أ. د. عادل الأسطة - أنا والجامعة : أبحاث فقيرة ٣٦ :

يفضي ما كتبته عن تدريس المساقات من غير المتخصصين بها ، وسنة التفرغ العلمي ، والتدريس الإضافي ، يفضي إلى الكتابة عن الفقر البحثي لدى كثير من أعضاء هيئة التدريس.
ولكي أكون موضوعيا فإن كتابتي هنا لا يمكن تعميمها على الكليات العلمية التي صلتي بأساتذتها وأبحاثهم ضعيفة ، لأنها ليست من مجال اختصاصي ، ولأن إلمامي بها إلمام قليل جدا ، وما أصغي إليه من زملاء لي في الكليات العلمية لا يمكنني من الكتابة كتابة خبير مطلع اطلاعا واسعا . إن ما يصدر عني من رأي هنا يكاد ينحصر بأساتذة كلية الآداب وكليات أخرى قريبة منها اطلعت أحيانا على نتاج قسم منهم.
لقد اطلعت على أبحاث زملاء عديدين وحكمت أبحاثا كثيرة جدا لمتخصصين في الأدب العربي ، وهالني ما فيها من ضعف في المنهج وفي جدة الموضوعات وفي الأسلوب.
أكثر أساتذة الأدب العربي يعانون من فقر شديد بالمناهج النقدية القديمة والحديثة ، وغالبا ما تصدر أبحاثهم متضمنة إشارة إلى منهج لا صلة للبحث به ، ونادرا ما قرأت بحثا أفاد فيه كاتبه من منهج محدد ألم الدارس به إلماما عاديا ، ولذلك فإنهم حين يذكرون المنهج يكتبون إنهم اتبعوا المنهج الوصفي التحليلي ، وبالكاد تجد دراسة واحدة طبق فيها المنهج الوضعي أو المنهج التاريخي أو المنهج الاجتماعي الماركسي أو المنهج النفسي أو المنهج البنيوي ، أو مقولة من مقولات هذه المناهج يتكيء الباحث عليها وهو يدرس أديبا ما أو موضوعا ما.
إن استيعاب المناهج النقدية وتمثل مقولاتها وجودة تطبيقها لا يقتصر على الأساتذة . إنه ينتقل منهم إلى طلابهم الذين يشرفون على رسائلهم ، وهذا ما لمسته وأنا أناقش رسائل الماجستير التي يشرفون عليها.
مرة ناقشت رسالة ماجستير كتب الطالب فيها إنه طبق المنهج التكاملي ، وعندما طلبت منه أن يعرف هذا المنهج ويبين لي مواضع تطبيقه لم يبن ولم يفصح جيدا . وثانية ناقشت طالبا ثانيا ذهب إلى أنه طبق المنهج التاريخي ، فلما سألته عن أصحاب هذا المنهج من الأوروبيين ومن طبقه من الدارسين العرب ، أجابني بصراحة مطلقة:
- والله يا أستاذ ذكرت المنهج دون أن أعرف عنه شيئا.
والملوم طبعا في هذه الحالة هو الأستاذ المشرف ، وعندما تعرف أن صلة الأخير بالمناهج ضعيفة تكرر " فاقد الشيء لا يعطيه".
لقد تعلمت ، في أثناء التدريس ، من ( ديكارت ) شيئا مهما هو ألا أكتب إلا عما أعرف ، وهذا ما أنصح به طلابي الذين أشرف عليهم . ولذلك أتوقف أمام المقدمة التي كتبها الطالب لدراسته مطولا ، وأناقشه فيما كتبه عن المنهج .
الفقر في الموضوعات يبدو في أبحاث الأساتذة أوضح ما يكون ، فهم لا يقرأون لتتشكل لديهم موضوعات جديدة ، عدا ما كتبته عن النقطة الأولى .
إن افتقارهم للمناهج النقدية يحول ببنهم وبين مقاربة الموضوعات المطروقة ، من قبل ، مقاربة مختلفة ، وهكذا لا يسد الإلمام المنهجي بالمناهج الحديثة الفقر المعرفي الناجم عن قلة القراءة.
إن قسما من رسائل الدكتوراه التي أنجزها بعض الأساتذة ليست إلا تكرارا لرسائل دكتوراه سابقة يهمل ذكرها لكي لا ينبه الدارس المشرف أو المناقش إليها.
وقد يسأل سائل :
- وكيف عرفت أنت بهذا ؟
والجواب هو أنني في أثناء تحكيمي الكثير عن الأبحاث كنت أبحث عن دراسات سابقة في الموضوع ، فأعرف.
كتب أستاذ دراسة دكتوراه في الأدب العباسي وأغفل الإشارة إلى رسالة دكتوراه أنجزت في الموضوع في جامعة مصرية ، وكان يفترض أن يشير إليها وإلى اختلاف دراسته عنها . وكتب أستاذ آخر بحثين ؛ واحدا عن الشاعر المصري أمل دنقل وثانيا عن القدس في روايات جبرا ابراهيم جبرا ، والموضوعان كتب فيهما ، ولم يذكر صاحب البحثين الدراسات السابقة ولم يأت بجديد ، بل إن ما كتبه لم يضف جديدا ولم يرق إلى ما كتب ، وكثير من أبحاث هذا الدارس لا تتكون من قراءاته وإنما من قراءة أبحاث غيره .
وقد يفاجأ قراء كثيرون أن عددا من الأبحاث التي ترقى عليها بعض الأساتذة هي أبحاث كتبوها وهم يدرسون الدكتوراه . لقد أعادوا نشرها في المجلات العلمية ليترقوا عليها دون أن يضيفوا إليها شيئا . إن ما قام به هؤلاء الدارسون قد يحتمل تفسيرات عديدة منها أن أبحاثهم وهم طلاب جيدة . هذا الاحتمال سرعان ما يتهاوى إذا عرفنا أن بعض محكمي الأبحاث ضعيفون وأنهم قد يكونون أصدقاء لصاحب البحث ، أو أنهم لا يقرأون البحث قراءة جيدة ، فمثلا في الأشهر الأخيرة حكمت بحثا حكمه محكم آخر ، وطلب فيه من صاحب البحث أن يجري تعديلات عليه ، وعندما أجرى قليلا من التعديلات أرسل البحث إلي ثانية لأنظر فيه ، وقد أرفق به رأي المحكم الثاني ، وهالني ما قرأت .
يذكر المحكم الثاني أن صاحب البحث لم يذكر المنهج الذي سار عليه صاحبه ، وصاحبه كتب في مقدمة دراسته أنه اتبع المنهج الوصفي التحليلي - المنهج الذي يكاد ، كما ذكرت ، لا يذكر في الدراسات منهج آخر غيره . لقد تيقنت أن المحكم الثاني لم يقرأ البحث جيدا.
ومن أطرف ما قرأت من دراسات دراسة كتبها صاحبها عن الشاعر علي الخليلي الذي تابعت نتاجه الأدبي منذ بداياته . وأنا أقرأ في الدراسة التي نشرت في موسوعة عن الأدب الفلسطيني لاحظت دراسة ديوان شعري لشاعر آخر تحتلف أشعاره كليا عن أشعار الخليلي ، ولما تشككت في الأمر ، فقد يكون الأمر غاب عن ذهني ، بحثت وتقصيت لأكتشف أن الديوان هو للشاعر علي الصح ، لا للشاعر الخليلي . وهنا يمكن الإتيان على سمة من سمات الباحثين وهي التسرع وعدم الدقة واللفلفلة . لفلفة في كتابة رسائلهم العلمية وفي كتابة أبحاثهم وفي إشرافهم أيضا.
هنا آتي على الموضوع الثالث وهو اللغة والأسلوب .
يفترض في دارس الأدب العربي المتخصص فيه أن يتقن العربية نحوا وصرفا وأسلوبا ، وللأسف فإن هناك قسما من الدارسين تحفل كتاباتهم بالركاكة في الأسلوب وبأخطاء نحوية وصرفية ، عدا عدم إتقانهم وضع علامات الترقيم جيدا ، وغالبا ما أقوم بتصحيح الأخطاء في هذه الدراسات .
مرة كتبت إن محكم البحث والمشرف على الرسالة - إن كان تحكيمه ممتازا وإشرافه كذلك - له من البحث والرسالة ما لا يقل عن عشرين بالمائة منها .
وغالبا ما أتساءل:
- كيف سيشرف كثير من الأساتذة على رسائل الدكتوراه ، وهم بحاجة إلى إعادة دكترة . لقد كتبت مرارا إن كثيرا من الدكاترة يحتاجون بالفعل إلى إعادة دكترة ، وحين كنت في ألمانيا الغربية أصغيت إلى محاضرة ألقتها ( فيبكة فالتر ) ، وهي مستشرقة جاءت إلى ألمانيا الغربية من ألمانيا الشرقية ، ليشهد لها زملاؤها بأن درجة الأستاذية التي نالتها من ألمانيا الشرقية درجة جديرة بحاملها تؤهله لأن يحاضر في جامعات ألمانيا الغربية.


٤ حزيران ٢٠٢٠



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى