكاتبة العمانية مع الآخر (الرجل) تحديدا بمختلف أشكاله كما سيرد بعد حين.

وستعتمد هذه الورقة – كما تقدم – على عدد من النماذج القصصية لثلاث قاصات عمانيات، هن:

1. جوخة الحارثية في مجموعتها "مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل" التي نالت بها المركز الثاني في جائزة الشارقة للإبداع العربي في عام 2000م، ومجموعتها الثانية "صبي على السطح" الصادرة عن دار أزمنة في عام 2007م[7].

2. وهدى حمد في مجموعتيها القصصيتين"نميمة مالحة" و"ليس بالضبط كما أريد" الصادرتين عن مؤسسة الانتشار العربي في عامي 2006م، و2009م على التوالي[8].

3. وبشرى خلفان الوهيبية في مجموعاتها "رفرفة" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عام 2004م[9].

وقبل الشروع في معاينة أشكال العلاقة مع الرجل كما تبدت في مجموعات القاصات الثلاث القصصية، وجب الوقوف على دلالات العناوين التي حملتها هذه المجموعات، فمجموعة بشرى خلفان المسماة "رفرفة"، المقدودة عنوانا من قصة قصيرة حملت العنوان نفسه، تدلل على الحاجة إلى التحليق والفكاك من الإسار الأرضي، وما ذلك الإسار في حقيقته إلا إسار الرجل، هذا إذا ما عرفنا أن القصة التي حملت هذا العنوان، تحكي معاناة فتاة زُوِجت صغيرة من رجل تخيلته العفريت الذي رسمت النساء الطلاسم في يدها لتبعده عنها[10]، وتبقى فكرة الرفرفة حاضرة في غير نص في المجموعة.

وبالعودة إلى العنوان الذي حملته هذه القصة "الآخذون" سنجد أن هؤلاء الآخذين ليسوا في النهاية سوى الرجال، فهم الذين تنبت لهم الأجنحة فقط، لأن الأجنحة لا تنبت للبنات – حسب قول الأم – وليكن بعد ذلك ما يكون المقصود بالأجنحة التي بالضرورة ليست سوى إشارة رمزية لمدلول أبعد وأعمق.

أما مجموعتا هدى حمد، فإن "نميمة مالحة" تشي بالوعي المؤنث الذي يصور النساء في قصص المجموعة ممارساتٍ لفعل النميمة الفارغة، بل المالحة، التي لا عزاء فيها إلا بفعل معاكس يخفف من حدتها، ذلك التخفيف الذي لا يتحقق إلا بأنثى أخرى تعي مسارب تخفيف الملوحة الطافحة في عالم الأنثى، أو برجل يحوِّل مسار الأمور إلى طعم آخر، ليس إلى الضد بالضرورة، بل قد يذهب بها باتجاه المرارة في معظم الأحايين وكما تصوره قصص المجموعة.

في حين أننا نجد "ليس بالضبط كما أريد" عنوانا ملبسا لمجموعة قصصية، فما الذي كانت تريده هدى ولم يتحقق بالشكل الذي أرادته؟ وما هو السقف الذي رسمته لآمالها فلم يتحقق كاملا؟ وأحسب أن هدى حمد قد تحايلت على القارئ بهذا العنوان، في محاولة منها لصد هجوم محتمل قد يتهم مجموعتها القصصية بعدم بلوغها المستوى المأمول بعد نجاح سابق، وكأنها تسارع لامتصاص القارئ بأن ليس هذا ما كنت أريده؛ مخففة من حدة ردة الفعل التي لم تحدث في المقابل، وعلينا أن ندرك أن قلق الكاتب من القارئ طبيعي مع الإصدار الثاني لاسيما إن حقق الإصدار الأول نجاحا صنع اسمه في المشهد الأدبي.

ورغم ذاك التبرير لعنوان ملبس، فقد حلا لي أن آخذ التأويل في اتجاه آخر، أجده أكثر اتساقا مع ما أرادته هذه الورقة منذ البدء، وهو أن هدى رسمت في مجموعتها صورا عدة للرجل، إلا أن هذا الرجل المتحقق سردا ليس هو ذاك الذي رسمه خيالها من قبل، وكأن الرجل الذي أرادته لعالمها القصصي متربع في عالم مثالي مهما حاولت تصوره ورسمه فإنه يبقى دون الرجل المثال.

ويبقى أن نشير – فيما يخص هدى حمد – إلى أنها لم تسعَ إلى اختيار عنوان لمجموعتيها من بين عناوين قصصها بداخل المجموعتين جريا وراء العادة، فجاءت عنونتها تعبيرا عن حالة عامة. عن وضع ساد معظم القصص المنضوية تحت العنوان الأكبر، فاتحة الباب أمام قضية مشتركة تضم المجموعة برمتها، فلتكن هم المرأة أولا، وهم المرأة ثانيا، وهم المرأة أخيرا.

أما جوخة الحارثية، فإن الأمر يختلف إلى حد ما، وذلك لأن عنوان مجموعتها "صبي على السطح" ابتعد عن تلك الخصوصية، ليكون ثمت صبي على السطح/ إشارة ذكورية، ومع ذلك سنجد أن وجود ذلك الصبي على السطح لم يكن إلا من أجل الأنثى كما تحكي القصة التي حملت هذا العنوان. في حين أن "مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل" وهي عنوان مجموعة مأخوذا من عنوان قصة أو مقاطع من سيرة لبنى بدءا من الأغاني الشعبية المغناة في العرس، انتهاء بلحظة الفراق القسري، رغم أنهما اختاراه في مرحلة ما، فجاء القدر أخيرا ليقول كلمته التي لا كلمة بعدها.

تنحصر أشكال علاقة المرأة الكاتبة/ البطلة/ الساردة/ الراوية مع الرجل في عدد من الأنماط التي بنتها القاصات الثلاث مع الآخر، وهي أنماط تتشابه إلى حد كبير حتى تكاد تنحصر في مجموعها في الآتي:

- صورة الرجل الند: التي تتجسد أنصع أشكالها في قصة "رهانات غير مأمونة تفتح للفضيحة عيونا" من مجموعة هدى حمد "نميمة مالحة"، تقول بطلة القصة وساردتها: "أذكر أنه قال لي ذات مرة إن الفتيات يبكين كثيرا حين تتسخ ملابسهن .. إنهن لا يشبهننا. أنا أشبهك يا (راشد) لن أبكي رغم أن أمي ستوبخني كثيرا .. سأبكي فقط لو خسرت رهاني معك..."[11] وقد دفعت بها الرغبة في أن تكون ندا للرجل إلى أن تلغي أنوثتها، حتى لا تخسر لحظة المساواة به والإحساس بالندية معه، فنقرؤها تقول: "اتفقت أنا وهي على أن نكون مثل (راشد) و(علي) و(ناصر) لا فرق .. سنلعب كرة القدم .. سنركض .. سنمشي بساقين مفتوحتين .. اتفقت وهي على أن نجز شعرنا خفية بالمقص الذي يجز به جدها صوف الخراف، وأن نهجر الدمى، وننام على الشاطئ وقت الظهيرة لنغدو داكنتين مثلهم .. لن يتفوق علينا (راشد) سنكسب الرهان"[12]، وإلى جانب هذا الحرص على عدم تفوق الرجل، ثمت إمعان في الاتجاه نحو أقصى ما يمكن من تحقيق الندية الحلم، تساويه بالقدر نفسه محاولات طمس كل ما يمت للنساء بصلة، تقول: "اتفقنا على أن لا نحمل كالنساء ذاكرة تكتظ بالأسرار"[13] حتى بدا أن المساواة الكاملة ممكنة، وقد تأتى ذلك باعتراف الآخر (الند) في لحظة ما، فراشد يقول معلقا على بكاء فضيلة: "لكن عليك أن تفرحي .. لقد تألمت كثيرا، ولكن عندما عدت مع والدي والدم يفور ساخنا بين قدمي زغردت النساء ورقص الرجال .. قدموا لي الخبز واللحم لأستعيد عافيتي بسرعة .. وشيوخ الحارة رشوا على رأسي القروش .. كان والدي مبتهجا وكانت الناس تهنئه .. ما أعرف ليش كأني كنت مريض وتعافيت .. والدي قاللي أني الحين صرت رجال"[14]، حتى إذا ما اطمأنت فضيلة إلى أنها في طريق المساواة الحلم انصدمت بواقع المجتمع الذي هدم حلما ظنته فضيلة وصديقتها الساردة حقيقة، عندما جاءت أم فضيلة باتجاهها مهرولة تقول: "الله يلعنك .. بتفتحي للفضيحة عيون"[15] ويرد عليها راشد: "حرام عليك .. البنت تعبانة .. أنا أبوي سوالي ذبيحة في طهوري، والناس عطوني فلوس كثيرة"[16] بيد أن هذا المنطق المحتج لم يكن سوى طفولة ساذجة لم تعِ بعد قانون المجتمع الذي يأبى أن يساوي بين جنسيه عندما صاحت أم فضيلة تعلِّم أولاد اليوم أبشع درس في التمييز بين الجنسين: "أنت ولد وطهورك يشرف الدنيا .. بس هذي بنت ما تجيب إلا الفضايح .. الله ياخذها وأرتاح من همها"[17] وقد جعلت هدى حمد صوت الساردة في موقف الراصد المنتمي إلى الطرف الأول (فضيلة) جنسا، إلا أنها بعيدة عن التجربة المباشرة التي عاشتها، لتصبح المسافة التي تقفها من فضيلة مساوية للمسافة التي تقفها من راشد، تقول معلقة: "لم أفهم شيئا البتة التفت لأبحث عن (راشد) ولكن هو الآخر اختفى أيضا دون أن أدري إن كان يلعب معي الغميضة أم إنه فر من أسئلتي الكثيرة"[18] لندرك أن هذه الأسئلة ما هي إلا أسئلة الكاتبة، الباحثة عن تفسير يبرر التمييز الواقع بين الجنسين، نازعة عن ساردة القصة وقوعها تحت التمييز الفعلي في الزمن السردي؛ مما أمكنها من إعطاء الصورة الفنية حقها دون الاضطرار إلى سرد الذات الذي يحتشد في كثير من الأحيان بالبكائية التي تطمس ولا تجلي، حتى أمكن البطلة أن تقول في ختام سردها: "و(فضيلة) باتت تشبه اسمها كثيرا لم تعد تخرج معي ولم تعد تجز شعرها .. شاهدتها ذات مرة تصنع دمية من الأقمشة والقش .. ومنذ أن قرصتها العجوز وهي تسير بساقين مقفلتين"[19] وتضيف: "وأنا لا شيء يطن في عالمي الصغير سوى صوت الخالة أم (فضيلة) وهي تصيح بغضب: الله يلعنك .. بتفتحي للفضيحة عيون"[20] فالمرأة هي المنتجة الحقيقية للثقافة الاجتماعية، وإن لم تكن كذلك فبسبب من وجودها تنتج تلك الثقافة، كما أنها في الوقت نفسه تمارس نوعا من الانتقام من نفسها، لأنها تسرب فكرة أفضلية الرجل عليها من خلال ما تمارسه من تمييز بين أبنائها الذكور والإناث[21]، والسبب في ذلك ما تورده بشرى الوهيبية في مجموعتها رفرفة، إذ تقول الساردة في قصة رفرفة مخاطبة ابنتها: "تمنيتك صبيا، قلت لو رزقني الله صبيا لهان البلاء، ولوجدت العزة بعد الذل، والأمن بعد الخوف"[22]

- صورة الرجل المتسلط: وهي صورة تكررت كثيرا في إبداع المرأة القصصي، حتى كانت شغلا تشتغل عليه المرأة الكاتبة في كل زمان ومكان، ويكفي لهذا أن ندلل بقصة "رفرفة" أيضا – التي وقفنا على عنوانها لنفهم تلك الرغبة العميقة في التحليق، والفكاك من إسار الرجل الأب، والرجل الزوج، فكلاهما تصورهما القصة كائنين متسلطين لم تعرف مشاعر الحنان إلى قلبيهما سبيلا، فتقول بطلة القصة مخاطبة ابنتها – وقد أرغمت الأم من قبل على الزواج ولما تزل طفلة بقرار نهائي من أبيها: "لم تحبي أباك قط، وكان هو عابس الوجه دائما، لم يحاول أن يداعبك، وأحيانا ينسى وجودك، لم تكن لديك فرصة لمعرفته فقد ذهب، أخذته سيارة في طريقها إلى الشمال فهلك. حاول أهلي إرجاعي إلى القرية فرفضت، تعللت بك، وبتجارة أبيك، كنت أعرف أننا إذا ما عدنا سيعودون إلى بيعي .. بيعنا"[23]

- صورة الرجل غير الفاعل: وليس أدل على ذلك من صورة الأب كما أوردتها جوخة الحارثية في قصة بعنوان "ريا" من مجموعتها القصصية "مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل" تقول: "ريا طال ريشها واكتشفت بعض الأشياء، قالت الجارات: "ريا صارت عروسا"، وهي تكنس الحوش وتنضحه بالماء أقعدتها بعض الآلام.. لكزها أبوها "بالباكورة": "ماذا بك؟" ريا تقول: "لا شيء .." وتنهض، فهذه الأشياء تقال للأمهات لا للآباء"[24]وهذي القناعة هي ما جعلت خاتمة القصة مفاجئة، كاسرة لأفق انتظار القارئ بما يصنعه من دهشة، إذ تقول: "ريا حمامة أو يمامة، تطير بالشهادة، تتضخم الأرقام في عينيها، تتحول سربا يشاركها الرقص في الفضاء الحميم، الفضاء لها ولسربها فقط، ولكن ريا نزلت إلى الأرض، والأرض لكل الناس، والناس لا يرقصون .. أغلقت ريا الباب الخشبي بإحكام.. شمرت ساعديها .. أعدت "طشت" الماء الدافئ والصابون، فرشت حصيرا من الخوص .. وبرفق سحبت إليه جسدا متخشبا، كومة من اللحم والعظام الخامدة تماما لولا أنفاس واهنة تتردد في صدرها، قلبتها ظهرا لبطن وبطنا لظهر، فركتها بالصابون بعناية، جففتها، ألبستها، ضفرت الشعر الأبيض، أحكمت اللحاف فوقه، دهنت الوجه الجامد بالفازلين، نشرت شهادتها أمام العينين الزائغتين .. همست: "ماه نجحت""[25]

- الرجل الحبيب: اتفقت معظم المجموعات المنتقاة على صورة الحبيب المشوشة حد اللبس أحيانا، فقد سرى يقين بأن الحب المكتمل أو الحب المنتهي بنهايات سعيدة يفسد فعل القص؛ لأن هذا الحب النمطي لم يعد يقدم جديدا، وإنما الجديد في محاولة الحب بمقاس لا يناسب المحب، فنتجت لدينا صورة الحبيب الذي لا يأتي، وصورة الحبيب غير المبالي، وصورة الحبيب الذي ما يلبت أن يأتي حتى يرحل، وصورة الحبيب الذي ليس حبيبا، فيصبح اختيار البديل ضرورة لا محيد عنها، في محاولة لرتق التجربة العاطفية بواقع اجتماعي أسلم ظاهرا إلا أنه مكتنف بالعذاب في الصميم.

وختاما، فإن الصور مجتمعة، تشترك مع الهم الأنثوي العام في خطوطها العريضة، ولكنها اختلفت في تفاصيلها التي تعكس وجها من الخصوصية المجتمعية الضيقة، وملابسات المكان والزمان وظروفهما، وهو ما يجعل الإبداع الأنثوي في قطر ما محلًّى بتلك المسحة المحلية التي ليست محاولة إدخال بعض المفردات العامية – كما رأينا مع هدى حمد في "رهانات غير مأمونة تفتح للفضية عيونا" – طريقها الأوحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ورقة قدمت في ملتقى الإمارات للإبداع الخليجي الثاني بإمارة الشارقة من 6 – 8 ديسمبر 2012م.

[2] انظر كتاب شبر الموسوي: القصة القصيرة في عمان من عام 1970 وحتى عام 2000، مسقط، وزارة التراث والثقافة، 2006م، ص70

[3] المرجع نفسه، ص70

[4] دون أن ننسى أن جوخة الحارثية قد فازت بالمركز الثاني في جائزة الشارقة للإبداع العربي – الدورة الرابعة 2000 في مجال القصة القصيرة، إلا أن مجموعتها الفائزة "مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل" رأت النور في عام 2001م.

[5] القصة القصيرة في عمان من عام 1970 وحى عام 2000، مرجع سابق، ص4

[6] وجدان الصائغ: شهرزاد وغواية السرد، قراءة في القصة والرواية الأنثوية، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008، ص9

[7] ولها إلى ذلك روايتاها "منامات" الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في عام 2004م ، و"سيدات القمر" الصادرة عن دار الآداب في 2010م، دون أن ننسى أن لجوخة الحارثية إسهاماتٍ في أدب الطفل أيضا.

[8] نالت من بعد جائزة الشارقة عن روايتها "الأشياء ليست في أماكنها" التي أصدرتها دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة في عام 2010م. وهما – جوخة وهدى – كاتبتان زاوجتا في إبداعهما السردي بين القصة القصيرة والرواية، وهو ما لم يحصل مع غيرهما من كاتبات القصة القصيرة في عمان – باستثناء أزهار أحمد الحارثية التي كتبت القصة القصيرة للأطفال، ثم أخرجت لنا روايتها الأولى "العصفور الأول" في عام 2010م – الأمر الذي سيكون له تأثيره على المستوى الفني الذي يعي اللحظات الفارقة بين الكتابة للقصة والكتابة للرواية.

[9] حصدت جائزة الجمعية العمانية للكتاب والأدباء عن مجموعتها "غبار". وبشرى رغم أنها لم تكتب الرواية كسابقتيها، بيد أنها اقتربت من تجربة كتابة النص المفتوح في مُؤلَّفِها "غبار"، يضاف إليه مجموعتها "صائد الفراشات الحزين" عن مؤسسة الانتشار العربي في عام 2010م.

[10] انظر بشرى خلفان: رفرفة، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004، ص62

[11] هدى الجهورية: نميمة مالحة، لبنان، مؤسسة الانتشار العربي، 2006، ص37

[12] نفسه، ص39 – 40

[13] نفسه، ص40

[14] نفسه، ص42

[15] نفسه، ص43

[16] نفسه، ص44

[17] نفسه، 44

[18] نفسه، ص44

[19] نفسه، ص45

[20] نفسه، ص45

[21] انظر مبحث "انتقام المرأة من نفسها" من رسالة: الطبيعة في الرواية العمانية (رسالة ماجستير غير منشورة)، منى بنت حبراس السليمية، جامعة السلطان قابوس، 2011م، ص108

[22] رفرفة، مرجع سابق، ص64

[23] رفرفة، مرجع سابق، ص64-65

[24] جوخة الحارثية: مقاطع من سيرة لبنى إذ آن الرحيل، الشارقة، إصدارات دائرة الثقافة والإعلام، 2001، ص20

[25] نفسه، ص20

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى