سيد الوكيل - المعنى الثقافي للضحك..

مهداة: إلى نور صلاح


هذا زائر يدخل منزلا لأول مرة، ويطلب منه صاحب المنزل أن يبقى في الحديقة ريثما ينتهي من ملابسه، الزائر يأخذه الفضول لتفقد الحديقة فراح يتجول فيها بحذر، هو لايدري أن طفلا يختبيء خلف الأشجار. يزحف على يدية وقدمية، ثم ينقض على قدمي الزائر مقلدا صوت كلب الحديقة، يصرخ الزائر مرتعبا، ويقفز بعيدا عن موضع الخطر، وعندما يلتفت خلفه يرى الطفل يضحك ببراءة، يتنبه الزائر لحظة ثم يبتسم وشيئا فشيئا يبدأ الضحك. ولكي يكتمل المشهد، يكون صاحب البيت قد نزل فعلا، وشاهد الموقف الأخير فضحك هو أيضا.

هذا موقف طريف، يمكن أن نشاهد مثله في برنامج الكاميرا الخفية، ويمكن لضحية الخدعة أن يشعر ببعض الحرج، ولكنه سيتخلى عن حرجه سريعا وسيشارك المذيع الضحك، ويوافق ـ بأريحية ـ على إذاعة المشهد.

موقف كهذا يمر علينا لطيفا، لكن رجال الفكر، الذين اعتادوا تحليل كل ظاهرة إنسانية، يجعلون منه موقفا لأسئلتهم: لماذا تقبل الزائر الخدعة ولم يشعر بالإهانة؟

ما الذي حدث ليتحول الموقف المثير للذعر إلى موقف مثير للضحك؟ كيف كانت العلاقة منعدمة بين الثلاثة قبل الموقف وكيف تحولت إلى ألفة بعده؟

ماذا يفعل الضحك فينا وكيف؟

الإجابة عن هكذا أسئلة ، يمكن أن تكون موضوعا لدراسات عديدة في فروع المعرفة المختلفة: علم النفس والاجتماع والفلسفة والأنثربولوجي … وهكذا، فالضحك يدخل في صميم التركيب الثقافي للبشرية.

الضحك غريزة إنسانية، سواء بمعناها المجازي الذي ينعكس على السلوك ويؤثر فيه، أو بمعناها الحقيقي الذي يجعله وقفا على البشر ولا نجده في غرائز الحيونات الأخرى. فإذا كان الضحك يأتي مصحوبا بالانفعال ( السرور والمرح ) كأي سلوك غريزي لدى الإنسان، إلا أنه يمر بعملية معقدة داخل المخ، تدخل فيها عوامل مكتسبة أيضا مثل التربية والثقافة والعادات المجتمعية، فهو يختلف بين المجتمعات والشعوب وفقا لدرجة تحضرها ومفاهيمها الثقافية، فالموقف الذي قد يثير الضحك في مجتمع ما، قد يقابل بالاستنكار في مجتمع آخر.

ومع أن الضحك غريزة فقد تمكن الإنسان من ترقيتها وتطويرها لتناسب تاريخ التطور البشري من البدائية إلى الحضارة والمدنية. وهذه القدرة على تهذيب الغرائز لدى الإنسان معروفة، وهى تتجلى بشكل واضح في الغريزة الجنسية، التي تحولت من مجرد دور وظيفي لحفظ النوع كما هو عند الحيوان إلى تجربة جمالية وإنسانية تحكمها الأعراف والتقاليد والعقائد، أى أنها انتقلت من المعنى الغريزى إلى المعني الثقافي.

فالذي كان يضحكنا في طفولتنا، ربما لا يضحكنا الآن. بما يعني أن الضحك، يحتمل درجة من الإدراك المعرفي والوعي وليس مجرد رد فعل غريزي إلا بقدر إدراكنا لعمق المفارقة الساخرة. أنت مثلا: لا يمكنك الضحك من رجل عجوز تنزلق قدماه ويسقط لأنك تفهم حجم مأساة الرجل، وتعرف أنها نفس المأساة التي تنتظرك في يوم ما. ولكنك قد تضحك، إذا رأيت شابا أنيقا يمشي بغرور ثم تنزلق قدماه. الضحك هنا فهم أيضا، ولكنه محمل بحجم المفارقة الساخرة بين غرور العقل وخيانة الجسد.

هذا المثال يدلنا على أن الضحك، وإن كان غريزة لكننا لا نصل إليه إلا عبر العقل. بمعنى أنه غريزة إنسانية لا يعرفها الحيوان لأن الغريزة عند الحيوان لا تتجاوز حدود المخ الجذعي ( مخ الزواحف) بينما الجنس البشري عبر مراحل تطوره وارتقائه، امتلك ما يسمى بالجهاز الحوفي، وهو حلقة وسيطة بين المخ الجذعي ( الغريزي) والمخ الأمامي المسئول على عمليات التحليل والتفكير. لكن الجهاز الحوفي ليس مجرد حلقة وسيطة، بل هو المسئول عن تكون العواطف والانفعالات والاستجابات الحسية. يرسلها كإشارات عصبية إلى المخ الأمامي ( الجبهي) حيث حيث يعمل على تحليلها وإكسابها معنى معرفيا. ويظهر هذا على نحو خاص في النكات التي تحتاج إلى درجة من الذكاء وقدرة على إيجاد علاقة معرفية بين مفردات مختلفة. ونورد مثالا على هذا النوع من النكات:

” جلس الرجل مع جاره يشكو له أن طفله نذير شؤم، فكلما نطق بسم احد من أفراد العائلة يموت. قال عمو، فمات عمه، قال جدو، فمات جده. قال خالتو فماتت خالته.

تردد الأب لحظة وقال: أنا خايف.. كل كام يوم ويقول بابا.

رد الجار بقلق: ربنا يستر.

بعد أسبوعين نطق الطفل : بابا.

فمات الجار.

زائر الحديقة مر ـ بداية ـ بانفعال غريزي انعكس في مظاهر الخوف الذي ينتاب الجسد الحي كآلية للدفاع مثل: القشعريرة والصراخ والقفز بعيدا عن مصدر الخطر مثله مثل أي حيوان.

لكن هذه المظاهر تهدأ بمجرد أن أدرك الزائر أن من يقف خلفة طفل لايمكن أن يكون مصدر خطر، عندئذ يبدأ عمل الجهاز الحوفي فتنشأ درجة من التعاطف مع الطفل والتفاعل مع الموقف كما يقصده الطفل. عندئذ يدرك أن ما فعله الطفل لا يستهدف إخافته أو السخرية منه، بل هي طريقة طفولية للترحيب بضيف يتجول في حديقة المنزل.

ويترتب على هذا أن الضحك، ليس مجرد انفعال غريزي، بقدر ماهو داخل في صميم الإنتاج المعرفي والفكري الذي عرفه تاريخ البشر، هو إذن مفهوم ثقافي، ومن ثم لاغرابة أن نجده ممثلا في المنظومة الثقافية المنتجة في مجتمع ما، ولا غرابة أن نجده ضالعا في صنوف الفن ولإبداع المختلفة لهذه المجتمعات. وكلما كانت الفنون الساخرة ذات مفهوم اجتماعي أوسع، نالت تفاعلا كبيرا من الجماهير.

لكن هذا التفاعل مرتبط بموقف المتلقي من موضوع السخرية وفق التحليل العقلي لها. فالنصوص الساخرة التي تكتبها ( نور صلاح ) عن فصيل الإخوان المسلمين وتابعيه، تبدو لهم سخيفة ومهينة فتصيبهم بالغضب. بينما يكون العكس صحيحا بالنسبة لمن يتفقون معها على الرغم من أنه نفس الموضوع ونفس الكتابة. وهذا معناه أن فنون الإضحاك تحتمل الإسقاط والتأويل مثل أي فن يبدو جادا وعميقا. لكن هذا- مثل أي فن أيضا – يحتاج إلى درجة من الذكاء الوجداني سواء في إنتاجه أو تلقيه.

سيد الوكيل


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى